28
0
الشعر يقاتل في الصفوف الأولى..حين ترفع الإنسانية قصائدها دفاعًا عن فلسطين

بقلم: بن معمر الحاج عيسى
في زمنٍ تغيب فيه العدالة وتُكمم فيه الأفواه ويُصادر فيه الحق الفلسطيني باسم المعايير المزدوجة، ينهض الشعر كآخر حصون الكرامة في هذا العالم، يلوّح بكلماته في وجه القتلة، ويصرخ من أعالي المنابر الحرة ليقول: نحن هنا، نحن نرى، نحن لن نصمت.
فها هي حركة الشعر العالمية WPM تكتب فصلًا جديدًا في سفر التضامن الإنساني مع فلسطين، وتطلق خلال شهر يونيو 2025 واحدة من أوسع الحملات الشعرية العالمية في التاريخ، والتي تتجاوز كونها حدثًا أدبيًا لتصبح حالة نضال جماعي كوني بالكلمة، يتحد فيها الشعراء من القارات الخمس في مشهد نادر يليق بقضية أضحت رمزًا للحق المطلق في وجه أبشع أنواع القمع والقتل والتهجير.
لقد أعلن رئيس حركة الشعر العالمية، الشاعر الكولومبي فرناندو رندون، في بيان رسمي، تفاصيل هذه المبادرة الضخمة التي تشهد تنظيم أكثر من 105 فعالية شعرية حضورية في 45 بلدًا موزعة بين أمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا وإفريقيا وأوقيانوسيا، فيما تقرر أن تكون الجلسة الشعرية المركزية الكبرى يومي 28 و29 يونيو عبر الشبكة العنكبوتية، في بث عالمي مباشر من مدينة ميديلين الكولومبية، يشارك فيه 170 شاعرًا من 110 دول، يلقون قصائدهم بلغاتهم الأصلية، محمّلين بروح واحدة: التضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة والضفة وسائر الأرض المحتلة.
ليست هذه الفعالية مجرّد مظاهرة أدبية، بل ثورة وجدانية شاملة تقودها الكلمة ضد المدافع، ويقودها الشعراء ضد الساسة المتواطئين، ويقودها صوت الضمير الكوني ضد صمت العواصم المرموقة التي تتغنى بحقوق الإنسان وتنسحب من إنسانيتها عند أول اختبار.
الشعر هنا لا يتغزل، ولا يتسامر، ولا يحلّق في أبراج عاجية، بل يهبط إلى الأرض، إلى الركام، إلى آهات الأمهات تحت القصف، إلى أجساد الأطفال المغطاة بالغبار، إلى المستشفيات المدمرة والمدارس المفخخة بالقنابل. يقول الشعر: أنا هنا لأكون صوت من لا صوت لهم، أنا هنا لأحمل اسم فلسطين على لساني ولأقذفه في وجوه المتآمرين.
وإن ما تقوم به حركة الشعر العالمية ليس جديدًا عليها، لكنها هذه المرة قد رفعت منسوب الفعل إلى أعلى درجاته، فالأحداث المروعة في غزة منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم، قد هزّت ضمير العالم وأجبرته على اتخاذ موقف، ولكن فيما اختار كثيرون من صناع القرار الغربيين الاصطفاف خلف الجريمة، أو إدارة ظهورهم للضحايا، اختار الشعر أن يقف في الميدان، ليقول إن العالم ما زال يحمل بذور خيره، ما دام الشعراء يكتبون، ويصرخون، ويعزفون على جراحنا أنشودتهم المقاومة.
وقد عبّر فرناندو رندون عن امتنانه العميق لكل منسقي الفعاليات الوطنية، ولكل أعضاء اللجنة التنسيقية الذين عملوا على جمع القصائد والنصوص والفيديوهات، ومشاركتها عبر القنوات الرقمية التابعة لحركة الشعر العالمية، موجهًا تحية خاصة إلى كل الشعراء الذين شاركوا بنصوصهم وصورهم وأصواتهم من شتى دول العالم، ليجعلوا من يومي السبت والأحد، 28 و29 يونيو، ملحمة شعرية كونية غير مسبوقة، من حيث التنظيم، والحجم، والتأثير، والرسالة الواضحة التي تقول: هذا هو طريقنا، الكلمة الحرة في وجه السوط، والإبداع في وجه الغطرسة.
