1286
0
الصحافة الورقية في الجزائر... بين رائحة الحبر ووهج الشاشات

صبيحة هذا الأربعاء، المصادف للثاني والعشرين من أكتوبر، اليوم الوطني للصحافة، لم تكن وجهتي إلى تلك القاعات التي تكتظ بالزملاء الصحافيين، بين كلمات التكريم وصور الإحتفاء المعتادة، بل قررت أن أحتفل على طريقتي. كان الشاي بالنعناع في قاعة "عاشور" بالقطب العمراني حملة 1 – أحد أكبر التجمعات السكنية في بلدية باتنة – هو بوصلتي. أردت أن أترك ضوضاء الميكروفونات جانباً وأبحث عن معنى الصحافة في حياة الناس، بعيداً عن المنصات الرسمية.
استطلاع:ضياء الدين سعداوي
مع دخولي القاعة، استوقفتني لوحة بشرية بسيطة لكنها عميقة الدلالة: رجلان يجلسان في زاوية شبه معزولة، أحدهما يحمل جريدة يتصفحها بعينين غارقتين في التأمل، والآخر ممسك بقلم أسود، منهمك في حل الكلمات المتقاطعة على صفحات جريدة متخصصة في التسلية. مشهد بدا وكأنه قادم من زمن آخر. في عصر تقلب فيه الأخبار بإصبع على شاشة هاتف، بدت تلك الأوراق بين أيدي الرجلين كأثر من الماضي، يحمل عبق الحبر ورائحة الصباحات القديمة.

اقتربت وجلست غير بعيد عنهما. لم يبد عليهما الحرج، بل رحبا بي بابتسامة صامتة، بينما كان بخار الشاي يتصاعد بيننا كخيط دافئ من الحنين.
ذاكرة الحبر...
قدمني الرجل الأول لنفسه قائلاً: "محمد ڨلوح، معلم ومدير مدرسة متقاعد"، يبلغ من العمر نحو ثمانين عاماً. كان يمسك بقلمه بثقة المعتاد، يملأ مربعات الكلمات المتقاطعة الواحدة تلو الأخرى. سألته: "هل ما زلت تقرأ الجريدة بانتظام؟"أجاب مبتسماً: "مطالعة الجريدة عادة لازمتني منذ أربعين عاماً.

لكن اليوم أصبحت المهمة صعبة. هنا في حملة 1، توقفت الأكشاك عن جلب الجرائد ، ما يضطرني للذهاب إلى وسط المدينة كي أقتني نسختي اليومية." ثم أضاف وهو يرفع رأسه عن الجريدة قليلاً: "أبدأ القراءة بالعناوين، ثم أنتقل مباشرة إلى حل الكلمات المتقاطعة والسهمية، فهي تساعدني على تنشيط ذهني والحفاظ على رصيدي اللغوي. الصفحة الأخيرة هي المفضلة لدي، خصوصاً الكاريكاتير. أتذكر رسماً هزلياً أيام مجازر صبرا وشاتيلا، حيث يقول أحد الشخصيات لصاحبه: يجب أن نذهب لمحاربة اليهود، فيجيبه الآخر: أي يهود؟ الذين يعيشون معنا هنا أم أولئك الذين هناك؟"،ضحك محمد قليلاً وهو يستعيد المشهد من ذاكرته، ثم تابع بنبرة تأملية: "الكاريكاتير كان يقول أكثر مما تقوله المقالات السياسية، والجريدة كانت صديقتنا اليومية، لا نبدأ صباحنا دونها."
جيل الورق الأخير
إلى جانبه جلس إبراهيم درغال، أستاذ متقاعد في العقد السادس من عمره. كان أكثر هدوءاً وتأملاً، يطالع الجريدة بتركيز من يقرأ النصوص لا الأخبار. قال لي بعد لحظات من الصمت:"قلما تجد اليوم كشكا يبيع الجرائد. لقد بدأت في الزوال من المشهد. حتى الأكشاك القديمة تحولت إلى نقاط لبيع بطاقات التعبئة والسجائر والحلوى و مواد التجميل و العطور، أما الصحف فلم تعد تجد مكانها بينها."
