1247

0

الموت جوعًا في غزة: حين يتحول الطعام إلى سلاح إبادة في يد الاحتلال

في سابقة لم يشهد لها تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي مثيلًا، أعلنت منظمة الأمم المتحدة، وبصفة رسمية، حالة المجاعة في قطاع غزة، لتُسجّل هذه اللحظة كأكثر صفحات التاريخ الحديث قتامة ودموية، ليس لأنها مجرد كارثة إنسانية طارئة فحسب، بل لأنها نتاج مباشر لمشروع سياسي صهيوني يقوم على تحويل الجوع والعطش إلى أدوات إبادة جماعية، وليست هذه المجاعة نتيجة ظرف طبيعي قاهر أو كارثة من فعل الطبيعة، بل هي حصيلة هندسة ممنهجة، وتخطيط استراتيجي يقوده الكيان الإسرائيلي ضمن مشروعه القديم الجديد، مشروع “إسرائيل الكبرى” الذي لا يتردد في سحق الملايين تحت حجارة أطماعه.

فالمجاعة اليوم في غزة ليست مجرد أزمة غذاء، بل هي جزء عضوي من آلة الاحتلال التي تقتل بالسيف والرصاص والقنابل، وتقتل بصمت عبر التجويع والحرمان والمرض، لتُضاف هذه الجريمة إلى سلسلة طويلة من الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها هذا الكيان منذ زرعه في جسد المنطقة.

إن التجويع الممنهج ليس سوى الوجه الآخر لحصار امتد لسنوات طويلة على غزة، حيث كان الاحتلال يحدد حتى سعرات الطعام المسموح بدخولها للقطاع، في عملية غير إنسانية حولت حياة الناس إلى معادلات باردة على طاولات قادة جيش الاحتلال، واليوم، ومع الإعلان الأممي عن حالة المجاعة، ينكشف القناع بشكل كامل عن مشروع الاحتلال الذي لم يكتف بقتل الأطفال تحت الركام ولا بتهجير العائلات قسرًا ولا بتدمير البنية التحتية عن بكرة أبيها، بل مضى أبعد من ذلك ليحوّل رغيف الخبز إلى ترف، وقطرة الماء إلى أداة ابتزاز، والدواء إلى حلم بعيد المنال، هذا الإعلان الأممي يفضح للعالم أجمع أن ما يحدث في غزة ليس مجرد حرب، بل إبادة صريحة، إبادة تُمارس بأساليب متعددة تبدأ بالقصف وتنتهي بالتجويع.

ليجد الفلسطيني نفسه مطاردًا حتى في حقه البيولوجي في البقاء، ومع ذلك، فإن الاستنكار الدولي بقي، كعادته، صوتًا خافتًا لا يرتقي إلى حجم الجريمة، فيما تواصل القوى الغربية توفير المظلة السياسية والدعم العسكري والمالي للكيان المحتل، في مشهد يعكس نفاقًا صارخًا ومعايير مزدوجة تُسقط كل ما تبقى من مصداقية شعارات حقوق الإنسان والعدالة الدولية.

إن ما يجري اليوم في غزة لا ينفصل عن مشروع التهجير الذي يسعى الاحتلال إلى فرضه قسرًا، فالمجاعة أداة من أدوات دفع الناس إلى الخروج من أرضهم، إلى مغادرة بيوتهم المهدمة، إلى الرحيل نحو المجهول، إنها حلقة في مسلسل اقتلاع الفلسطيني من جذوره وإعادة احتلال غزة بالكامل ضمن رؤية استعمارية توسعية لا ترى في الفلسطيني إلا عائقًا ينبغي إزالته، غير أن التاريخ أثبت أن هذا الشعب، الذي لم تكسره نكبة 1948 ولا هزيمة 1967 ولا الاجتياحات ولا الحروب المتكررة، لن تكسره أيضًا سياسة التجويع، فالفلسطيني الذي يحوّل حجارة الركام إلى بيوت مؤقتة سيحوّل أيضًا كسرة الخبز اليابس إلى وقود صمود، لكن الجريمة تبقى جريمة، والسكوت عليها تواطؤ، وغضّ الطرف عنها خيانة لكل القيم الإنسانية.

الجزائر، التي حملت دائمًا لواء الدفاع عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، كانت واضحة في بيانها الأخير، حين أدانت بشدة هذه السياسات الصهيونية الإجرامية واعتبرتها جزءًا من حرب إبادة شاملة، مؤكدة أن ما يحدث في غزة ليس سوى تنفيذ حرفي لمشروع “إسرائيل الكبرى” الذي يهدد المنطقة برمتها، وأن الحفاظ على مقومات حل الدولتين بات ضرورة وجودية لإنقاذ ما تبقى من أمل في تسوية عادلة ودائمة، لكن الحقيقة أن هذا الحل نفسه يتآكل تحت وقع الجرائم اليومية، ما لم يتحرك المجتمع الدولي بجدية ويضع حدًا لآلة الاحتلال، ويوقف نزيف الدم والجوع في غزة قبل أن يتحول القطاع إلى مقبرة جماعية مفتوحة، لقد قالت الجزائر بوضوح إنها ستواصل تحركاتها في مجلس الأمن لدعم الشعب الفلسطيني والدفع نحو إنهاء هذه الكارثة غير المسبوقة، وهذا الموقف ليس جديدًا على الجزائر، لكنه اليوم يأخذ بعدًا أكثر إلحاحًا، لأن غزة تقف على حافة الفناء الجماعي، ولأن الاحتلال يستخدم سلاح الجوع بوقاحة لا حدود لها أمام عيون العالم.

إن إعلان المجاعة في غزة هو لحظة سقوط أخلاقي مدوٍّ للنظام الدولي، وللأمم المتحدة ذاتها التي تكتفي بالتصريحات ولا تملك الجرأة على فرض قراراتها، بينما يواصل الاحتلال ارتكاب أبشع الجرائم في وضح النهار، ووسط صمت رسمي دولي يرقى إلى التواطؤ، فكيف يمكن أن يفهم العالم أن أطفال غزة يموتون عطشًا وجوعًا في القرن الحادي والعشرين بينما الطائرات الإسرائيلية، المدعومة أميركيًا وأوروبيًا، تواصل قصف المستشفيات والمدارس ومخازن الغذاء، وكيف يمكن أن يُسمّى هذا سوى إبادة جماعية موصوفة، إن المجاعة ليست عرضًا جانبيًا للحرب، إنها سلاح بحد ذاته، سلاح اخترعه الاحتلال ليكسر إرادة شعب لم تنكسر منذ أكثر من سبعة عقود، لكن الحقيقة التي يحاول الاحتلال طمسها أن المجاعة لن تلغي ذاكرة الفلسطيني، ولن تمحو حقه، ولن تدفعه للاستسلام، بل ستزيد من عزيمته وتزيد من فضح هذا الكيان أمام شعوب العالم.

غزة اليوم تموت جوعًا، والعالم ينظر، والاحتلال يخطط لمزيد من القتل والتهجير، لكن التاريخ سيكتب أن هناك كيانًا جعل رغيف الخبز ساحة معركة، وأن هناك شعوبًا وحكومات فضّلت الصمت على مواجهة الحق، وسيكتب أيضًا أن الجزائر كانت من بين الأصوات القليلة التي صرخت في وجه الجريمة وقالت إن فلسطين ستبقى، وإن القدس ستظل عاصمتها الأبدية، مهما اشتد الحصار، ومهما طال ليل الجوع.

بن معمر الحاج عيسى

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services