518

0

الصحافة الإلكترونية في الجزائر بين آفاق الإصلاح ورهانات الواقع

بقلم: الحاج بن معمر

تشهد الجزائر اليوم تحوّلاً متسارعاً في مشهدها الإعلامي، إذ يعيش قطاع الصحافة والإعلام مرحلة مفصلية تتقاطع فيها الطموحات بالإصلاحات مع التحديات المتعددة التي يفرضها الواقع. فالصحافة الجزائرية، على اختلاف منابرها الورقية والمرئية والإذاعية والإلكترونية، تمرّ بمرحلة إعادة تشكيل شاملة في ظل التحولات التكنولوجية المتسارعة التي جعلت من الإعلام الرقمي لاعباً رئيسياً في تشكيل الرأي العام وصناعة الوعي الجمعي.

غير أن هذا الواقع المتشابك لا يمكن فصله عن التوجهات الجديدة التي يقودها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، الذي جعل من ترقية العمل الصحفي والاتصال المؤسساتي ركيزة أساسية في مسار بناء "الجزائر الجديدة"، مؤكداً مراراً على أن إعلاماً حرّاً ومسؤولاً هو شرط ضروري لبناء دولة حديثة، عادلة وشفافة.

 

لقد اتخذ الرئيس تبون منذ بداية عهدته خطوات ملموسة في سبيل دعم الإعلام الوطني، حيث دعا إلى بناء منظومة إعلامية مهنية تُعلي من شأن أخلاقيات المهنة، وتحترم التعددية والاختلاف، وتكون منبراً للحقيقة لا للتهريج أو التضليل. وحرص على أن يُعطي لهذا التوجه بعداً مؤسساتياً واضحاً، من خلال تعديل القوانين المنظمة للصحافة وتوسيع مجال حرية التعبير، إلى جانب دعمه لجوائز وطنية مثل "جائزة الصحفي المحترف" التي أشرف عليها بنفسه، تأكيداً على مكانة الإعلام في خدمة المصلحة العامة، فالإعلام بالنسبة إليه ليس أداة للدعاية، بل وسيلة لتنوير المواطن وتحصينه ضد الإشاعة والتزييف.

هذه الرؤية الإصلاحية جاءت في سياق عالمي يعرف تحولات رقمية كبرى جعلت من الصحافة الإلكترونية الشكل الأبرز للإعلام الحديث، وهو ما يفرض على الجزائر الانخراط بعمق في هذا التحول دون المساس بثوابتها المهنية والوطنية.

 

غير أن الصحافة الجزائرية، رغم ما تحقق من خطوات، لا تزال تواجه تحديات جوهرية، أبرزها تلك المتعلقة بالحرية، بالاستقلالية المالية، وبالتحول الرقمي الفعلي. فبحسب تقارير منظمة مراسلون بلا حدود، تحتل الجزائر مرتبة متوسطة في مؤشر حرية الصحافة، وهو ما يعكس وجود قيود تشريعية وبيروقراطية تعيق انطلاق الإعلام الحر بشكل كامل.

لكن هذا الترتيب لا يعكس وحده طبيعة المشهد، إذ يُظهر الواقع اليوم حراكاً متزايداً داخل الوسط الإعلامي نحو التجديد والتأهيل، مدفوعاً بإرادة سياسية واضحة من أعلى هرم السلطة لتطهير الحقل الإعلامي من الممارسات غير المهنية، وإرساء بيئة جديدة تُوازن بين حرية التعبير والمسؤولية.

 

أما الصحافة الإلكترونية، فهي الواجهة الأكثر حيوية في المشهد الإعلامي الجزائري اليوم، إذ أصبحت الوسيلة المفضلة لدى الجمهور، خاصة فئة الشباب، التي وجدت في المنصات الرقمية فضاءً بديلاً للتعبير والمعلومة والنقاش. فقد تجاوز عدد المواقع الإخبارية الإلكترونية المئة موقع خلال السنوات الأخيرة، بين منابر وطنية مستقلة وأخرى حزبية أو مؤسساتية. لكن هذا الانتشار الكمي لا يصاحبه دائماً تطور نوعي، لأن العديد من هذه المنابر تعاني من ضعف التمويل، وغياب التكوين المهني، وهشاشة الإطار القانوني الذي ينظم نشاطها، كما أن الصحفي الإلكتروني في الجزائر غالباً ما يعمل دون تغطية اجتماعية أو حماية قانونية كافية، ما يجعله عرضة لضغوط مهنية ونفسية عديدة.

