965
0
الثقافة الجزائرية في سياق التحول
بقلم الدكتور عاشور فني
هذه أرضية للتفكير والعمل ومناقشة وضع الثقافة ومستقبلها لمن يملك الرغبة في ذلك
حضرنا لقاء لم نكن مدعوين اليه في سطيف في نهاية مارس 2022 فاقترح احد الفضلاء على الصديق كمال قرور القيام بمشروع ثقافي يبدأ بالتفكير الجماعي في الوضع. قدم بعض الحاضرين افكارهم. وهذه فكرتي. بعد ان قدمتها شفويا في المجلس دونتها وعمقتها وأرسلتها للعزيز كمال قرور كما كان الاقتراح منذ البداية
أرجو أن تكون في مستوى طموحات الثقافة الوطنية واحتياجاتها ومستوى تطلعات المثقفين الفاعلين لبلورة رؤية ثقافية جزائرية واضحة المعالم في ضوء قراءة الماضي وتحليل الحاضر واستشراف المستقبل من الكتاب والمثقفين والجامعيين الجزائريين الذين حضروا الجلسة: اليامين بن تومي ،محمد الأمين بحري ، الخير شوار ،كمال قرور .حسن خليفة، فيصل حصيد ،فيصل الأحمر ،جمال بلقاسم . وقد قدموا مساهمات ووعدوا بتحريرها وتقديمها مكتوبة. أرجو أن يتفضل كمال قرور بنشرها تباعا للمساهة في انقاذ النقاش من الابتذال وقبضة اصحاب النميمة وعقلية الطعن في كل من يتحرك او يقدم مبادرة.
الثقافة الجزائرية: في سياق التحول
نظرة عامة
تميز المجتمع الجزائري عبر تاريخه الطويل بسمات ثقافية أساسية طبعت مساره الإنساني المجيد، مشبعا بقيم التحرر والعدالة والإصرار على مواجهة أزمات الوجود عبر التحولات العالمية الكبرى. وفي هذه المرحلة من التحولات التى يعيشها العالم يجدر بنا أن ننظر بعين فاحصة لمحتوى هذه المرحلة ومقتضياتها من اجل استيعابها وتجازوها بأمان. فالتحولات الجارية عبر العالم بمشاركة القوى الدولية-ومنها القوى الناعمة والشبكات العالمية- تثير لدينا هاجسا كبيرا وهو إثبات حضور الجزائر في الساحة الثقافية العالمية للمساهمة في رسم ملامح المستقبل. ومن أجل ذلك لابد من نظرة فاحصة لوضعية الثقافة ومدى قدرتها على الحضور في الحياة الوطنية والاضطلاع بمسؤولية المستقبل.
ينبغي إجراء نظرة عامة على وضعية الثقافة الآن ووضعيتها في مراحل سابقة عبر أفق التحولات للوقوف على السمات الكبرى في بنية الثقافة أو في السياق العام الذي يؤطر النقاش الثقافي العام لاستخلاص الملامح العامة انطلاقا من ملاحظات عملية تجريبية ما أمكن مع اقتراح رؤية أولية لمشروع ثقافي وطني مستقبلي.
لقد كانت الثقافة في الجزائر قيما وسلوكات وأشكالا معيشية لا تنفصل عن حياة الجماعات والأفراد والمؤسسات عبر حقب طويلة من الزمن ولو في غياب الهياكل والمؤسسات المؤطرة سياسيا للثقافة أحيانا. هكذا كانت الثقافة عنصرا أساسيا في حركة المجتمع -وضحية لها أحيانا- عبر مراحل طويلة. قامت الثقافة الوطنية على أسس محلية تضمن تنوعها مع نزعة توحيدية قوية يحدوها هاجس مواجهة التحديات الوجودية الكبرى وضمان الامتداد في الفضاء والاستمرار عبر الزمن. وبهذه الروح أسست الثقافة الوطنية وجودها على أسس إبداعية متجددة يلعب فيها الخيال والإبداع دور المحرك رغم تعرض الذاكرة الثقافية للبتر والتغييب مرات عديدة. تكفي مراجعة النصوص الكبرى المؤسسة للمخيال الثقافي للوقوف على الثراء والتنوع والإبداعية العالية التي تميز بها المجتمع الجزائري.
