2941
0
المستشرقة المهتدية زيغريد هونكة رحمها الله و الذّودُ عن إسهامات الحضارة الإسلامــية
بقلم : د . إبراهيم نويري
قامت المستشرقة و الباحثة الألمانية – زيغريد هونكه - Sigrid Hunke ـ بدور مشهود في تحسين صورة العرب والمسلمين ، و الدفاع عن حضارتهم وثقافتهم و أخلاقهم و تاريخهم ، وتقريب الحقائق التاريخية إلى الرأي العام الغربي دون أي تشويه أو دعاية غير مسنودة بمنطق بحثي مؤسس على أدلة علمية صارمة قوية . والتقليل من تأثير الدعايات والمزاعم ، التي روجتها بعض الأقلام في ديار الغرب لأهداف تمّ تحديدها مسبقاً وبعناية فائقة لكنها غير قابلة للصمود أمام منطق البحث العلمي الحصيف.
بدأت هذه الباحثة الجادة مغامراتها في التنقيب والحفر بين أظابير الصحف والمجلات وأكوام الكتب والمجلدات ، مع بداية زواجها في مرحلة الشباب ، وكان ثمرة جهدها الأول ، باكورة مؤلفاتها ، الذي كتبته كما تقول هي نفسها بأسلوبها الخاص :" بين قماطات الأطفال و ملاعق الطبخ ، كان أطفالي إلى جانبي دوما ، يحرقون الأحذية البالية في المدفئة ، أو يدهن كلٌّ منهم شعر الآخر بكريم الأطفال " !!
كان ذلك الكتاب ـ الذي يمثل باكورة أعمالها ـ بعنوان " في البدء كان الرجل والمرأة " ، وقد امتدح الأخصائيون والنقاد والقراء ، هذا الكتاب ، المنحوت بلغة أخاذة ، واعتبروه أحد أهم المؤلفات في علم النفس، و تحديداً في مسألة فهم العلاقة التكاملية بين الجنسين ، و مدى علاقتها بوظيفة كلٍّ منهما .
أما كتابها الثاني ـ الذي كان مفاجأة كبيرة جداً للأوساط الأكاديمية والعلمية في أوروبا إبان ظهوره ـ الموسوم بـ "شمس العرب تسطع على الغرب" فقد حقق سنة 1960م ذروة النجاح لهذه الباحثة ذات الإرادة القوية في البحث عن الحقيقة ، حيث احتل مكاناً متميزاً ضمن قائمة الكتب الأكثر رواجاً في العالم ، إذ بيع منه أكثر من مليوني نسخة ، وتُرجم إلى أكثر من 17 لغة عالمية ، كانت آخرها اللغة اليابانية . والعنوان الأصلي الذي اختارته المؤلفة لهذا الكتاب هو " شمس الله تسطع على الغرب " ، ربما لأنها اعتبرت حضارة العرب والمسلمين ، حضارة ممهورة بالطابع الروحي والغيبي ، فهذه الحضارة وإنْ أبدعت في مختلف مجالات العلوم والفنون ، إلا أنها راسخة الصلة بالله والغيب والعقيدة الدينية ؛ وأيضا لأن طبيعة الفتح الإسلامي لا صلة لها البتّة بالهيمنة و إرهاب الناس و تغيير عقائدهم بالقوة العسكرية أو حتى بالإغراء و المخاتلة غير المشروعة. و هونكة تشير إلى ذلك بصراحة ملفتة و مطابقة للحقيقة التاريخية في الآن نفسه فتقول " لا إكراه في الدين .. تلك هي كلمة القرآن الملزمة، فلم يكن الهدف أو المغزى للفتوحات العربية نشر الدين الإسلامي، وإنما بسطُ سلطان الله في أرضه، فكان للنصراني أن يظلّ نصرانيًا، ولليهودي أن يظلّ يهوديًا كما كانوا من قبل، ولم يمنعهم أحدٌ أن يؤدوا شعائر دينهم، ولم يكن أحد لِيُنزِل أذىً أو ضررًا بأحبارهم أو قساوستهم ، وبِيَعِهم وصوامعهم وكنائسهم " .
