رجل حمل السلاح في وجه المحتل، وحمل القلم والكلمة في وجه المتخاذلين، وأدى دوره الدبلوماسي بكل إخلاص لصالح بلاده،شخصية ذات عزيمة لا تلين وكفاح لا ينتهي، من خيرة ما أنجبت الجزائر،لا يمكن لأي جاحد أن ينكر إنجازاته ومسيرته الحافلة وعطائه اللامحدود من أجل وطنه.
نسرين بوزيان
شخصية لم تعرف للراحة طريق، وكرس ما تبقى من حياته للعمل الخيري، ليصبح شخصية وطنية رائدة في رعاية الأرامل والأيتام، حيث نال تكريماً رمزياً تمثل في وسام “خادم اليتيم”.
نشأته وتعليمه
وُلد رابح مشحود في 16 نوفمبر 1928 في بلدية أمجاز الدشيش بولاية سكيكدة، في أسرة وطنية،وبدأ بالعلم والقرآن الكريم، حيث حفظ القرآن في سن مبكرة، قبل أن يواصل دراسته في معهد عبد الحميد في قسنطينة، ثم في جامع الزيتونة في تونس.
بعد ذلك، التحق بجامعة بغداد في العراق، حيث أصبح رئيسًا للفرع الطلابي للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، ليبدأ مسيرته الطويلة في النضال ضد الاستعمار الفرنسي.
التحاقه بالثورة الجزائرية
كان مشحود من أوائل الذين لبوا نداء الوطن،أسس مع الشهيد يرحال تنظيمًا ثوريًا في عين أم الرخا، والتي سُميت لاحقًا باسمه، وكان أحد الذين ساهموا في التحضير للثورة، حيث انضم إلى صفوف المجاهدين منذ الأيام الأولى ، وكان من بين الذين حضروا وشاركوا في التحضير لها مع القائد زيغود يوسف، الذي كان يقيم مع والده الشهيد علي في ذلك الوقت.
ثم انطلق في مسيرته الكفاحية حيث عبر خطي موريس وشارل مرتين، وشارك في سبع قوافل لتهريب الأسلحة من طرابلس إلى تونس ثم إلى الجزائر في الليالي القمرية، مستخدمًا الحمير للتنقل، حيث كان البعير يترك ظلاً كبيرًا، وفي الليالي المظلمة كان يستخدم الإبل، و رغم قلة الأسلحة المهربة، كان المجاهدون يعتبرونها كثيرة.
وذكر مشحود في شهادته التاريخية أنه نقل سبع بنادق قديمة من مخلفات الحرب العالمية الثانية، وقد فرح القائد زيغود يوسف بها كثيرًا وقال: “بهذه الأسلحة سنهزم فرنسا”، ما يدل على المعنويات العالية للمجاهدين في تلك الفترة.
كما عمل في المكتب العسكري بالقاهرة وكان عضوًا في المنظمة السرية أثناء ثورة التحرير الجزائرية، حيث تعرض للاعتقال عدة مرات بسبب نشاطاته ضد المحتل الفرنسي.
نظاله من أجل القضية الفلسطينية
كان مشحود ناشطًا في الدفاع عن اللغة العربية، حيث نجح في إدخال مشروعها إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ليصبح جزءًا من النقاش حول القضية الفلسطينية.
حسب الشهادات الحية لأحد رفاقه، كان مشحود يلعب دورًا مهمًا في القضية الفلسطينية، وكان يقضي أيامه كدبلوماسي ولياليه كمجاهد في المقاومة الفلسطينية، حيث شارك في معركة الكرامة، وعُرف بلعبه دورًا كبيرًا في تهدئة الفتنة التي نشبت بين الفلسطينيين في تلك الفترة.
مسيرته الدبلوماسية و المهنية
بعد الاستقلال، شغل مشحود عدة مناصب هامة، حيث عمل مستشارًا في رئاسة الجمهورية خلال فترة الرئيس أحمد بن بلة من 1963 إلى 1965، ثم تقلد عدة مناصب دبلوماسية في وزارة الشؤون الخارجية، متنقلًا بين عدة بلدان عربية وأجنبية. كما مثل الجزائر في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، وشارك في العديد من المؤتمرات الطلابية العالمية. كانت له مشاركة فاعلة في مؤتمرات القمة العربية، حيث كان دائمًا في مقدمة المدافعين عن القضية الفلسطينية التي كانت جزءًا من إرثه الدبلوماسي البارز.