ومنذ بداية الحركة الوطنية الحديثة- التي كانت استمرارا لتيار ثقافي واجتماعي ضارب في أعماق التاريخ- انخرط المجتمع بمؤسساته المدنية في حركية ثقافية عضدت التحرك السياسي من أجل التحرر والاستقلال وتحقيق قيم العدالة والانعتاق والكرامة الإنسانية. وكانت الثقافة الوطنية هي لب التفاعلات السياسية ومصدرا تستمد منه الحركة السياسية طاقتها في مراحل المقاومة ثم في مراحل الثورة والبناء الوطني.
وغداة الاستقلال تميزت الثقافة الجزائرية بطموحات وطنية وإنسانية بارزة طبعتها مساهمة الدولة وأجهزتها في تحويل الهياكل الموروثة عن الحقب السابقة وإرساء سياسية تنموية ثقافية لخدمة المجتمع عبر برامج طموحة. هكذا تحولت الثقافة من غلبة القيم الراسخة لدى الجماعات المشكلة للنسيج الاجتماعي إلى الأفق الوطني والإنساني العام الذي دشن البعد الحداثي للثقافة الوطنية مع الاحتفاظ بالأبعاد الاجتماعية والتاريخية. لقد ساهمت الثقافة في تغذية النقاش الوطني عبر الحركة الوطنية الحديثة لكن تراجع النقاش بعد ذلك، في مراحل أعطت الأسبقية للحركة على الفكرة- لضرورات عملية ربما-، أسس لتهميش الثقافة في العمل السياسي وأدى إلى تراجع البعد الوطني وتعميق الاختلافات المبنية على انعدام المعرفة وسوء الفهم أحيانا. وفي مرحلة التحولات العالمية الجارية ازدادت الثقافة أهمية بظهور دور متعاظم للقوى الناعمة في إحداث التحولات مع توسع الشبكات العالمية وتعاظم دور المجتمع المدني. فما هي أهم التحولات؟
أولا –رصد بعض التحولات في سمات الثقافة الوطنية
1-أولت الدولة أهمية معتبرة للثقافة في برامجها التنموية غداة الاستقلال استمرارا للممارسة الثقافية التي كانت تجري أثناء ثورة التحرير من خلال تجنيد المثقفين والمبدعين لخدمة القضية الوطنية.. وقد واصل كثير من المناضلين مسؤولياتهم ونشاطاتهم الإبداعية غداة الاستقلال. فالنشاطات التي كانت تجري في بدايات الاستقلال وحتى منتصف الثمانينيات كانت تؤطرها الدولة وتغطيها وسائل الإعلام الوطنية الرسمية بحضور مسؤولين ومناضلين سياسيين. فكانت الملتقيات والندوات تنظمها المؤسسات الرسمية ويشرف عليها الرسميون من الحزب الحاكم ووزارة الثقافة والإعلام واتحاد الكتاب وكانت الملتقيات تشرف عليها مؤسسات رسمية ويفتتحها الوزير ومحافظ الحزب والوالي وقائد القطاع العسكري. فالتأطير السياسي للثقافة كان عاليا. وكانت"النخبة الثقافية" آنذاك منقسمة على أساس لغوي وإيديولوجي : فرنكوفوني/معرب- ويسار/يمين. وكان "المشروع الوطني" واضحا سياسيا استمرارا للقضية الوطنية ويجري تنفيذه في مجالات مختلفة اقتصادية واجتماعية وتربوية وثقافية أيضا فكانت الثقافة أحد الاهتمامات الأساسية للسلطات العمومية في صورة قبول عام دون مناقشة التفاصيل ومع استبعاد التوجهات المتطرفة في هذا الاتجاه أو ذاك. وتمت استثمارات ضخمة في الهياكل وفي إصدار قوانين لتأطير الأنشطة الثقافية وإعداد الكوادر والميزانيات الضخمة التي يجري إدراجها ضمن ميزانية التنمية.