بيد أن مَن تصدوا للترجمة ، ارتأوا أن يكون عنوان " شمس العرب تسطع على الغرب " هو العنوان الأنسب لهذا الكتاب ، لأنه الأكثر تعبيراً عن محتويات أبوابه و فصوله ومنهجه واتجاهه الفكري .
نشرتْ هونكة بعد ذلك وعلى مدى حياتها الطويلة الحافلة ، أكثر من عشرة كتب، تناولت موضوعاتٍ متنوعةً لها صلة وطيدة بالأدب ، والفلسفة ، والتاريخ ، والاجتماع ، وعلم الأديان المقارن .. إلخ . وكان من بين أواخر كتبها ، كتاب بعنوان مثير " الله ليس كذلك " أماط اللثام عن ألف حكم مسبق عن العرب والمسلمين، كشفتْ من خلاله المؤلفة بأسلوب علمي رصين - يعتمد على الحجج والبراهين – عن كثير من الأحكام الشوفينية والتحويرات التاريخية والأقوال الخاطئة المقصودة ، التي وظفتها بعض الدوائر التي تعمل على تأجيج أُوار الصراع بين الحضارات والثقافات الإنسانية ، في نطاق ما يُعرف بظاهرة الخوف المرضي من الإسلام ( الإسلاموفوبيا ) ــ أو الخوف والتوجس من الآخر عموماً ــ .. فمَنْ هي هذه السيدة التي تفتش بأدب ومنهجية عن مواطن "الفوبيا " مما هو عربي أو إسلامي ، وتكشف المنابع التي مافتئت تنبثق منها هذه الأحكام المسبقة منذ فترة القرون الوسطى أو منذ مرحلة عصور الحروب الصليبية ؟ وكيف تحققت هذه الشهرة الفريدة من نوعها لكاتبة يصفها بعض نقاد الأدب والفلسفة بأنها "صنعت تاريخا" بكتبها عن العلاقات المتبادلة بين الشرق والغرب ؟؟
محطات مهمة في حياتها :
ولدت السيدة زيغريد أو زيجريد أو زيكريد هونكة ، يوم 26 أبريل 1913 م بمدينة كيل الألمانية ، و والدها هو الناشر الألماني الشهير هاينريش هونكة ، تخصّصت في مقارنة الأديان ، و درست الآداب والفلسفة وعلم النفس والصحافة .. إلخ . وتحصلت على الدكتوراة سنة 1941 م ، و تزوجت من المستشرق الألماني الكبير الدكتور شولتزا ، وقد ساقتها دراستها و كذا تخصّصها في أصول الأديان المقارنة ، إلى الإعجاب بالعرب والمسلمين و سماحة دينهم وإنسانية حضارتهم . وقد تسبب لها إعلانها ونشرها لآرائها ، في إزعاج وأذى من قِبل بعض المتطرفين المناهضين للعرب والمسلمين في الغرب ، مما جعلها تلوذ ــ تحرّزاً و احتياطاً ــ بالإنضمام إلى بعض الجمعيات التي تعمل على تقارب الثقافات ونشر قيم التسامح والتعارف بين شعوب العالم .
حصلت الدكتورة هونكة على جوائز و أنواط وتتويجات واعترافات كثيرة ، كان منها جائزة "كانط" ، و جائزة "شيلر" .. كما نالت أعلى مراتب التكريم خارج ألمانيا و أوروبا، ففي عام 1988 م قلدها الرئيس المصري السابق حسني مبارك ، في قاعة جامعة الأزهر بالقاهرة وسام " النجمة الكبرى" ، وهو أعلى أوسمة الاستحقاق المصرية ، تقديراً لها على الخدمات الجليلة التي قدمتها للثقافة العربية والإسلامية ، وقد أعربتْ يومئذ عن امتنانهاالغامر بهذا التكريم ، بإلقاء محاضرة قيمة عن الفكر العربي الإسلامي وأثرهما في الفكر الأوروبي، أمام المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة ، وكانت محل إعجاب المستمعين و المتابعين . و قد عُينت كأول امرأة ــ غير مسلمة حينئذٍ ــ عضواً في المجلس ، وقد أعقب ذلك عشرات الدعوات من رؤساء الدول والملوك و الأمراء ومراكز البحوث والجامعات في أقطار المغرب العربي وشبه الجزيرة العربية ، ومن مختلف أنحاء العالم الإسلامي ، إلى حضور حفلات استقبال أو إلقاء محاضرات أو المشاركة في ندوات .
