23
0
النكبة لا تُنسى لأنها لم تنتهِ
في ذكراها الـ77، غزة تحت القصف وفلسطين تصرخ من تحت الركام

بقلم: بن معمر الحاج عيسى
سبعة وسبعون عامًا على النكبة ولم تنتهِ بعد، لأن المأساة التي بدأت عام 1948 لم تكن حدثًا عابرًا بل مشروعًا استيطانيًا قائمًا على النفي والاقتلاع والدم، ولأن الفلسطيني لم يُعطَ وقتًا كي يندب وطنًا فقده، فقد وُضع منذ اللحظة الأولى أمام واقع مستمر من الطرد والقتل والمحو، حتى باتت كل سنة تمرّ امتدادًا لذاك اليوم الأسود الذي سُرقت فيه الأرض وهُجّر فيه الشعب.
وها هي غزة اليوم تكتب فصول النكبة من جديد، ولكن هذه المرة بدماء عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والناجين الذين لم يعد لديهم مأوى إلا الكلمات والسماء.
في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة لا تحتاج فلسطين إلى خُطب ولا إلى بكائيات بل إلى مواجهة الحقيقة التي لم يعُد العالم قادرًا على إنكارها: هناك شعب يُباد على مرأى من الجميع، وهناك احتلال عنصري يكرر الجريمة نفسها منذ أكثر من سبعة عقود بأساليب أكثر فتكًا وإصرارًا، والنتيجة أن الكارثة مستمرة، ولكن هذه المرة لم تعد مخفية خلف جدران الإعلام الصهيوني، بل باتت موثّقة بكل شبر من الدم الذي سال في الشوارع والمخيمات والمستشفيات.
لم يعد 1948 مجرد تاريخ، بل أصبح كائنًا حيًا يمرّ كل يوم على وجوه الأطفال في غزة، يقتلع أحلامهم وأطرافهم وأسماءهم، يحفر على جدران البيوت المدمّرة عبارة واحدة: "النكبة ما زالت هنا"، وبينما كانت النكبة الأولى تعني الطرد من الأرض، فإن النكبة الجديدة تعني الإبادة الكاملة، محو المدن من الوجود، تجريف الذاكرة، وتشريد من تبقى من الناجين داخل لجوء جديد داخل اللجوء، حيث لا سقف سوى الدخان ولا وطن سوى الحطام.
في هذا العام، تختلط الذكرى بالحريق، وتتحول مراسم إحياء النكبة إلى جنازات جماعية ونداءات استغاثة وأسماء تُنقش على الشاشات قبل أن تُنتشل من تحت الردم، وتبدو غزة اليوم كأنها تختصر الرواية كلها، تكتب بدمها ما لم تستطع كتبه الأمم المتحدة في وثائقها ولا استطاع حفظه أرشيف العدالة الدولية في خزائنه.
غزة اليوم لا تطلب التضامن، بل تطلب الإنصاف، لا تحتاج إلى عبارات المواساة بل إلى الاعتراف بأن ما يجري هو استكمال للنفي الكبير، وأنه لا يمكن الحديث عن حلول دون إعادة تعريف الجريمة من جديد، جريمة النكبة الأصلية وجريمة الإبادة الجارية.
في الذكرى السابعة والسبعين، لا نُحيي النكبة، بل نعيشها مجددًا، لا نُحيي ذِكرى شعب طُرد، بل نواكب شعبًا يُباد، وندرك أن النكبة ليست في الماضي فقط، بل في كل عجز دولي، في كل صمت رسمي، في كل بثّ إعلامي منحاز، في كل طفل يموت مرتين، مرة تحت القصف ومرة في الأخبار، وفلسطين في هذه اللحظة لا تسأل عن عدد القرارات الدولية بل عن عدد القلوب التي لا تزال تنبض لها، وعن العيون التي ترى الحقيقة بلا رتوش، وعن الضمائر التي لم تُبع بعد.
سبعة وسبعون عامًا على النكبة، ولا تزال الحقيقة نفسها تكتب بدم جديد: أن هذا الشعب لا يموت، بل يعيد تعريف الوجود، وأن هذه الأرض لا تنسى، بل تحفظ أسماء أبنائها في جذورها، وأن القضية لا تموت مهما طال الزمان، بل تنتقل من جيل إلى جيل كشعلة لا تنطفئ، وأن غزة اليوم، رغم الجراح، ليست نهاية القصة، بل بدايتها الحقيقية، حيث ينفجر الصمت أخيرًا ليقول: هنا فلسطين، وهنا كانت النكبة، وهنا لن تُنسى لأنها لم تنتهِ.