55
0
الذكاء الاصطناعي والتراث المعماري الجزائري: رهانات، استخدامات وآفاق

بقلم : فيصل ساعد، معماري وعضو مؤسس لمؤسسة التراث والمدينة والعمارة
التراث المعماري الجزائري هو بمثابة كنز وطني حقيقي، يشهد على ثراء وتنوُّع الحضارات التي ميّزت البلاد عبر الأزمنة. من الآثار الرومانية في تيمقاد وجميلة إلى القصور الصحراوية، مروراً بالمدن العتيقة العثمانية والهندسة المعمارية الاستعمارية، كل صرح هو صفحة من التاريخ، وتأكيد للهوية، وتركيز للمعرفة المتوارثة.
في مواجهة التحوّلات السريعة في عصرنا، يبرُز الذكاء الاصطناعي كتقنية ذات إمكانات ثورية، بما في ذلك في مجالات حساسة مثل الثقافة والحفاظ على التراث. ويثير تطبيق الذكاء الاصطناعي في هذا القطاع تساؤلات حاسمة مع فتح آفاق جديدة لفهم هذا الإرث وحفظه وترميمه وتثمينه. لذلك فان التحديات متعددة – تقنية ومالية وأخلاقية ومجتمعية– لكن الهدف واضح: جعل الذكاء الاصطناعي حليفًا في خدمة الذاكرة المعمارية للجزائر.
ويشكّل إدماج الذكاء الاصطناعي في إدارة التراث المعماري الجزائري تحدّيًا كبيرًا، يشمل الحفاظ المادي على المباني وكذلك الطريقة التي يتفاعل بها المجتمع مع تاريخه. وفي هذا الاطار تقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي أدوات واعدة لتشخيص دقيق ومراقبة مستمرة لحالة الهياكل.
إن تحليل الصور بواسطة الذكاء الاصطناعي، لا سيما تلك التي يتم الحصول عليها بواسطة طائرات بدون طيار (درون)، يسمح بالكشف المبكر عن الشقوق أو التسربات أو التدهورات الأخرى غير المرئية للعين المجردة، وهي قدرة تزداد أهميتها بالنظر إلى أن العديد من المواقع التاريخية تتعرض لظروف مناخية قاسية وللتقادم. بالإضافة إلى مجرد الملاحظة، يمكن للذكاء الاصطناعي تغذية النماذج التنبؤية لتوقع التدهورات المحتملة المستقبلية، وبالتالي توجيه استراتيجيات الحفظ وتحسين تخطيط الترميمات. وبهذا الصدد تسهل مبادرات مثل تلك الموجودة في سطيف باستخدام الماسحات الضوئية ثلاثية الأبعاد المقترنة بالذكاء الاصطناعي انجاز عملية إنشاء نسخ رقمية دقيقة للمعالم، وهي قواعد أساسية للمتابعة والترميم.
كما يمكن للذكاء الاصطناعي أيضًا مساعدة الخبراء في اختيار مواد وتقنيات الترميم، من خلال تحليل المواد الأصلية ومحاكاة تأثير الخيارات المختلفة. ويعد التوثيق والأرشفة الرقمية، بفضل قواعد البيانات الذكية والنماذج ثلاثية الأبعاد الشاملة، أمرًا بالغ الأهمية لنقل هذا الإرث، وهو مبدأ تم التأكيد عليه بالفعل لتثمين المخطوطات في أدرار ويمكن تطبيقه على الهندسة المعمارية.
ويشكل التثمين والوساطة الثقافية مجال تطبيق رئيسي آخر، بحيث يتوفر الذكاء الاصطناعي على قدرة إحداث تحوُّل جذري في وصول الجمهور إلى التراث، بحيث يمكن أن يوفر إنشاء تجارب غامرة مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزّز زيارات لمواقع يتعذر الوصول إليها أو إعادة بناء المباني المفقودة. إن الاهتمام بهذه التقنيات واضح، كما يتبيّن من التجارب في ولاية سطيف بالجزائر.
وعلى صعيد آخر يمكن للذكاء الاصطناعي أيضًا تخصيص مسارات الزيارة والمحتوى التعليمي، إذ يمكن لتطبيقات الهاتف المحمول توفير معلومات سياقية غنية، أو روايات تاريخية ملائمة، أو حتى الإجابة على أسئلة الزوار عبر وكلاء المحادثة. إن إعادة البناء الافتراضي للمواقع التاريخية، مثل القصبات القديمة أو الآثار الرومانية في حالتها الأصلية، من شأنه أن يسمح بفهم أعمق للتاريخ المعماري والغوص فيه. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي تسهيل ترجمة وتفسير النقوش القديمة، مما يجعل تناول التراث أكثر سهولة على الصعيد الدولي.
أما على الصعيد العلمي، فيفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لدراسة التراث المعماري. يمكن لقدرته على تحليل مجموعات كبيرة من البيانات – مخططات أرشيفية، وصور القديمة، ومسوحات معمارية، ونصوص تاريخية – أن تكشف عن معلومات غير مسبوقة، وتساعد في تحديد الأساليب، وتتبُّع التأثيرات الثقافية، وفهم التطور الحضري. ويمكن لخوارزميات التعلُّم الآلي أن تساعد علماء الآثار ومؤرخي الفن في تأريخ وتوثيق المباني.