تحرير مقر الإذاعة والتلفزيون في قسنطينة
في السابع من أوت 1962، سطر المجاهد رابح مشحود صفحة جديدة من صفحات الثورة الجزائرية، حيث قام بتحرير مقر الإذاعة والتلفزيون في مدينة قسنطينة،وهي من أولى الانتصارات الإعلامية التي تم تحقيقها في مسار استرجاع السيادة الوطنية، قبل أن يتم تحرير الإذاعة المركزية في الجزائر العاصمة.
في شهادته التاريخية، يروي مشحود كيف بدأ يومه بالتوجه إلى والي قسنطينة لطلب تعيينه مسؤولًا عن تجهيز البث في إذاعة قسنطينة الواقعة في منطقة المنصورة، ثم قام بالذهاب إلى مجموعة من المجاهدين، وأوضح لهم خطورة المهمة قائلاً: “من يتطوع منكم، وأنا لا أمركم، ولكن 99% منكم لن نعود سالمين”.
كانت اتفاقية “إيفيان” تفرض بقاء الإذاعة والتلفزيون تحت السيطرة الفرنسية لمدة ثلاث سنوات، كما كان العلم الفرنسي يرفرف فوق المبنى، وكان الصحفيون الجزائريون يتقاضون رواتبهم من السلطات الاستعمارية، لكن مشحود كان مصممًا على استعادة المقر.
فتوجه مع 35 مجاهدًا، وارتدوا ملابس مدنية وركبوا سيارة مدنية كي لا يثيروا الشكوك، وعند وصولهم إلى المقر، وضع مشحود خطة محكمة، قال للمجاهدين: “عندما يفتح الحارس الباب، لا ادعه يغلقه، وأنتم اذهبوا وتموضعوا داخل المقر”، وعندما فتح الحارس الباب، نفذ مشحود خطته بدقة، حيث وضع المسدس في صدر الحارس وأغلق الباب.
انطلقت عملية التحرير،وعندما خرج مدير البث الفرنسي، الذي كان عسكريًا فرنسيًا، تحدث إليه مشحود قائلاً: “الآن يجب فصل إذاعة قسنطينة عن الإذاعة الجزائرية المركزية، لأن اتفاقية إيفيان قد انتهت”.
صعد مشحود بعدها إلى أعلى المبنى، ونزع علم فرنسا، ورفع العلم الجزائري قائلاً بصوت مرتفع: “الله أكبر، تبارك الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير، هذا العلم العزيز الذي سيبقى يرفرف هنا وفي كل مكان في ربوع الوطن العزيز إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها”.
ثم توجه مشحود إلى الإذاعة الرئيسية في قسنطينة، حيث أبلغه الحارس الفرنسي أن الاستوديوهات كانت في مكان آخر،وعند ذهابه إلى هناك، اكتشف أن الحراسة لم تكن مشددة، وأن العديد من الجزائريين قد عادوا إلى بيوتهم بعد توقف الإذاعة عن البث في التاسع عشر من مارس 1962، وتم دفع رواتبهم من قبل السلطات الاستعمارية لمدة ثلاث سنوات، فطلب منهم مشحود الحضور فورًا لاستئناف العمل في الإذاعة.
عندما حضر الجزائريون، اكتشف مشحود أن هناك كاميرا واحدة فقط، وكان المصور فرنسيًا، فصعد مشحود إلى المبنى مرة أخرى، ونزع علم فرنسا، وأصر عليه تصوير العلم الجزائري في لقطة متحركة، إلا أن المصور الفرنسي رفض، ورغم التحديات، تم تشغيل الإذاعة تحت إشراف سواعد جزائرية.
وقال مشحود بعد قراءة سورة الملك: “إذاعة الجمهورية الجزائرية من قسنطينة، واصلوا الاستماع إلينا، بعد قليل سنذيع بيانات هامة”. ثم بث الأناشيد وآيات قرآنية ونداءات تحث على الوحدة، قائلاً: “أيها الشعب الجزائري المسلم، كيف يقاتل مجاهدٌ مجاهدًا"طالبا منهم الوحدة من أجل دحر الاستعمار الفرنسي من البلاد.