وقد حقق لها هذا التكريم والاحتفاء غبطة لم تتحقق لباحثات كثيرات غيرها ، عبّرت عنها في احدى المناسبات بقولها ـ وهي في حالة انتشاء كامل ـ " لم أكن في النهاية بحاجة إلى إبراز جواز سفري ، فحتى موظفو الجمارك كانوا قد عَرَفوني عن طريق الصحف والتلفزيون .. لقد كانوا باستمرار يستقبلونني ويودّعونني بفرحة ظاهرة ".
إن مقابلة صحفية في منزلها المزيّن بكثير من التذكارات والشهادات والأوسمة القيمة ، والتحف الأثرية الرائعة ، الواقع في إحدى ضواحي مدينة "بون"الهادئة على ضفاف نهر الراين، تعطينا فكرة واضحة عن حياة هذه المرأة غير العادية ذات النظرات البراقة النافذة . تقول متحدثة عن هذا النزوع الذي سكن فؤادها منذ بدايات حياتها المبكّرة : "لقد أتيحت لي الفرصة منذ نعومة أظافري أن أهتم بالفكر والأدب، ولكوني ابنة ناشر و تاجر كتب مشهور في "كيل "على ساحل بحر الشمال ، فقد نشأتُ بين الكتب، وكان يتردد على بيتنا شعراء وكُتاب وناشرون معروفون، والحقيقة أني كنت أريد أن أدرس الموسيقى، لكن قاعات المحاضرات بالجامعات جذبتني بشدة أكبر، فتعمّقت في الفلسفة وعلوم الأدب الألماني ، وعلم النفس وعلم مقارنة الأديان،على يد أساتذة وفلاسفة كبار في كلٍّ من برلين وفرايبورغ ، وبعد امتحان التخرّج صرتُ مساعدة لباحث العربية المتميز آنذاك "لودفيغ كلاوس" مما أتاح لي الفرصة للإطلاع على الثقافة الشرقية والتعمق فيها ".
وكان من بين العوامل المهمة أو الحاسمة ، التي عزّزت لدى هونكة نزوع التقرّب من العرب و المسلمين و التعمّق في تاريخهم و مساهماتهم في الحضارة الإنسانية ، زواجُها من أكاديمي له اهتمامات مماثلة ، كان عضواً في إحدى البعثات الدبلوماسية الألمانية ، ويتكلم العربية بطلاقة ، هو الدكتور شولتزا ؛ و قد أنجبا ابناً يشتغل أستاذاً جامعياً للتاريخ الحديث، وبنتين .. تشتغل الأولى بمهنة الطب ، في حين تشتغل الثانية معلمة أو مربية في حقل التعليم . وكانت وفاة هونكة بمدينة هامبورغ في شهر نوفمبر 1999 م عن عمر ناهز 86 عاماً ، قضتها في البحث عن الحقيقة ، و نشر قيم التسامح والتقارب بين الحضارات والثقافات الإنسانية ، والإشادة بأثر العرب والمسلمين في تطوّر حركة الفكر والعلم . وكان طبيعياً أن تختم حياتها الحافلة بالعطاء والنشاط بأحسن خاتمة ، ألا وهي اعتناق الإسلام . فقد نقل عبدالرزاق المبارك عن الدكتور علي عبدالله الدفّاع ــ أستاذ الرياضيات والباحث المعروف بجامعة البترول والمعادن بالظهران بالمملكة العربية السعودية ــ خبر إسلامها قبل وفاتها ، حيث قال : كنتُ في أحد المؤتمرات العلمية في أوربا وقد تحدثتُ إلى الدكتورة هونكة ـ وكنتُ مطلعاً على كتاباتها وإنصافها لعقيدتنا وحضارتنا ورأيتُها وقد كبِرتْ سِنُّها ـ قلت لها: إن لي حُلماً جميلاً أرجو له أن يتحقق!! فقالت لي: وما هذا الحلم..؟ قال فأجبتُها: بأن حياتك العلمية والثقافية الطويلة حافلة بصفحات ناصعة في الدفاع عن مآثر العرب والمسلمين وتاريخهم ، و إني لأرجو أن يكون لهذه الحياة الحافلة وهذه السيرة العلمية المميزة تكملة جميلة ، وأن تُختم بأحسن ختام وذاك بأن تعتنقي الإسلام . قال : فرأيتُ عينيها اغرورقتا بالدموع .. ثم قالت لي بالعربية الفصيحة: "بيني وبين ذلك قاب قوسين أوأدنى".. قال فما مرّ عام أو أكثر حتى سمعتُ خبر اعتناقها للإسلام وسمعتُ خبر وفاتها بعد ذلك بمدة ، رحمها الله تعالى "..
