53

0

المنيعة تُنقّب في ذاكرة الرمل والحجر: ملتقى وطني يُعيد رسم ملامح المدينة عبر التاريخ

باحثون ومؤرخون يُعيدون قراءة الإرث المادي والرمزي للجنوب في ملتقى "تاريخ وتراث المنيعة عبر العصور"

 

 


في قلب الصحراء الجزائرية، حيث يلتقي عبق التاريخ بأنفاس الحاضر، شهدت ولاية المنيعة صباح يوم الأربعاء، انطلاق فعاليات الملتقى الوطني حول "تاريخ وتراث مدينة المنيعة عبر العصور"، الذي ينظمه المتحف العمومي الوطني بالمنيعة بالتنسيق مع جامعة تمنراست،.

لحسن الهوصاوي 

واحتضنت  قاعة المحاضرات بالمجلس الشعبي الولائي،  الملتقى حضوري وعن بُعد، ليُؤسّس لمسار بحثي جديد استمر ليومين، يهدف إلى إعادة قراءة هوية المدينة بوصفها ذاكرة حية تختزن روح الجنوب الجزائري الأصيل.
 الذاكرة الوطنية في خطاب التنمية الثقافية
 وبالمناسبه أشرف والي الولاية مختار بن مالك على الافتتاح الرسمي للملتقى، إلى جانب رئيس المجلس الشعبي الولائي معاد جبريط، ومديرة المتحف العمومي الوطني أم الخير هامل، ومدير الثقافة والفنون ياسين العابد، بحضور ممثلين عن الأسرة الثورية والأجهزة الأمنية والمجتمع المدني، إضافة إلى باحثين وأساتذة جامعيين.  

 

 




تواجد أمني بمعنى ثقافي... الذاكرة مسؤولية مشتركة. 
لم يكن حضور ممثلي الشرطة والدرك الوطني والحماية المدنية في افتتاح الملتقى حضورًا شكليًا فحسب، بل تجسيدًا لوعيٍ مؤسساتيٍّ عميقٍ بأهمية الأمن الثقافي والذاكرة الوطنية.
فالقوى الأمنية، وهي التي تحمي اليوم الإنسان والمجتمع، تدرك أن الذاكرة جزء من أمن الوطن، وأن حماية التراث لا تقل أهمية عن حماية الحدود.

 التاريخ ذاكرة تُبنى بها الأوطان

في كلمته الافتتاحية، أكد والي ولاية المنيعة مختار بن مالك أن هذا الملتقى ليس مجرد تظاهرة أكاديمية، بل محطة وعي ووفاء تُعيد وصل الحاضر بجذور الماضي، وتؤسس لرؤية تنموية تُبنى على أساس الذاكرة والهوية.

 


وقال الوالي: "تاريخ المنيعة ليس حكاية تُروى، بل رسالة تُحيا في وجدان أبنائها، فهو سجلٌّ للبطولة والعلم والصمود، وامتدادٌ للهوية الوطنية في بعدها الجنوبي الأصيل."
وأضاف أن الدولة تولي أهمية كبرى لمثل هذه الملتقيات التي تحوّل التاريخ إلى رافعة للتنمية المحلية والسياحة الثقافية، مشددًا على أن الحفاظ على التراث لا يكون فقط بالحجارة والمخطوطات، بل بغرس الوعي في الأجيال الجديدة بأهمية الانتماء إلى ذاكرة المكان.

وختم كلمته بالتأكيد على أن المنيعة مؤهلة لتكون قطبًا ثقافيًا وطنيًا، بفضل ما تزخر به من إرث حضاري وإنساني فريد، داعيًا الباحثين والمختصين إلى تحويل نتائج هذا الملتقى إلى مشاريع ملموسة تُثري المسار الثقافي الوطني.

 

 المنيعة تستحق أن تُروى كما هي... مدينة الأصالة والعلم

وفي كلمته، ثمّن رئيس المجلس الشعبي الولائي، معاد جبريط، تنظيم هذا الملتقى الوطني الذي يعيد الاعتبار لتاريخ المنيعة العريق، مؤكدًا أن “الحديث عن المنيعة هو حديث عن مدينة جمعت بين البعد الحضاري والعلمي والروحي، مدينة كانت وما زالت شاهدة على تحولات كبرى في عمق الصحراء الجزائرية”.
وأشار جبريط إلى أن المجلس الشعبي الولائي يعتبر البعد الثقافي والتاريخي مكوّنًا أساسيًا في مسار التنمية المحلية، داعيًا إلى إدماج التراث في السياسات العمومية من خلال مشاريع تثمين القصور القديمة والمواقع الأثرية، وجعلها فضاءات حية للبحث والتكوين والسياحة.
وختم قائلاً إن الذاكرة الجماعية ليست ترفًا فكريًا، بل ركيزة في بناء هوية متماسكة ووطن موحد، مشيدًا بتلاحم المؤسسات المدنية والأمنية والعلمية في سبيل حفظ هذا الإرث المشترك.