وإذا انتقلنا إلى الوضع حاليا نلاحظ، من جهة، أن النقاش الآن محدود ويدور بين نخبة مثقفة عبر فضاءات متنوعة منها شبكات التواصل الاجتماعي وبعض المنابر الإعلامية والثقافية في غياب الهياكل والمؤسسات الثقافية غالبا. ومن جهة أخرى، نجد أن المؤسسات منغلقة على نفسها في نشاطات رسمية يقوم بها المسؤولون الرسميون ولا تشارك فيها النخبة غالبا من حيث التصور والبرمجة والتنفيذ، مع درجة من الشكوك والاتهامات المتبادلة بين الطرفين: النخبة المثقفة والمسئولين الرسمين. مع الاستثناءات؛
2-أن النقاش الثقافي غداة الاستقلال كان يدور على أساس الولاء أو عدم الولاء للمبادئ السياسية المعلنة ومدى الاعتراف بشرعية السلطة القائمة. وقد تدرجت المسؤوليات الثقافية التي كانت ملقاة على عاتق الجيل الذي ساهم في الثورة أو عايش مراحلها إلى جيل جديد على أساس الولاء للخطاب السياسي الراهن. فتمت زحزحة الأجيال الأولى لصالح فئات صاعدة جديدة. هكذا حل جيل السبعينيات بهواجسه التحديثية –تدريجيا- محل الجيل الذي عايش الحركة الوطنية والثورة التحريرية والنقاشات التي رافقتها. وفي الأثناء ازدادت النزعات الثقافية صلابة وأصبحت تطالب صراحة بإعلان حضورها بأشكال متعددة. وكان النضال في رأينا يجري من أجل خلق مساحة حرية للممارسة الثقافية بعيدا عن هيمنة السياسيين.
وفي نفس المرحلة بدأت التوجهات الثقافية النضالية في اتجاهات عديدة تميزت بالنزعة الهوياتية من جهة والنزعة الاعتقادية من جهة أخرى. وعلى مدار العقود الموالية أصبح لهاتين النزعتين طموح سياسي ترتب عنه التباس الثقافي بالسياسي مما أدى إلى صعوبة النقاش الثقافي أصلا.
وإذا انتقلنا إلى الوضع الحالي نلاحظ هنا أن هناك نخبة ثقافية الآن همها الأساسي هو الثقافة فطموحاتها ثقافية أساسا وتعمل على فتح فضاءات للممارسة الثقافية بعيدا عن التجاذبات السياسية التقليدية.
3-استثمرت الدولة الجزائرية كثيرا في الهياكل الثقافية والتجهيزات المادية والتقنية وفي التأطير القانوني والتنظيمي للهياكل وللأنشطة الثقافية والفنية من خلال إنجاز دور الثقافة والمكتبات العمومية والمسارح والمتاحف والدوواين الثقافية على المستوى المركزي والمحلي (يضاف إليها هياكل الشباب والرياضة والسياحة والشؤون الدينية والتكوين والتربية والتعليم العالي) ثم من خلال تأسيس التظاهرات الثقافية قانونيا وتنظيميا بإنشاء المهرجانات الثقافية والفنية ورصد ميزانيات لها وتعيين محافظين يشرفون عليها حتى صار لكل المظاهر الثقافية مهرجان أو ديوان أو هيكل مخصص لها. لكن بالمقابل ظلت النخب الثقافية والفنية والأدبية بعيدا عن الساحة تلقي باللوم على الأجهزة والهياكل وأصبح لكل هيكل رواده ومعارضوه ومنتقدوه وأصبحت هناك بيروقراطية تدير هياكل ضخمة وميزانيات دسمة ولكن دون أثر ثقافي كبير لأنها في الغالب تعمل بطرق إدارية بطيئة لا تناسب حركة النشاط الثقافي المعاصر التي تقوم على مبدأ التدفق والشبكية والتنوع؛ كما أن طرق التسيير أحيانا لا تترك مجالا للمشاركة في النشاط ولا في البرمجة.