وفي تلك الليلة نفسها، تم بث أول كلمة عبر التلفزيون الجهوي في ولاية قسنطينة، حيث طلب منه القائدان العسكريين،الرائد رابح بالوصيف والرائد العربي بالرجم ، أن يظهر بلباس عسكري ليشيد بتضحيات الشهداء.
وكان أول ما قاله في تلك الليلة أمام الكاميرا: “هذا التلفزيون سيكون إن شاء الله مدرسة للوطنية ومدرسة للأخلاق، وستسمعون إلى القرآن الكريم والتاريخ الحقيقي للجزائر العزيزة”.
العمل الخيري
لم يقتصر عطاؤه على السياسة والدبلوماسية فحسب، بل كان أيضًا من أبرز المدافعين عن العمل الخيري،تولى منصب الرئيس الشرفي للجمعية الخيرية “كافل اليتيم الوطنية”، ورافق الجمعية لأكثر من خمسة عشر عامًا في مجال الأعمال الخيرية، ورغم الصعوبات التي واجهته، إلا أنه كان يتحمل عناء السفر والتنقل لمسافات بعيدة لحضور اللقاءات الخيرية وكان دائمًا ما يقول إن جمعية “كافل اليتيم” تظل متمسكة بمبادئها التي انطلقت منها منذ بيان أول نوفمبر، حيث كانت تركز على مساعدة المحتاجين بما يتماشى مع القيم الثورية التي أسست عليها.
مذكرات المجاهد والدبلوماسي رابح مشحود
الف رابح مشحود سلسلة من المذكرات التي صدرت عن مؤسسة الأمة للطباعة والنشر والتوزيع في مصر، وهي مكونة من خمسة أجزاء. تتناول هذه السلسلة تفاصيل مسيرة المجاهد والدبلوماسي رابح مشحود، منذ مشاركته الفعّالة في الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، مرورًا بدوره البارز في العمل الدبلوماسي بعد الاستقلال، وصولًا إلى انخراطه في العمل الخيري.
تكريمه
عرفانًا لما قدمه من خدمات جليلة للجمعية الخيرية “كافل اليتيم”،نظمت الجمعية يوم 25 جانفي حفلًا تأبينيًا، حيث تسلّمت عائلة الفقيد تكريمًا رمزيًا تمثل في وسام “خادم اليتيم”. ويستحق رابح مشحود تسمية الجامعات والمدارس باسمه، وهو ما يسعى إليه أبناء مسقط رأسه، حيث يعتزمون افتتاح معهد متخصص في التكوين المهني للحرف الفلاحية في سبتمبر المقبل. كما تأمل رفيقة دربه، الدكتورة فضيلة بوعمران، في ترجمة مذكراته إلى الفرنسية لتصل رسالته لمن لا يجيدون اللغة العربية.
شهادات من عايشوه
شهد كل من عاشر الراحل رابح مشحود أو تابع مسيرته أنه كان يتحدث العربية الفصحى بلسان رشيق وذاكرة حديدية، حيث كان يسرد الأحداث بدقة عالية كما لو كانت تكتب في اللحظة ذاتها.
وكان صوته مختلفًا عن أصوات الدبلوماسيين المعتادة، حيث كان يحمل في نبراته قوة وثباتًا، كان مثقفًا، ومثل بلاده خير تمثيل، دائمًا ما كان يحرص على إثراء النقاشات في اللقاءات والندوات، و حديثه كان يدور حول الوفاء بالعهد، وتقدير الشهداء، وتمسك الأمة بقيمها وثوابتها.
رحيله
ترجل المجاهد رابح مشحود عن عمر ناهز 96 عامًا، يوم الخميس 2 جانفي 2025، بعد معاناة طويلة مع المرض وصبر لا نهاية له. لكنه سيظل دائمًا في ذاكرة الجزائريين كأحد الأبطال الذين خدموا وطنهم بإخلاص ووفاء، سواء في ميدان الكفاح المسلح أو في الساحة الدبلوماسية أو في مجال العمل الخيري. رحم الله المجاهد الكبير رابح مشحود، وجعل أعماله الخالدة نبراسًا للأجيال القادمة.