المتحف ذاكرة مفتوحة على البحث والعلم والمجتمع

وفي كلمتها، أكدت مديرة المتحف العمومي الوطني بالمنيعة، أم الخير الهامل، أن تنظيم هذا الملتقى يأتي تجسيدًا للرؤية الوطنية في تحويل المتاحف من فضاءات للعرض إلى فضاءات للفكر والبحث والتكوين، معتبرة أن “كل قطعة أثرية تحمل قصة وطن، وكل حجر من قصور المنيعة يُجسّد فصلًا من فصول الهوية الجزائرية”.
وشدّدت على أن المتحف يسعى إلى أن يكون ذاكرة مفتوحة أمام الباحثين والطلبة والمجتمع المدني، من خلال مشاريع علمية وتربوية تُعزّز الوعي التاريخي لدى الأجيال الجديدة، وتربطهم بجذورهم الثقافية.
كما أشارت إلى أن هذا الملتقى ليس نهايةً لمسارٍ بحثي، بل بداية لشراكات علمية دائمة مع الجامعات الوطنية، في إطار استراتيجية تهدف إلى رقمنة التراث وتوثيق الذاكرة المحلية، بما يضمن حفظها ونقلها للأجيال القادمة.

 

المنيعة بوابة الجنوب الثقافي وذاكرةٌ تُكتب من جديد

من جهته، أكد مدير الثقافة والفنون لولاية المنيعة، ياسين العابد، أن هذا الملتقى الوطني يُعد خطوة نوعية في مسار إحياء الذاكرة الثقافية للمدينة وتثمين موروثها الإنساني، مشيرًا إلى أن “المنيعة ليست فقط فضاءً جغرافيًا، بل متحف حيٌّ في قلب الصحراء يختزن قرونًا من التاريخ والعمارة والعلم”.
وأوضح العابد أن القطاع الثقافي يعمل وفق رؤية تشاركية تجمع بين المتاحف والجامعات والجمعيات المحلية من أجل تحويل التراث إلى مورد ثقافي وتنموي، يعزز مكانة الولاية كوجهة وطنية للسياحة الثقافية.
وأضاف أن وزارة الثقافة والفنون تراهن على المنيعة لتكون قطبًا ثقافيًا في الجنوب الكبير، من خلال دعم المبادرات الأكاديمية وتعميم الرقمنة في توثيق الموروث المادي واللامادي، مؤكدًا أن “الثقافة حين تتكامل مع الأمن والتعليم والسياحة، تتحول إلى ركيزة للتنمية المستدامة”.

 

 نحو تحويل تراث المنيعة إلى رافعة للسياحة الثقافية

وفي كلمته، أكد مدير السياحة والصناعة التقليدية، لبصير إسماعيل، أن ملتقى “تاريخ وتراث مدينة المنيعة عبر العصور” يمثل فرصة ثمينة لإعادة التفكير في التراث كمورد اقتصادي وثقافي في آن واحد، مشيرًا إلى أن “السياحة ليست مجرد تنقل بين الأمكنة، بل رحلة في الذاكرة والهوية، تبدأ من قراءة التاريخ وتنتهي بصناعة تجربة ثقافية متكاملة”.
وأوضح لبصير أن قطاعه يعمل على دمج البعد السياحي بالبعد الأكاديمي، من خلال إنشاء مسارات سياحية تربط بين القصور القديمة والمواقع الأثرية والواحات، بهدف جعل المنيعة وجهة سياحية ثقافية مستدامة تستقطب الزوار والباحثين على حد سواء.
كما شدّد على أهمية الصناعة التقليدية المحلية كجزء من الهوية الثقافية للمدينة، مبرزًا أن الحرف اليدوية المنيعية ليست منتجات تراثية فحسب، بل لغة من لغات الذاكرة الجماعية التي تحكي تاريخ الأجداد وتنقل عبق الأصالة عبر الأجيال.
وختم مداخلته بالتأكيد على أن التكامل بين الثقافة والسياحة هو السبيل الأمثل لبناء اقتصاد محلي متجذر في التاريخ ومفتوح على المستقبل.