سألته عن سبب تمسّكه بالجريدة رغم كل شيء، فأجاب:"أنا لا أقتنيها من أجل الأخبار، فهي قديمة أصلاً. عندما تصل الجريدة إلى الأكشاك، تكون مواقع التواصل الإجتماعي قد بثت الحدث بالصوت والصورة والتحليل. ما يهمني هو المقالات الرصينة، مقالات الرأي والتحليل السياسي والثقافي. أهوى قراءة الأعمدة، فيها فكر وعمق لا توفره الخوارزميات." ثم أضاف مبتسماً: "ربما نحن الجيل الأخير الذي يعرف طقوس قراءة الجريدة، من فنجان القهوة إلى طي الصفحة الرابعة و العشرين بعناية."
الصحافة الورقية... مرآة زمن تغير
من بين المتواجدين في القاعة، كان هناك زميل صحافي يعمل في جريدة محلية، فضل أن لا أذكر إسمه. تحدث إلينا وهو يرتشف الشاي ببطء: "الجرائد الورقية في باتنة تكاد تختفي. توزيعنا اليومي تقلص إلى أقل من ربع ما كان عليه قبل عشر سنوات. عدد الأكشاك التي تبيع الجرائد في المدينة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، أما البلديات المجاورة فلا تصلها الجريدة أصلاً."سألته عن السبب، فقال: "التحول الرقمي غير كل شيء. الناس تريد الخبر الآن، في لحظته، وبشكل مجاني. الجريدة الورقية، مهما كانت جودة محتواها، لا تستطيع مجاراة سرعة الفضاء الرقمي. أضف إلى ذلك كلفة الطباعة والتوزيع، وارتفاع أسعار الورق، وانحسار الإشهار العمومي الذي كان شريان حياتنا."
من قاعة الشاي إلى معضلة المهنة
تأملت المشهد في قاعة الشاي: رجلان متقاعدان وصحافي شاب، ثلاثتهم يجلسون حول طاولة واحدة، كأنهم يمثلون ثلاثة أجيال من العلاقة مع الصحافة. الأول يعيشها عادة يومية متوارثة، الثاني يقرؤها بوصفها متعة فكرية، والثالث يكتبها ويكافح للبقاء في مهنة تتآكل تحت ضربات التكنولوجيا.
هذا التعايش بين الورق والشاشة يعكس مأزق الصحافة الورقية في الجزائر، كما في العالم. فبينما تحاول المؤسسات الإعلامية التقليدية اللحاق بالركب الرقمي، يفقد الورق مكانته كوسيلة رئيسية لتداول المعلومة. لكن السؤال الأعمق يظل: هل انتهت الصحافة الورقية فعلاً؟ أم أنها بصدد التحول إلى شكل آخر من الوجود؟
التحول الرقمي... واقع لا مهرب منه
بحسب أرقام غير رسمية من قطاع الإتصال، تراجعت معدلات توزيع الصحف الوطنية خلال السنوات الأخيرة بأكثر من 70%، في حين ارتفعت نسب متابعة المواقع الإلكترونية الإخبارية والمنصات الرقمية إلى مستويات قياسية.
يومياً يستهلك الجزائري ما معدله ساعتان إلى ثلاث ساعات من الأخبار عبر فيسبوك وتيك توك ويوتيوب، بينما لا تتعدى مبيعات بعض الجرائد الورقية ألف نسخة في اليوم في مجموع مبيعاتها عبر ولايات الوطن.
وفي المقابل، انتقلت أغلب المؤسسات الصحفية الكبرى إلى النشر الرقمي، بعضها تخلى كلياً عن النسخة الورقية. غير أن هذا التحول لم يكن سلساً، إذ واجهت الصحف تحديات تتعلق بضعف العائدات الإعلانية الرقمية، وصعوبة التكيف مع خوارزميات المنصات، وتراجع جودة المحتوى لصالح السرعة والإنتشار.