و قد حزنتُ شخصياً على عدم اهتبالي فرصة التأكد من هذه المعلومة ، إذ أتيح لي اللقاء خلال النصف الأول من شهر يناير سنة 2003 م ـ أي بعد رحيل هونكة بأكثر من ثلاث سنوات ـ بمؤرخ العلوم في الحضارة الإسلامية الدكتور علي عبدالله الدفاع بفندق قصر الرياض ( بعاصمة المملكة العربية السعودية ) ، إبان المشاركة في فعاليات المهرجان الوطني للتراث والثقافة الثامن عشر ( الجنادرية ) ؛ وفاتني سؤاله عن هذه المسألة التي أعتقد أن باحثين كثيرين يهمّهم العلم بها .
هونكة والحرص على تثبيت الحقيقة :
كانت السيدة هونكة منذ تعلقها بالتنقيب والبحث في الأديان والفلسفات والآداب ، شغوفة إلى أبعد الحدود ، بالتعرّف على الحقائق بغضّ النظر عن مصادرها أو مظانها الأصلية ، مع إبداء حرص واضح إزاء تثبيتها في أذهان القراء والباحثين . وقد صرّحت بذلك أكثر من مرة بقولها " وكنتُ كلما اكتشفتُ أخطاء أو آراء متحيزة وغير صائبة ، أشعر بضيق وانزعاج ، بل بغضب شديد ، وكانت النتيجة دوما تأليف كتاب ".
وتتابع قولها في هذا السياق :"كنت أسمع وأقرأ على الدوام بأننا ندين بالفضل في حضارتنا الغربية لليونان والرومان وحدهم! وأننا لم نكن نعرف عن العرب شيئا بشكل عام ، عدا أننا أخذنا عنهم "الأرقام العربية " وكلمة "الجبر" .. لا بل إن الرأي السائد كان هو أن العرب مجرد سعاة بريد نقلوا الفكر الإغريقي دون أن يقدّموا أيّ إنجازات مبدعة خاصة بهم . فمَنْ الذي كان يعرف ، أو كان مستعداً ـ وقتها ـ للإعتراف بالتأثير الكبير للحضارة العربية العظيمة والعلوم العربية في العصور الوسطى على بلاد الغرب؟!".
