66

0

رواية مضلّلة” تستهدف صورة الجزائر ودورها التاريخي في دعم مسار الشرعية الدولية.

خطاب الوزير عطاف والتحريف المتعمد

بقلم الحاج بن معمر

منذ صدور الخطاب الرسمي المتعلق بالوضع في الصحراء الغربية، وما تبعه من مناقشة القرار الأممي 2797، دخلت الساحة الإعلامية في الجزائر والمنطقة المغاربية مرحلة من الجدل المكثّف، لا سيما بعد ترويج عدد من الصفحات والجهات لمعلومة غير دقيقة مفادها أن الجزائر أعلنت نفسها “وسيطًا” في النزاع.

ورغم بساطة الادعاء في ظاهره، إلا أن حملات تضخيمه وتعميمه، والتكرار الممنهج له عبر حسابات مشبوهة، جعلاه يتحول إلى رواية مضلّلة” تستهدف صورة الجزائر ومكانتها ودورها التاريخي في دعم مسار الشرعية الدولية.

ولأن أصل التضليل قائم على تحريف واضح لنص الفقرة 26 من الخطاب الرسمي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تحوّل نص واضح من حيث اللغة والبناء والدلالة إلى مادة للتشويه؟ وما الذي يدفع البعض إلى محاولة إلصاق دور لم تقله الجزائر ولم تعلن عنه؟ وما هي الخلفيات السياسية التي تختبئ خلف هذه الموجة من الإشاعات؟ قبل الإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من العودة إلى النص الأصلي للفقرة 26 كما ورد، والتي تقول: "بناءً على هذه المعطيات، ومن منطلق المسؤوليات الملقاة على عاتقها كبلد مجاور لطرفي النزاع، فإن الجزائر لن تبخل بتقديم دعمها لأي مبادرة للوساطة بين طرفي النزاع، شريطة أن تندرج هذه المبادرة في الإطار الأممي، وأن تحتكم، في شكلها وفي مضمونها، إلى ثوابت الحل العادل والدائم والنهائي لقضية الصحراء الغربية، على النحو المنصوص عليه في جميع قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، بما فيها القرار الأخير رقم 2797". هذا النص، من الناحية اللغوية والسياسية، يحدّد بدقة دور الجزائر: دعم الوساطة وليس القيام بها.

الدعم شيء، وتبنّي دور الوسيط شيء آخر تمامًا، ومن هنا يبدأ جوهر الخلاف بين الخطاب الرسمي وبين الرواية المضلّلة.

فمن حيث المحتوى، الجزائر تشدد على مبدأ أساسي وهو أن أي وساطة يجب أن تكون أممية حصراً، وأن تحترم القرارات الدولية ذات الصلة، ما يعني أنها ترفض الوساطات الأحادية أو المبادرات التي تتجاوز الأمم المتحدة.

كما أن وصف الجزائر لنفسها بـ“بلد مجاور” لا “طرف مباشر في الوساطة”، هو إشارة صريحة إلى احترامها للمسار الأممي وحرصها على عدم القفز فوقه أو تسييسه، لكن مع ذلك، اختارت بعض الجهات بشكل متعمد اجتزاء الجملة الأولى فقط وتضخيمها خارج سياقها، ليبدو وكأن الجزائر "أعلنت وساطة"، بينما الحقيقة أن الجملة الثانية – التي حُذفت عمدًا في المنشورات المضللة – هي لبّ الموضوع: “شريطة أن تندرج هذه المبادرة في الإطار الأممي”،  هنا يمكن فهم ما يحدث. فالتضليل لم يكن صدفة، لأنه لو طُرح النص كاملًا، لسقط الادعاء من أساسه.

على مستوى التحليل الإعلامي، تشير معطيات كثيرة إلى أن حملات التحريف جاءت في سياق حملة إقليمية تحاول تصوير الجزائر وكأنها تتخلى عن مواقفها الثابتة أو تغيّر سياستها تجاه ملف الصحراء الغربية، وهي محاولة ليست جديدة، لكنها تتخذ اليوم شكلاً أكثر تنظيماً.