الورق كذاكرة... والرقمنة كقدر
يقول الإعلامي والكاتب الجزائري المعروف أحميدة عياشي في أحد مقالاته إن "الصحافة الورقية ليست مجرد ناقل للأخبار، بل ذاكرة جماعية للأمة، تحفظ أسلوبها في التفكير وصورتها عن ذاتها".
هذا البعد الثقافي والتاريخي يجعل من الصحف الورقية أكثر من مجرد وسيلة إعلامية، فهي سجل لروح الزمن، ومرجع للباحثين والمؤرخين، ومختبر للأفكار.
غير أن التحولات التكنولوجية المتسارعة تفرض واقعاً جديداً. فالقارئ المعاصر لم يعد ينتظر الصحيفة في الصباح، بل يصحو على سيل من الإشعارات والأخبار الفورية. الصحافة أصبحت تجربة لحظية، تفاعلية، ومفتوحة للجميع.
أزمة ثقة... لا أزمة ورق فقط
يشير بعض المحللين إلى أن تراجع الصحافة الورقية لا يرتبط فقط بالتحول الرقمي، بل أيضاً بأزمة الثقة بين القارئ ووسائل الإعلام التقليدية.
فالكثير من الجزائريين يرون أن الجرائد فقدت استقلاليتها التحريرية، وأنها لم تعد تنقل الحقيقة كما هي، بل ما يسمح لها بنقله. هذه الفجوة بين الصحافة والجمهور دفعت كثيرين إلى البحث عن مصادر بديلة – حتى وإن كانت غير موثوقة – عبر الشبكات الإجتماعية.
ومع ذلك، تبقى هناك فئة من القراء المثقفين والباحثين الذين ما زالوا يرون في الجريدة مصدراً موثوقاً ومرجعاً محفوظاً. هؤلاء لا يقرأونها بحثاً عن جديد، بل عن معنى.
في اليوم الوطني للصحافة... من يحتفل بمن؟
في هذا اليوم، تنظم ندوات وتلقى كلمات وتوزع جوائز. لكن في قاعة "عاشور" الصغيرة، بدا لي أن الإحتفال الحقيقي كان هنا: بين رجلين عجوزين وصحافي شاب ما زال يؤمن بأن للكلمة الورقية سحراً لا يمحى.
محمد ڨلوح، الذي اعتاد على حل الكلمات المتقاطعة كل صباح، قال لي وهو يطوي جريدته:"ربما لن تبقى الجريدة طويلاً، لكن لا شيء يمكن أن يعوض ملمس الورق، ولا تلك المتعة حين تسمع خشخشة الصفحات."
أما إبراهيم، فأنهى حديثه بجملة تصلح أن تكتب على آخر صفحة في آخر عدد من أي صحيفة: "الصحافة ليست ورقاً ولا شاشة، إنها ضمير يقظ، طالما بقي فينا هذا الضمير ستبقى الصحافة حية."
الشاي البارد ودفء الحكاية
غادرت القاعة بعد أن برد الشاي على الطاولة، لكن حرارة النقاش بقيت في ذهني. كان هذا اللقاء البسيط أكثر صدقاً من كل خطابات اليوم الوطني.
في تلك الزاوية الصغيرة من مدينة باتنة، وجدت صورة مصغرة لعالم يتغير: بين جيل يحفظ طقوس الورق كأنها صلاة الفجر، وجيل يعيش إيقاع الشاشة السريع، تقف الصحافة في المنتصف، تبحث عن توازن جديد بين الأصالة والحداثة، بين الحبر والرقمنة.
وربما، كما قال أحد الرواد القدامى للمهنة، "لن تموت الصحافة الورقية، لكنها ستتغير شكلها فقط، مثلما تغير الحبر لونه، وبقي أثره لا يمحى."