 

جلسات علمية تُعيد قراءة المكان والإنسان

ترأس الدكتور عبد الجليل ملاخ أولى الجلسات العلمية، التي جمعت باحثين من جامعات الجزائر، تمنراست، غرداية، بسكرة، وأدرار. وقد تنوعت المداخلات بين قراءة في التحولات الثقافية لعصور ما قبل التاريخ واستعراض الشواهد الأثرية التي تثبت استقرار الإنسان بالمنطقة، وصولاً إلى دراسة العمارة القصرية في قصر القليعة كرمز للهندسة المحلية الأصيلة، ودور المرأة المنيعية في الحفاظ على الهوية ونقل القيم التراثية، إلى جانب التراث الجهادي للمدينة، من خلال سيرة المجاهد حمة بلحاج ومشاركته في معارك التحرير.
كما طرحت مداخلات أكاديمية أخرى للدكتور نواصر عبد الرحمان والدكتورة وابل بختة من جامعة تمنراست حول إشكالية كتابة التاريخ المحلي، من خلال تحليل مقاربات الرحالة والمستكشفين الغربيين الذين وثّقوا للجنوب الجزائري بمنظورات مختلفة، داعين إلى مقاربة وطنية علمية تُنصف الذاكرة المحلية وتستعيد أصالتها

وتناولت  الجلسات العلمية التي تناولت محاور متعددة، من أبرزها:التحولات الثقافية في عصور ما قبل التاريخ واستقرار الإنسان بالمنطقة، مقاربات الرحالة والمستكشفين في كتابة التاريخ المحلي،المرأة المنيعية كذاكرة حافظة للهوية ورمز للتماسك الاجتماعي،العمارة القصرية في قصر القليعة كأنموذج للهندسة المحلية الأصيلة، التوثيق التاريخي لدور المجاهد حمة بلحاج في المقاومة الوطنية.
هذه الأوراق البحثية لم تكتف بعرض سردي للأحداث، بل قدّمت مقاربات تحليلية جديدة تعزز من فهم العلاقة بين المكان والتاريخ والإنسان، وتجعل من المنيعة مختبرًا مفتوحًا للبحث في مسارات الذاكرة الوطنية.
من الذاكرة إلى التنمية... سياحة تُبنى على التراث
وفي اليوم الثاني من الملتقى، تحوّل النقاش إلى آليات تثمين التراث المحلي من خلال الرقمنة والتوثيق، وربط ذلك برؤية تنموية تجعل من المنيعة وجهة للسياحة الثقافية.  كما خُصصت جلسة تكريمية للحديث عن المرأة المجاهدة فاطنة مصاطفى ودورها في الثورة التحريرية، في مشهد جمع بين الاعتراف بالتاريخ والوفاء للأصالة.
مدير الثقافة والفنون ياسين العابد اعتبر أن الملتقى يشكل “انطلاقة جديدة نحو بناء قطب ثقافي وطني يُعنى بالتاريخ والتراث”، مؤكداً أن المنيعة تملك كل مقومات الريادة الثقافية والعلمية في الجنوب.

مداخلات الملتقى في يومه الثاني
الجلسة العلمية الأولى عن بعد برئاسة الدكتورة يمينة بن صغير تضمنت المداخلات التالية :
مداخلة د/ رحيمة بيشي  جامعة غرداية بعنوان : المعارك والاشتباكات  بالمنيعة أثناء ثورة التحرير من خلال كتاب :تطور الثورة الجزائرية في ناحية غرداية للباحث عبد الحليم بيشي. .

مداخلة د/ مجاهدي ابراهيم جامعة أبي بكر بلقايد _تلمسان_ بعنوان: أضرحة وشباب الأولياء الصالحين بمنطقة المنيعة : المعطيات التاريخية و المميزات المعمارية .