فكلما عبّرت الجزائر عن مواقف قائمة على الشرعية الدولية، سارعت منصات معينة إلى تأويلها بما يخدم رواية سياسية بعينها، خاصة تلك التي تسعى إلى خلق انطباع بأن الجزائر خرجت من موقع الدعم إلى موقع الوساطة، وهو ما يناقض حقيقة موقفها التاريخي والدبلوماسي.

ويؤكد عدد من الخبراء أن هذه الإشاعات هدفها ضرب مصداقية الجزائر على مستوى الأمم المتحدة، ومحاولة تصويرها كدولة “تبحث عن دور”، وهو اتهام سياسي قديم، لكنه يجد اليوم من يرعاه إعلاميًا بشكل مكثف. ويرى الأستاذ عبد المجيد بلغيث، المختص في الإعلام السياسي، أن “الادعاء بأن الجزائر أعلنت وساطة ليس مجرد سوء فهم لغوي، بل هو جزء من بناء سردية كاملة هدفها أن تبدو الجزائر وكأنها تراجعت عن مبدأ دعم تقرير المصير. ولذلك جاء التحريف مركزًا على كلمة ‘وساطة’، رغم أنها لم ترد بصيغة الفعل المنسوب للجزائر، بل بصيغة دعم لمبادرات أممية محتملة".

 

على المستوى الدبلوماسي، يعتبر مراقبون أن الترويج لهذه الإشاعة يستهدف ضرب ثبات الجزائر على مواقفها تجاه الشرعية الدولية. فالجزائر، تاريخيًا، لم تقبل يومًا لعب دور الوسيط في ملف الصحراء الغربية، ليس لأنها ترفض الوساطة كفكرة، بل لأنها ترى أن القضية ليست نزاعًا ثنائيًا بين دولتين، بل ملف تصفية استعمار يخضع لقرارات الأمم المتحدة ولا يمكن حلّه إلا عبر استفتاء تقرير المصير. ومنطق الوساطة يقوم على أن الأطراف في النزاع متساوية في الحقوق والمطالب، بينما منطق الشرعية الدولية يقوم على أن للشعب الصحراوي حقًا ثابتًا في تقرير مصيره. لذلك، فإن فرض رواية “الوساطة الجزائرية” يهدف إلى تقزيم القضية وتحويلها من ملف تصفية استعمار إلى مشكل سياسي بسيط يمكن أن يُحل بين أطراف متساوية، وهذا ما يتعارض جذريًا مع موقف الجزائر.

ويؤكد الدبلوماسي السابق عبد القادر حدو أن "الجزائر لو أرادت إعلان وساطة لفعلت ذلك بوضوح، فهي ليست دولة تعمل في الخفاء، بل تعلن مواقفها بشكل صريح. لكن ما قالته في الفقرة 26 هو حقيقة موقفها الدائم: دعم أي جهد أممي شريطة أن يكون تحت سقف الشرعية الدولية".

 

من جهة أخرى، يكشف التحليل السياسي أن الجهات المروجة للتحريف سعت إلى خلق حالة من الارتباك داخل الرأي العام الجزائري، عبر تقديم صورة توحي بأن الجزائر دخلت على خط "التسويات" أو أنها مستعدة لتغيير مقاربتها تحت ضغط الظروف الدولية.

لكن هذا الطرح يتناقض تمامًا مع تصريح وزير الخارجية نفسه، الذي شدد في الخطاب ذاته على ثبات الموقف الوطني خارج منطق الحسابات الظرفية.

من جانب آخر، يرى الخبير في العلاقات الدولية، الدكتور إلياس بن يحيى، أن المبالغة في تسويق فكرة "الوساطة الجزائرية" جاءت كرد فعل على فشل بعض الأطراف في إقناع الرأي العام الدولي بمبادرات خارج الإطار الأممي، ولذلك سعت هذه الأطراف إلى إظهار الجزائر وكأنها تسلك طريقًا مماثلًا، في محاولة لمعادلة الصورة أو التخفيف من عزلة بعض الطروحات المخالفة للشرعية الدولية. لكن العودة إلى نص الخطاب تثبت أن الجزائر لم تتغير، بل كررت المعادلة ذاتها: دعم الحل الأممي، احترام القرارات الدولية، رفض الحلول المفروضة، والتشديد على الطابع القانوني للقضية.