وقد ساقها هذا الدافع المتأصل في نحيزتها وكينونتها الصافية ، نهاية خمسينيات القرن العشرين إلى الإنكباب على الآلة الكاتبة ، لكنها لم تؤلف مجرد كتاب علمي جاف، بل متعة جذابة مفهومة من قِبل الجميع ، ولم يزل هذا الكتاب يستحوذ على إعجاب الباحثين في تاريخ الحضارة وعامة الناس على حد سواء، على الرُّغم من صفحاته الكثيرة التي تقترب من الستمائة ، وتتجاوزها في بعض الطبعات ( حسب خط الطباعة ) ، ذلك أنه مكتوب بلغة مفعمة بالحيوية، ويحتوي كثيرا من المعلومات الأساسية القيمة في مجال الحضارة والتاريخ و العلم و و الفلك و الرياضيات و الهندسة و الإبداعات العلمية المتنوّعة ، إنه كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" .. فقد أصبح هذا الكتاب مرجعا نموذجيا دوليا .. بعد الضجّة التي أثارها أثناء صدوره . ففي مقدمة الطبعة التي ترجمها الأستاذان فاروق بيضون و كمال دسوقي ، يذكر المترجمان بأن ظهور هذا الكتاب سنة 1960 كان " حدثاً كبيراً في ألمانيا و أوروبا ، فقد علّقت عليه مئات الصحف والمجلات ، بدليل أن نقاد أوروبا لم يهتموا بشيء في ذاك العام ، اهتمامهم بهذا الكتاب ، فهاجم عشرات منهم المؤلفة والكتاب معاً ، واتهموها بالتعصّب للعرب والتحيّز لهم . بيد أن أصدقاء العرب في كلّ مكان انبروا يفندون مزاعم و أباطيل هؤلاء ويردّون على مَيْنِهم و افتراءاتهم ، فشهد الكتاب في عامه الأول معركةً حامية الوطيس ، لم يعرفها كتابٌ غيره في ألمانيا ، وبهذا لاقى الكتاب وسط هذه الضجة ، نجاحاً منقطع النظير ، فأعيد طبعه و تُرجم إلى عدد من اللغات الأجنبية " .
وقد أفصحت هونكة نفسها في تقديمها لكتابها ، عن نزوعها و رغبتها في تثبيت حقائق التاريخ ، وأثر العرب والمسلمين في حضارة الغرب ، وذلك بقولها " لقد صمّمتُ على كتابة هذا المؤلف ، وأردتُ أن أكرم العبقرية العربية .. كما أردتُ أن أقدم للعرب الشكر على فضلهم ، الذي حرمهم من سماعه طويلاً تعصّب ديني أعمى أو جهل أحمق ، وكم سُررت أن يترجم كتابي هذا إلى اللغة العربية ، حتى أحدّث مباشرة قلوب العرب بما يعتمل في نفوسنا من المشاعر ، و آمل مخلصةً أن يحتلّ هذا الكتاب مكانةً في العالم العربي أيضاً كسجل لماضي العرب العظيم وأثرهم المثمر على أوروبا والعالم قاطبة " .
ومن أبرز مؤلفات هونكة التي أعقبت ظهور كتاب شمس العرب تسطع على الغرب ، كتاب " الله ليس كذلك " والذي تُرجم أيضاً بعنوان " الله مختلف تماماً " و كتاب " من أفول الغرب إلى طلوع أوروبا : تغيّر العقلية واحتمالات المستقبل " .. وقد واصلت هونكة في هذين الكتابين شرح ما ذكرته مجملاً في كتاب شمس العرب ، فكشفتْ العديد من المغالطات التي تمّ توظيفها ظلماً بالعرب والمسلمين ، حيث شرحت للقراء الأوروبيين صورة الإنسان المسلم كما عرضها القرآن مدعومة بنماذج إنسانية مبهرة من تاريخ المسلمين وحضارتهم . كما فنّدت بأسلوب مقنع مزاعم بعض دوائر الغرب و مؤسساته التي ما فتئت تدّعي و تُروّج فرية اضطهاد المرأة في الإسلام ، حيث بيّنت لقرائها حقيقة مكانة المرأة في الإسلام بأدلة قطعية لا تقبل الدحض أو البطلان ، و أرجعت بعض السلبيات القائمة في واقع بعض المجتمعات المسلمة إلى أنماط بعينها من الأعراف والتقاليد الاجتماعية .