وإذا انتقلنا إلى الوضع الراهن نلاحظ اليوم بروز نخبة فاعلة من الناشطين الثقافيين الذين يقترحون برامج ثقافية متميزة فرديا أو جماعيا ويعملون على تحقيقها بطرق إبداعية وأحيانا بالشركة مع المؤسسات والهياكل الثقافية. برامج تحمل التنوع الإبداعي والثقافي وتطمح إلى تأسيس مشهد ثقافي مغاير.
4- كان المشروع الوطني واضحا سياسيا ويمتلك أدوات تحقيقه وفقا لرؤى تلك المراحل لكن المشروع الثقافي كان محدودا يقتصر على نقاشات حول اللغة والتربية والتعليم والبرنامج الفني والثقافي الذي يحمل الرسالة السياسية المهيمنة وهي ترسيخ دولة الاستقلال. كان الاستقلال السياسي هاجسا مهيمنا لكن الحرية الثقافية والفكرية -وهي شرطه الأساسي- ظلت مغيبة. هكذا بقيت أهداف المرحلة محدودة وبكفاءات محدودة مع اتفاق عام حول الرؤى واحترام متبادل بين المتحاورين والخصوم.
لكن الذي يجري الآن يبرز عدم وضوح أهداف المشروع السياسي وانعدام الإجماع العام حول كثير من القضايا في ظل وجود نخبة ثقافية وإبداعية عالية التكوين لكنها شديدة الانقسام تطرح أسئلة عميقة قادرة على خوض النقاش الثقافي وهي الضامن لحضور الجزائر الثقافي محليا وعربيا ودوليا، اليوم وغدا. وتظل الحرية هي الشرط الأساسي لنجاح أي مشروع ثقافي وطني.
5- كانت الساحة الثقافية تخضع لمركز وطني يوزع الأدوار ويراقب الحركة ويحرك الساحة بمختلف الأنشطة. كان للثقافة الوطنية إشعاع وطني من حيث وجود رموز وطنية فكرية وأدبية وفنية ذات صيت وبعد وطني ودولي وكان للجزائر حضور ثقافي عالمي بإبداع أصيل له امتداد في الواقع وفي التاريخ الثقافي الوطني وله سمة خاصة تميزه عن الثقافات الأخرى. وقد استطاعت بعض الأسماء اختراق الحدود المرسومة إعلاميا وسياسيا وفرضت نفسها على الساحة الثقافية محليا وعربيا وعالميا وهي تمثل رصيدا قويا للثقافة الوطنية أصبحت محل منافسة بين القوى الثقافية الفاعلة إقليميا ودوليا. فالموارد الرمزية التي لم تجد فرصتها على الساحة الوطنية وجدت طريقها إلى الساحة الدولية وشكلت نزيفا للقدرات الوطنية بسبب انغلاق الساحة الثقافية الوطنية. ناهيك عن مخاطر الاستغلال الخارجي لهذه القدرات في ظروف سوق دولية شرسة.
وأما الآن فالساحة الثقافية الوطنية تعرف تشتتا وانغلاقا يتجسد في انكفاء كل فئة إبداعية على نفسها في بيئة محلية مغلقة، وغياب الرموز الثقافية ذات البعد الوطني كما انحسر حضور الثقافة الوطنية ببعدها المتميز الأصيل رغم وجود كفاءات عالية سجلت حضروها وطنيا ودوليا.هذا الانغلاق المحلي في ظل الانفتاح على العالم أصبح هاجسا يثير القلق ويتطلب التحرك من أجل فتح أفق وطني للكفاءات الإبداعية الجزائرية. إن انفتاح الساحة الثقافية الوطنية شرط أساسي لأي مشروع ثقافي وطني.