ومن اللافت في هذه الحملة العالمية أنها لم تقتصر على العالم الخارجي، بل كان للجزائر حضورها النوعي، حيث انتظمت فعاليات شعرية داعمة لفلسطين في عدد من الولايات، شملت عين صالح بالتعاون مع نادي "ضياء القوافي"، ومدينة عين وسارة بولاية الجلفة، ووهران، وعنابة، وتبسة، والجزائر العاصمة، حيث تم التنسيق مع حركة الشعر الجزائرية وبيت الشعر الجزائري، والمؤسسة الثقافية "مفدي زكريا"، والمكتبة الوطنية الجزائرية، في مشهد يعكس عمق العلاقة التاريخية بين القضية الفلسطينية والضمير الجمعي الجزائري الذي تشكل في رحم الثورة والمقاومة ورفض الاستعمار.
لم يكن الأمر مجرد لقاءات شعرية، بل تجمّعات وجدانية، شارك فيها شعراء، مثقفون، تلاميذ، وأساتذة، لتأكيد الانتماء الأخلاقي لفلسطين، وتجديد العهد معها في زمن كثر فيه الخذلان وتكاثرت فيه الخيانات.
وحين نتأمل في خريطة الفعاليات، ندرك عمق هذا التضامن وامتداده، إذ شارك في هذه التظاهرة دول من كل الأقاليم، نذكر منها: فنزويلا، بنما، كولومبيا، كوبا، مونتسيرات، بربادوس، البرازيل، باراغواي، بوليفيا، بيرو، السلفادور، هندوراس، غواتيمالا، كوستاريكا، الولايات المتحدة، المكسيك، تشيلي، الأرجنتين، الجزائر، تونس، ليبيا، المغرب، النيجر، إيطاليا، إسبانيا، بلجيكا، اليونان، أيرلندا الشمالية، اسكتلندا، روسيا، تركيا، الهند، فيتنام، الصين، إيران، بنغلاديش، باكستان، إندونيسيا، ماليزيا، أستراليا، فيجي، ونيوزيلندا. هذا الطيف الجغرافي والثقافي الهائل لا يجتمع في العادة إلا في مناسبات نادرة، لكن فلسطين قادرة على توحيد ما فرقته السياسات، وعلى جمع الأرواح الحرة من كل الأمم.
في هذه اللحظة التاريخية، التي يحاول فيها الاحتلال طمس معالم الحياة في غزة، يحاول الشعر أن يكتب أسماء الضحايا على جدران الذاكرة العالمية، أن ينقذ أرواحًا من النسيان، أن يقول للأم الثكلى في رفح: هناك من يسمعك في قرطبة، ويكتب عنك شاعر في كراتشي، ويصلي لك طفل في بوينس آيرس، ويهتف باسمك مثقف في إسطنبول، ويذرف دمعة من أجلك شاب في هانوي.
الشعر، في هذه المعركة، ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية، لأنه يثبت أن العالم لم ينزلق كله نحو الجنون، وأن قلوبًا ما تزال تنبض بالحب والنخوة رغم كل شيء.
وإذ تختتم حركة الشعر العالمية حملتها بيومي ذروة في نهاية هذا الشهر، فإن ما يهمّ ليس فقط ما قيل أو سيقال، بل ما تركه هذا الحراك من أثر رمزي هائل، ومن رسائل لا تُنسى، أولها أن فلسطين ليست وحدها، وثانيها أن ضمير العالم وإن بدا مغطى بالرماد، ما يزال يتوهج حين تنفخ فيه الكلمات النبيلة، وثالثها أن الشعر ما يزال قادرًا على صنع المعجزات، إذا ما اجتمع على قضية عادلة.
ومن هنا نقول: الشكر لكل من كتب، ومن قرأ، ومن أنصت، ومن نظم، ومن نسّق، ومن بثّ.
الشكر لكل من رفع القصيدة في زمن الصاروخ، ولكل من اختار أن يكون إنسانًا حين كان الصمت خيانة.
إنها ملحمة شعرية خالدة، فصلها الأول بدأ الآن، لكن صداها سيبقى يتردد طويلًا، لأن القصائد التي كُتبت لأجل فلسطين، لا تموت.
كل قصائد الأرض… تقاتل من أجل الحياة في غزة.