مداخلة د/ زهية حاج محمد جامعة البليدة02 بعنوان: المتحف العمومي الوطني بالمنيعة بين حفظ الذاكرة وتثمين التراث:قراءة في الأدوار الرمزية و الثقافية .
مداخلة د/إسماعيل سعيدي  جامعة أدرار  بعنوان: البعثات الاستكشافية  الفرنسية لمنطقة المنيعة ودورها في التوغل الاستعماري.
مداخلة أ.د / صلاح الدين وانس جامعة غرداية  بعنوان: نشاط جمعية الآباء البيض التبشيري  في مدينة المنيعة : المعطيات التاريخية و المميزات المعمارية .
مداخلة د/ حني محفوظ جامعة غرداية  بعنوان: نشاط المؤسسة التنصيرية في مدينة المنيعة .
مداخلة  ط.د/ حساني موسى  مخبر التاريخ والحضارة و الجغرافية التطبيقية _المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة .جامعة البليدة02 بعنوان: دور الإعلام في صون التراث الثقافي الجزائري لقصر المنيعة .
مداخلة د(ة)/محمة عائشة جامعة غرداية  بعنوان: واحة المنيعة من خلال كتاب بول صولاي (1843_1886) L'Afrique occidental Algérie Mzab_Tidikelt.
مداخلة د/بوبكر محمد السعيد  جامعة غرداية بعنوان:وصف المنيعة قبل الاحتلال من خلال مصادر الرحالة و المستكشفين.
مداخلة د/ نصيرة نواصر جامعة غرداية  بعنوان: اسهامات مجاهدي منطقة المنيعة في الثورة الجزائرية _عرض نموذج_
مداخلة د/صورية دين جامعة الجزائر 02  بعنوان: مساهمة المرأة المنيعية في النشاط الثوري _فاطنة مصاطفى أنموذجا_.
مداخلة صورية دين جامعة الجزائر 02 بعنوان: اسهامات مجاهدي منطقة المنيعة في الثورة الجزائرية _عرض نموذج_.
مداخلة ط.د/أسماء  عجال جامعة قالمة بعنوان: إسهامات مدينة المنيعة في الكفاح الوطني الجزائري _عرض نموذج_.
مداخلة د/مريقي مصعب جامعة غرداية بعنوان: المجاهد أولاد حيمودة محمد : مسيرته النضالية و العسكرية أثناء الثورة التحريرية الجزائرية .
مداخلة ط(ة).د/ عمارية عيساوي جامعة تلمسان بعنوان : اسهامات المنيعة في الحركة الوطنية و الثورة التحريرية "دراسة في الأدوار والرموز".
مداخلة د/آل سيد الشيخ سعاد جامعة غرداية بعنوان: المنيعة من خلال كتب الرحلة خلال العهد العثماني .
مداخلة د/بعلي محمد جامعة أحمد زبانة غيليزان بعنوان : من أعلام وعلماء مدينة المنيعة _الشيخ عمر بن الحاج محمد النصيري أنموذجا_.
مداخلة د/ شريفي مراد جامعة المدية بعنوان : السياحة الثقافية بمدينة المنيعة الامكانيات و الآفاق المستقبلية .
مداخلة د/نوال بن صغير جامعة الجلفة(مخبر الدراسات التاريخية و الإنسانية )  بعنوان : التوثيق التاريخي لمدينة المنيعة وسائله وطرقه.

 



في ختام المداولات، أكد مدير الثقافة والفنون ياسين العابد أن هذا الملتقى يمثل “بداية جديدة لتفعيل البحث العلمي وبناء شراكة مؤسساتية تجعل من المنيعة قطبًا ثقافيًا وطنيًا يعكس عمق الجزائر وتنوعها الحضاري


توصيات ختامية... وذاكرة تتجدد
اختُتم الملتقى بجملة من التوصيات الهادفة، أبرزها:إنشاء مركز بحث دائم حول تاريخ وتراث المنيعة، إدراج المدينة ضمن المسارات السياحية الوطنية، و إطلاق برامج رقمية لتوثيق المخطوطات والعمارة القصرية.

بهذه التوصيات، تُثبت المنيعة أن التاريخ ليس مجرد ماضٍ يُروى، بل حاضر يُبنى ومستقبل يُصاغ، حيث تتحول الذاكرة الجماعية إلى مشروع وطني متجدد يعكس عمق الجزائر وأصالتها الثقافية.

 

ختام يليق بمقام الذاكرة... وتكريم لروّاد المعرفة

اختُتمت أشغال الملتقى الوطني في أجواء احتفالية مفعمة بالفخر والاعتزاز، بعد يومين من النقاشات العلمية الثرية والمداخلات الأكاديمية الهادفة، التي أثمرت توصيات عملية ومقترحات بنّاءة لإبراز تاريخ وتراث المنيعة في المشهد الوطني.
وقد أشرف والي الولاية، إلى جانب السلطات المدنية والأمنية، على حفل تكريم خاص للدكاترة المحاضرين والمشاركين الذين ساهموا في إنجاح هذا الحدث العلمي والثقافي المميز، تقديرًا لعطاءاتهم وجهودهم في خدمة البحث والتاريخ الوطني.
هذا التكريم، الذي جاء ثمرة تعاون مؤسساتي وجماعي ناجح، عكس روح الامتنان والاعتراف بقيمة الفكر والمعرفة، ليُختتم الملتقى برسالة رمزية مفادها أن المنيعة لا تُكرم الأشخاص فحسب، بل تُكرم الذاكرة الوطنية التي يحملونها.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services