6- كان للنخبة الثقافية الوطنية معرفة بالأشكال والممارسات الثقافية الوطنية والمحلية وتشبث بالمسار الوطني في كل أبعاده. هذا الجمع بين الجذور المحلية والهاجس الوطني كان يمثل رصيدا قويا للثقافة الوطنية.
أما اليوم فضعفت هذه المعرفة بالرصيد الثقافي الوطني وبالتنوع الكبير في واقع الثقافة الوطنية وانكفأت الساحات الثقافية على نفسها وازدادت الحدود بين الفاعلين الثقافيين في المجالات المختلفة: السينما والمسرح والأدب والتاريخ والفلسفة والشعر والموسيقى بحيث صارت كل فئة مكتفية بحيز ضيق تنشط فيه بعيدا عن الأشكال الثقافية الأخرى في ظل ضعف دور وسائل الإعلام الثقافي؛ فهاجس معرفة الثقافة الوطنية في كل أبعادها يحتاج إلى مزيد من الجهد.
7-كانت القدرات الإنتاجية للثقافة الجزائرية وفضاءات التوزيع محدودة وممركزة في مؤسسات تابعة للدولة مثل مؤسسات النشر والتوزيع ودواوين الثقافة والإعلام وبعض المسارح والمتاحف والقاعات السينمائية ودور الثقافة ودور الشباب. وعملت الدولة على زيادة هذه القدرات وتوزيعها جغرافيا.
وإذا انتقلنا إلى الوضع الراهن نجد أن التحول التكنولوجي أوجد فرصا جديدة للمنتجين والمبدعين سمحت لهم بامتلاك وسائل النشر والإبداع عبر الشبكات والنشر الإلكتروني، وهو ما مكن من ظهور قطاع واسع من الأنشطة الثقافية الجديدة. وقد يكون من نتائج ذلك نوع من "ديمقراطية" النشاط الثقافي ولامركزيته وظهور جيل جديد من الفاعلين الثقافيين ينبغي أخذهم في الحسبان. وقد ظهرت مبادرات عديدة لقيت استحسان الفاعلين الثقافيين منها المنتديات الثقافية والمؤتمرات والملتقيات الافتراضية المتنوعة. ومهما يكن فهذه فرصة جديدة للثقافة الجزائرية مع ما تتضمنه كل فرصة من مخاطر جديدة.
جملة هذه ملاحظات تبين:
أن المجتمع كان يملك أهدافا وتنظيما وربما لم يكن يملك الكفاءات الكافية ولا الوسائل بالقدر اللازم. الآن يملك المعرفة والكفاءة والوسائل ولكنه لا يملك أهدافا كافية لأنه أصبح يفتقر إلى الرؤية الشاملة والروح الدافعة والقوة الضابطة.
أن الثقافة الوطنية كانت تسير في ركاب مشروع وطني كان عليه نوع من الإجماع خلال فترات معينة، رغم التباين في وجهات النظر، وحين تم تعطيل المشروع الوطني تراجع دور الدولة في مجالات مختلفة منها الثقافة في الوقت الذي برزت فيه نخبة قادرة على حمل المشعل ومواصلة المسار إذا توفرت بعض الاشتراطات ضمن رؤية مستقبلية.
أن النخبة كانت مهيمنة على المؤسسات والهياكل الثقافية -على ضعفها- في مراحل معينة. وأن الهياكل والمؤسسات تعززت كثيرا ولكن في غياب النخبة المثقفة مما عزز نشوء نوع من البيروقراطية هيمنت على الساحة الثقافية وأفرغت الحركة الثقافية من محتواها الإبداعي والإنساني وأخضعتها لمنطق إداري محدود الفعالية.