وفي السياق ذاته، يوضح المتابعون للشأن السياسي في المنطقة أن التصدي للتحريف لا يتعلق فقط بتصويب معلومة مغلوطة، بل بحماية الخطاب الدبلوماسي للدولة من حملات الاستهداف التي تتخفى أحياناً خلف قناع النقاش الأكاديمي أو التحليل الإعلامي. فهناك فرق واضح بين النقد الموضوعي لسياسة ما، وبين صناعة رواية مغرضة.

وفي هذا الإطار يرى المحلل الإعلامي عمر بوالقرون أن “الإشاعات السياسية لا تضر فقط بالخطاب الرسمي، بل تؤدي إلى تشويش في الرأي العام، لأن كثيرًا من المواطنين لا يتابعون أصل النصوص، بل يكتفون بما يصلهم عبر مواقع التواصل، وهو ما يجعل الإشاعة أسرع انتشارًا من الحقيقة”.

 

وما يزيد من خطورة هذه الإشاعة هو توقيتها: فهي تأتي بعد قرار أممي مهم، وفي مرحلة تتسم بحساسية إقليمية كبيرة. ولذلك فإن التضليل هنا ليس بريئًا، بل يُراد منه التأثير على قراءة الخطاب الجزائري في الأوساط الدولية، وإظهار الجزائر وكأنها مستعدة للدخول في ترتيبات لا تتماشى مع مبادئها الثابتة.

ويشير الأستاذ نور الدين قادة، الخبير في الدبلوماسية متعددة الأطراف، إلى أن “الخطابات الرسمية الجزائرية المتعلقة بالصحراء الغربية عادة ما تكون دقيقة ومحسوبة، لأن كل كلمة فيها تُقرأ أمميًا، ولذلك فإن تحريف فقرة واحدة فقط يمكن أن يؤدي إلى قراءة مغلوطة للموقف الوطني. من هنا نفهم لماذا حاولت بعض الجهات تضخيم كلمة ‘وساطة’ رغم أنها لم تُنسب للجزائر، بل للمبادرات الأممية المحتملة".

 

ومع ذلك، فإن قدرة الإشاعة على الانتشار لا تعني وجود خلل في الخطاب الرسمي، بل تكشف وجود خلل في طريقة تعامل بعض المنصات مع المعلومات، أو ربما تواطؤًا واعيًا مع روايات سياسية تُراد لها أن تنتشر.

فالإعلام، حين لا يتأكد من النصوص ولا يحللها سياقيًا، يصبح أداة بيد من يريد صناعة الفوضى المعلوماتية،  وهذا ما دفع عددًا من المختصين إلى الدعوة لرفع منسوب الوعي الإعلامي لدى الجمهور، وتعزيز ثقافة الرجوع إلى المصدر، بدل الاكتفاء بقراءات مجتزأة أو تأويلات مسيسة.

 

وفي المحصلة، يمكن القول إن الفقرة 26 لم تكن مشكلة، بل التحريف هو المشكلة، نص الفقرة جاء واضحًا: الجزائر لا تقود وساطة، لكنها تدعم الوساطة الأممية بما يخدم الحل العادل والدائم. والفرق بين المعنيين ليس شكليًا، بل جوهريًا وسياسيًا واستراتيجيًا. فالوساطة دور سياسي مباشر، بينما دعم الوساطة موقف دبلوماسي يحترم الشرعية الدولية ويعزز دور الأمم المتحدة.

أما الإشاعة، فهي محاولة للهروب من هذه الحقيقة عبر صناعة رواية موازية تخدم أجندات معينة، ومن هنا فإن الرد على التحريف ليس دفاعًا عن نص، بل دفاع عن مبدأ: أن الحقيقة لا ينبغي أن تُختطف من قبل من يهوى صناعة الوهم.

وفي هذا السياق، يبدو أن أفضل طريقة لمواجهة هذه الإشاعات هي إعادة نشر النص كما ورد، وتقديم قراءات موضوعية معمّقة تحمي الرأي العام من التضليل، وتعيد النقاش إلى سكّته الطبيعية: سكّة الشرعية الدولية، والدفاع عن حقوق الشعوب، واحترام الخطاب الرسمي للدولة الجزائرية كما هو، لا كما يريد البعض أن يكون.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services