 

في المقابل، شهدت الساحة الإعلامية تحركات إصلاحية ملموسة، منها تعديل قانون الإعلام في نسخته الأخيرة التي وسّعت نطاق التعريف القانوني ليشمل الصحافة الإلكترونية ضمن المنظومة الرسمية، ومنحتها اعترافاً قانونياً يسمح لها بممارسة نشاطها في إطار مؤسسي منظم. لكن هذا الاعتراف لم يُترجم بعدُ إلى واقعٍ متين، إذ ما تزال النصوص التطبيقية غامضة في بعض بنودها، خصوصاً تلك المتعلقة بآليات الترخيص، والتمويل، وحرية النشر، والعلاقة مع الإشهار العمومي الذي يُعدّ شريان حياة المنابر الإعلامية. وفي هذا السياق، يظل التحدي الأكبر هو كيفية تحقيق التوازن بين الرقابة الهادفة التي تصون الأمن المعلوماتي للدولة وبين حرية الصحافة التي تضمن التعددية الفكرية والسياسية.

 

أما على المستوى المهني، فإنّ ضعف التكوين في مجالات الإعلام الرقمي يمثل عقبة حقيقية أمام تطور الصحافة الإلكترونية في الجزائر. فالمحتوى الرقمي اليوم لا يقتصر على الكتابة الصحفية التقليدية، بل يشمل التصوير، والإخراج، والتحليل البياني، وصحافة البيانات، وصحافة الفيديو والبودكاست. غير أن أغلب الصحفيين ما زالوا يفتقرون إلى هذه المهارات، ما يجعلهم عاجزين عن مواكبة التطورات العالمية في الصناعة الإعلامية الحديثة. ولذلك، فإن أحد أهم محاور الإصلاح التي يمكن أن تدفع بهذا القطاع إلى الأمام هو إنشاء برامج وطنية للتكوين المتخصص في الإعلام الرقمي، بالشراكة بين وزارة الاتصال والجامعات ومراكز التدريب الخاصة، لتأهيل جيل جديد من الصحفيين الرقميين القادرين على إنتاج محتوى محترف ومبتكر.

 

من جهة أخرى، يطرح التمويل تحدياً وجودياً للصحافة الإلكترونية، إذ تعتمد أغلب المنابر على موارد محدودة من الإعلانات الرقمية التي تبقى خاضعة لتقلبات السوق وضعف البيئة الاقتصادية المحلية. لذلك، فإن تطوير نموذج اقتصادي مستدام للصحافة الإلكترونية بات ضرورة ملحّة، سواء عبر إنشاء صندوق وطني لدعم الابتكار الإعلامي، أو من خلال تشجيع الشراكات بين المؤسسات الصحفية وشركات التكنولوجيا، أو حتى عبر إدماج وسائل الدفع الإلكتروني والاشتراكات الرقمية لتأمين موارد مالية مستقرة. ويمكن كذلك التفكير في آليات دعم حكومي موجهة للمنابر التي تلتزم بمعايير المهنية والشفافية، دون المساس باستقلاليتها التحريرية.

 

أما الإطار القانوني، فعلى الرغم من أنه شهد تحسناً نسبياً في السنوات الأخيرة، إلا أن الحاجة لا تزال قائمة لتعديله بما يتماشى مع التطورات التكنولوجية الجديدة، كتنظيم العلاقة بين المنصات الرقمية ووسائل الإعلام المحلية، وضبط استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى الصحفي، وحماية الملكية الفكرية في الفضاء الإلكتروني. كما يجب تعزيز تطبيق قانون الوصول إلى المعلومات، باعتباره أحد ركائز الشفافية في العمل الصحفي، وهو ما سيمكن الصحفيين من أداء دورهم الرقابي دون عراقيل بيروقراطية.