كانت الثقافة الوطنية منفتحة على العالم في ظل الاستقطاب العالمي بين الشرق والغرب. أما الآن وقد انفتحت إمكانيات الساحة الدولية فقد انكفأت الثقافة الوطنية في الوقت الذي ارتفعت فيه كفاءة الجزائريين وتراكمت خبرتهم في الساحة العالمية في مختلف المجالات وانفتحت أمامهم فرص جديدة لخدمة الثقافة الوطنية.
ثانيا -رؤية أولية: استئناف مسار الثقافة الوطنية
هذه الملاحظات الأساسية تطرح جملة من الرؤى المستقبلية حول الوضع الثقافي الحالي ومآل الثقافة الوطنية مستقبلا:
1. أن الثقافة الوطنية كل لا يتجزأ؛ وعليه ينبغي أن تكون الساحة منفتحة على بعضها مع تجاوز الحدود المصطنعة بين الأشكال الثقافية والاهتمامات الخاصة بكل فئة كما تستوعب الأشكال المتميزة في مختلف أقاليم الثقافة الوطنية؛
2. أن مستقبل الثقافة الوطنية امتدادا للوضع الحالي تلعب فيه النخبة والمجتمع المدني دور الفاعل الأساسي وتلعب الهياكل الثقافية دور المرفق العام الضروري وفق سياسة ثقافية تشاركية يساهم فيها المثقفون والنخب الثقافية والفنية في وضع السياسية وفي تصميم البرامج وفي تنفيذها؛
3. أن تكون التحولات الحالية امتدادا لتاريخ ثقافي متواصل وممتد إلى مراحل سحيقة تستوحي التجارب السابقة وتستفيد من التيارات الفكرية كلها بعيدا عن التحيزات والإقصاءات؛ يقتضي ذلك بذل مزيد من الجهد لاستكشاف كل موارد الثقافة الوطنية وتثمين أشكالها غير المكتشفة حتى الآن.
4. أن يتم إعادة ترتيب الساحة الثقافة على أسس مبادئ واضحة: الشبكية (عدم الانفصال في المكان) والتدفق( عدم الانقطاع في الزمان) واللامركزية تكون فيها مراكز النشاط الثقافي موزعة حسب الخصوصيات الثقافية والفنية والتقنية لكل إقليم وحسب الاهتمامات الحقيقية للفاعلين الثقافيين؛
5. أن تتحول الأفكار إلى مشاريع عملية قابلة للحياة والاستمرار؛
6. تحيين الرؤية والتصور الخاص بالسياسات الثقافية والأدوات والوسائل الضرورية في خدمة المشروع الثقافي: إعداد سياسة تسويق ثقافي مع أدوات مانجمنت الثقافة: الرصد وجمع المعطيات الفعلية وتحليلها وتشخيص الوضع بدقة في كل مجال من مجالات الثقافة وتصميم الخطط ووضع ميزانيات وبرامج تنفيذية مع رصد الكفاءات والموارد البشرية الضرورية والاستفادة من شبكات الاتصال وإشراك وسائل الإعلام بعد تأهيلها لتكون في مستوى المشروع الثقافي؛
7. تصميم ورشات تكوين للكفاءات الثقافية الوطنية حسب مختلف الاهتمامات والتخصصات؛
8. 8-بناء رؤية مستقبلية جماعية إجماعية تقوم على المعرفة الحقيقية بالواقع الثقافي الوطني من جهة، ومن جهة أخرى، يقوم على حلم مشترك يوجه الجهود نحو غاية مشتركة وأهداف قابلة للتحقيق في المديين البعيد والقريب.
الخلاصة
تمر الجزائر بمرحلة تحول عميق في سياق تحول عالمي يستدعي النظر في الوضع الثقافي والفكري ورعايته واستخلاص مقتضياته من قبل النخبة الثقافية والفكرية ومشاركة الهياكل والمؤسسات الثقافية لضمان تحول آمن في ظل التهديدات والمخاطر العالية مع وجود فرص لمساهمة القوى الناعمة والشبكات والقيم الرمزية في تشكيل ملامح المستقبل محليا وعلى المستوى الوطني والعالمي.