و صفوة القول أن الباحثة زيغريد هونكه رحمها الله ، في كلّ ما كتبت تدعو إلى التفاهم المتبادل و إلى السلام بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب ، و نبذ الحروب ، التي تكلف الإنسانية الكثير من الأرواح و الأموال ؛ بينما استعمال الحكمة يفضي غالباً إلى التقارب و التوافق واكتشاف مساحات جديدة للقاء والتعاون والتواصل ، و ذلك طريقه واضح ــ بنظرها ـ فهو يتمثل في احترام الآخر و فتح أبواب الحوار معه ، وإبداء النيّة الصادقة لمحاورته وفهمه . وفي اعتقاد هونكة أن من أفضل نماذج التاريخ التي برهنتْ على سلامة هذا الطريق السلطان الناصر " صلاح الدين الأيوبي " و الإمبراطور " فريدريك الثاني" ... فحين تمكّن صلاح الدين الأيوبي من استرداد بيت المقدس (583هـ / 1187م) التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبل (492هـ / 1099م) بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحة لا تدانيها مذبحةٌ وحشيةً وقسوةً، فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقامًا لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته و عفوه، وأسبغ عليهم من جُودِه ورحمته، ضاربًا المثل في التخلق بروح الفروسية العالية، وعلى العكس من المسلمين، لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزام خُلقي تجاه كلمة الشرف.. فالملك ريتشارد قلب الأسد الذي أقسم بشرفه لثلاثة آلاف أسير عربي بأن حياتهم آمنة .. انقلب مزاجه فجأة متجاهلاً القسم فأمر بقتلهم جميعًا !!
أما الامبراطور فريدريك الثاني ـ ملك صقلية ـ فقد كان أول مَن مدّ جسراً فكرياً عبر البحر الأبيض المتوسط ، وأسس جامعة نابولي سنة 1224 م ، وشجّع حركة ترجمة الكتب العربية إلى عديد اللغات الأوروبية ، واستوعب الكثير من المعارف والإنجازات العلمية العربية و حرص على نقل علوم المسلمين إلى أوروبا . دون أن يخفي ذلك ، حتى تجرأ عليه بعض القساوسة و رجال الكنيسة فاتهموه بالخروج عن الدين !!!
أخيراً أسجل بأنني تشرّفتُ بلقاء الباحثة الدكتورة زيغريد هونكة ، حين كنتُ طالباً في الجامعة ، أثناء حضوري ملتقى الفكر الإسلامي التاسع عشر بمدينة بجاية الجزائرية ، خلال شهر أغسطس سنة 1985 م ؛ و ما زلت أتذكر جيداً ابتسامتها وحديثها ومناقشاتها مع الطلبة والباحثين الذين حضروا ذلك الملتقى الكبير الذي كانت وزارة الشؤون الدينية في الجزائر تدأب على تنظيمه سنوياً . وكثيراً ما كانت تستعمل اللغة العربية في حديثها ، غير أنها ألقتْ محاضرتها في الملتقى باللغة الإنجليزية ، ربما لكونها اللغة المشتركة لدى أغلب ضيوف الملتقى و لتوفر خدمة الترجمة الفورية ، هذا الملتقى العظيم المبهر الذي حضره أيضا إلى جانب الوفود العلمية ، الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات . وما زالت العبارة التي استهلّت بها هونكة محاضرتها ترنّ في أذني حتى هذه الساعة ، وهي " السلام عليكم يا أصدقائي المسلمين " ممهورة بابتسامة صادقة ، أعقبها تصفيق الحضور غبطةً و ابتهاجاً و تفاعلاً .
حقا إن زيغريد هونكه رحمها الله تعالى ، بما وضعتْ من مؤلفات ، وبما طرحتْ من أفكار ، وبما أثبتتْ من حقائق .. أسهمتْ إسهاماً مقدوراً في ترسيخ تقاليد المصالحة والتفاهم المتبادل بين الشعوب والأديان والثقافات والحضارات ، حتى غدتْ رمزاً وقدوةً و أنموذجاً احتذى به العديد من المستشرقين و الباحثين في أوروبا و ديار الغرب بصفة عامة . ومن حقها علينا ــ نحن أصحاب الأقلام ــ عدم نسيانها ، بل من الواجب المعرفي تذكير الأجيال الجديدة من المثقفين والباحثين الناشئين وتعريفهم بتجربتها الرائدة في التقريب والمصالحة وترسيخ روح السلام والوئام بين جميع سكان العالم و إقرار الدور و المساهمة الرائدة للعرب و المسلمين عامة في إرساء العلوم و المعارف و رفد الحضارة الإنسانية .