ومع ذلك، فإن إدخال الذكاء الاصطناعي يثير أيضًا قضايا أخلاقية ومجتمعية.، إذ تُعد إمكانية الوصول إلى البيانات الرقمية وأدوات الذكاء الاصطناعي أمرًا بالغ الأهمية لتجنب الفجوة الرقمية، ومن ثمة فان تدريب المهنيين في مجال التراث أمر لا غنى عنه. ويجب أيضًا منع مخاطر التوحيد القياسي أو فقدان الأصالة في الترميمات بمساعدة الذكاء الاصطناعي، بحيث يجب أن يشمل القرار النهائي دائمًا الخبرة البشرية والتفكير الأخلاقي، كما تجب معالجة مسألة الملكية الفكرية للنماذج والخوارزميات المطورة للتراث الجزائري، وكذلك حماية البيانات التراثية الحساسة، مع احترام السيادة الوطنية، وهو جانب تم التطرق إليه بالفعل خلال الاجتماعات حول تأمين التراث الثقافي. وبالتالي، فإن النهج المتوازن الذي يجمع بين التقدم التكنولوجي والخبرة البشرية والوعي الأخلاقي أمر ضروري.
إن تطبيق الذكاء الاصطناعي على التراث المعماري الجزائري، على الرغم من أنه لا يزال استكشافيًا في بعض النواحي، إلا أنه بدأ يتجسد من خلال مبادرات محلية ويفتح مجالًا واسعًا من الإمكانيات. وتركز الاستخدامات الحالية على الرقمنة والتوثيق والتجارب الأولى في الوساطة. ففي سطيف مثلا، يسمح استخدام الماسحات الضوئية ثلاثية الأبعاد والتصوير الفوتوغراميتري والذكاء الاصطناعي لرقمنة عناصر التراث، مثل الحمامات الرومانية، بإنشاء نسخ رقمية دقيقة. هذه النماذج ثلاثية الأبعاد ضرورية للتوثيق والدراسة والترميم، حيث يتدخل الذكاء الاصطناعي في معالجة البيانات وتحديد الخصائص أو التدهورات. وبالمثل، فإن الجهود المبذولة في أدرار لتثمين المخطوطات عبر الذكاء الاصطناعي، بمبادئ الرقمنة والفهرسة الذكية، قابلة للتطبيق على التوثيق المعماري، لا سيما لتحليل المخططات القديمة أو النقوش.
وتُظهر المؤسسات الأكاديمية، مثل المدرسة المتعددة التقنيات للهندسة المعمارية والتعمير بالجزائر العاصمة، اهتمامًا بهذه التطبيقات، من خلال أعمال بحثية حول عمليات المحاكاة أو التحليلات الهيكلية بمساعدة الذكاء الاصطناعي. وبدأ استخدام الطائرات بدون طيار للفحص البصري، إلى جانب تحليل الصور، في الانتشار، على الرغم من أن الأمثلة الموثقة خصيصًا للجزائر لا تزال محدودة. كما أن المحاولات الأولى في الواقع الافتراضي والواقع المعزز للوساطة الثقافية، كما في سطيف، جديرة بالملاحظة، حتى لو لم يتم نشرها على نطاق واسع بعد.
بالإضافة إلى هذه التطبيقات، فإن إمكانات الذكاء الاصطناعي هائلة، بحيث يمكن أن يؤدي تطوير منصات تعاونية ذكية إلى مركزية البيانات الرقمية وأدوات التحليل، مما يسهل العمل متعدد التخصصات واتخاذ القرارات المستنيرة للحفظ. ويمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي حاسمًا للصيانة التنبؤية وإدارة المخاطر، مع أنظمة إنذار مبكر تغذيها أجهزة استشعار وتُحلّل البيانات في الوقت الفعلي لتوقع التدهورات أو التهديدات. وفي مجال الترميم، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في إعادة البناء الافتراضي للأجزاء المفقودة من المباني، وتوجيه اختيار المواد والتقنيات المتوافقة مع الأصالة التاريخية، واقتراح مشاريع إعادة بناء محترمة. ويمكن للتحليل الدلالي للوثائق الأرشيفية بواسطة الذكاء الاصطناعي استخلاص معلومات قيّمة من النصوص القديمة، مما يثري المعرفة التاريخية.
وبالنسبة للوساطة الثقافية، يمكن لوكلاء المحادثة المتخصصين جعل المعلومات أكثر تفاعلية، ويمكن لتطبيقات الواقع المعزّز الأكثر تطوراً تصور عصور مختلفة للمبنى أو مشاهد الحياة المعاد بناؤها. ويمكن للذكاء الاصطناعي أيضًا إنشاء مسارات زيارة ديناميكية وشخصية، أو إنشاء محتوى تعليمي متعدّد اللّغات. وأخيرًا، يمكن أن يساهم في فهم أفضل للديناميكيات الحضرية التاريخية من خلال تحليل الخرائط القديمة والبيانات الديموغرافية لنمذجة تطور المدن.