 

ولا يمكن الحديث عن إصلاح الصحافة دون الإشارة إلى ضرورة استعادة ثقة الجمهور، التي تراجعت في بعض الفترات نتيجة انتشار الأخبار الزائفة وضعف المصداقية في بعض المنابر. لذلك، فإن بناء منظومة مهنية قائمة على أخلاقيات المهنة والرقابة الذاتية يمثل حجر الزاوية في إعادة الاعتبار للمهنة. ويمكن في هذا الإطار تأسيس مجلس أعلى للصحافة الإلكترونية يضم ممثلين عن النقابات، والمجتمع المدني، والأكاديميين، تكون مهمته مراقبة جودة المحتوى وتطبيق المعايير المهنية دون تدخل سياسي.

 

على مستوى أوسع، تمثل الرقمنة فرصة تاريخية للإعلام الجزائري لإعادة بناء نفسه. فالتحول نحو الصحافة الإلكترونية لا يعني فقط الانتقال من الورق إلى الشاشة، بل يتطلب تحوّلاً في الرؤية التحريرية وفي فلسفة الاتصال نفسها. فالمواطن الجزائري لم يعد متلقياً سلبياً للأخبار، بل أصبح شريكاً في إنتاجها وتداولها، ما يعني أن الصحافة الإلكترونية مطالبة بتبني مفهوم "الصحافة التفاعلية" التي تُشرك الجمهور في النقاش، وتستمع إلى صوته، وتبني الثقة عبر الشفافية والمصداقية.

 

إنّ مساعي الرئيس تبون لترقية العمل الصحفي يمكن أن تشكل، إذا استُثمرت جيداً، قاعدة صلبة لانطلاقة جديدة للإعلام الوطني. فوجود إرادة سياسية معلنة لتطوير الإعلام وفتح المجال أمام المنابر الجديدة هو فرصة يجب أن تُواكبها مهنية عالية من طرف الصحفيين والمؤسسات الإعلامية. فالمسؤولية مشتركة بين الدولة التي يجب أن توفر بيئة تشريعية واقتصادية عادلة، وبين الصحافة التي ينبغي أن تلتزم بالاحترافية، وتُمارس دورها في النقد البناء والرقابة الإيجابية دون الانجرار وراء الإثارة أو الخطاب الشعبوي.

 

إنّ الصحافة الإلكترونية الجزائرية تمتلك اليوم كل المقومات لتصبح قوة مؤثرة في الفضاء العربي والإفريقي، خاصة مع امتلاك الجزائر لطاقات شبابية مبدعة وكفاءات تقنية قادرة على إنتاج محتوى تنافسي عالمي. لكنها تحتاج إلى تحرير طاقتها من القيود البيروقراطية، وإلى رؤية وطنية شاملة تجعل من الإعلام الرقمي رافعة تنموية وثقافية حقيقية. فالمجتمع الذي يُحرر كلمته هو مجتمع يفتح لنفسه أبواب التقدم.

 

وفي النهاية، يمكن القول إن واقع الصحافة الجزائرية اليوم هو مرآة لمجتمعٍ يبحث عن توازنه بين الحرية والمسؤولية، بين النقد والبناء، بين الحلم والواقع. فالإصلاح الإعلامي الذي ينشده الرئيس تبون ليس غاية في ذاته، بل هو جزء من مشروع وطني أشمل يرمي إلى بناء دولة قوية بمؤسساتها، شفافة في تسييرها، منفتحة على مواطنيها. وإذا كانت الصحافة مرآة الأمة، فإن على هذه المرآة أن تعكس الحقيقة كما هي: بلا تزويق ولا خوف. فبين آفاق الأمل ورهانات الواقع، تبقى الصحافة الإلكترونية في الجزائر أحد أهم مفاتيح التحول نحو المستقبل، شرط أن تملك الجرأة، والكفاءة، والإرادة لتكون لسان الأمة وصوتها النزيه في زمنٍ تتسابق فيه الحقائق والمعلومات كوميض البرق.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services