1029
0
المنيعة تُعيد تعريف "العمل التشاركي": من لجان الأحياء إلى هندسة الأمن والتنمية
تحقيق ميداني من قلب اللقاء الولائي: حين يصبح المواطن شريكًا في القرار… لا متفرجًا على نتائجه


في قاعة الاجتماعات الكبرى بولاية المنيعة، كانت المقاعد ممتلئة منذ الصباح. رؤساء لجان الأحياء، ممثلو الجمعيات، إطارات الإدارة، رجال الأمن والحماية المدنية، وحتى الإعلام المحلي… الجميع جاؤوا بشغفٍ واحد: كيف يمكن أن يتحول المجتمع المدني من متفرّج إلى صانع قرار؟
لحسن الهوصاوي
كان المشهد مختلفاً عن اللقاءات الإدارية المعتادة: لغة الحوار بدت أكثر انفتاحاً، والأسئلة أكثر واقعية. الوجوه المألوفة في الأحياء الشعبية جلست هذه المرة قبالة المسؤولين التنفيذيين، لا لتقديم شكاوى، بل لتشارك في وضع الحلول.

بداية التحول: رؤية رئاسية تتجسّد في الميدان
اللقاء، الذي جرى تحت رعاية والي الولاية بن مالك مختار، وبالتنسيق مع المرصد الوطني للمجتمع المدني، جاء ليترجم فعلياً مبدأ "الديمقراطية التشاركية" التي تشكل إحدى ركائز الجمهورية الجديدة.
يقول مسعود كروط، المفتش العام للولاية، في كلمته الافتتاحية التي مثّل فيها الوالي: لم يعد المجتمع المدني مجرد صوت مساعد، بل أصبح أحد أعمدة الدولة الحديثة. دوره اليوم هو الجسر الذي يربط المواطن بالمؤسسات، ويراقب جودة التنمية من الميدان لا من التقارير.”
كلمات بدت كأنها إعلان رسمي عن نهاية عهد التسيير الأحادي وبداية عهد الشراكة الميدانية.
صوت الإدارة: بين التسيير والإنصات
وفي كلمته خلال اللقاء، أوضح مدير التقنين والشؤون العامة، السيد حملاوي يعقوب، أن العلاقة بين الإدارة والمجتمع المدني لم تعد علاقة "تسيير من فوق"، بل تحولت إلى شراكة قائمة على التشاور والتكامل.
وقال حملاوي: “الإدارة ليست سلطة تقرّر بمعزل عن المواطن، بل فضاءٌ للتفاعل والتنسيق. نريد أن نُشرك المواطن في تحديد الأولويات التنموية ومتابعة المشاريع، لأن من يعيش التحديات هو الأقدر على تشخيصها.”

وأكد أن الإدارة الولائية تعمل على تأطير ومرافقة الجمعيات لتكون أكثر احترافية في عملها، مشيراً إلى أن لجان الأحياء هي "الخط الأمامي للإنصات الميداني"، وهي التي تساهم في إنجاح المشاريع العمومية عبر مراقبة تنفيذها على الأرض ونقل انشغالات المواطنين بشفافية ومسؤولية. وختم قائلاً: “لا تنمية دون مشاركة، ولا مشاركة دون ثقة متبادلة. وهذه اللقاءات هي الخطوة الأولى لترسيخ الثقة التي تُبنى بالفعل الميداني لا بالوعود.”
المجتمع المدني... من الحضور الرمزي إلى التأثير الحقيقي
خلال جلسات النقاش، تصاعدت نبرة المشاركين وهم يتحدثون عن واقع الجمعيات في الميدان، وكيف يمكن أن تصبح فعلاً قوة اقتراح ومبادرة لا مجرد ناقل للمطالب.
وضح ممثل المرصد الوطني للمجتمع المدني أحمد نوح أن الهدف من هذه اللقاءات هو “تحويل الجمعيات إلى عين المواطن في الميدان”، مضيف: نحن لا نريد جمعيات انتظار، بل جمعيات مبادرة. مهمتنا هي أن نمنحها الأدوات لتكون طرفاً فاعلاً في رسم السياسات المحلية.”
بهذه الرؤية، لم يعد الحديث عن المجتمع المدني شعاراً سياسياً، بل مشروعاً ميدانياً تتبناه الدولة وتواكبه مؤسساتها.

الأمن والمواطنة: شراكة تتجاوز التبليغ
في ركنٍ آخر من القاعة، كان حضور ممثلي الشرطة والدرك الوطني لافتاً. لم يكتفوا بإلقاء كلمات رسمية، بل فتحوا باب الحوار المباشر مع رؤساء الأحياء.
أحد المتدخلين من الأمن الوطني لخّص العلاقة الجديدة بقوله: لجان الأحياء هي خط الدفاع الأول عن الأمن العام، لا كمخبرين بل كشركاء في الوقاية والملاحظة والتبليغ.”
أما ممثل الدرك الوطني، فقد شدد على أن "الأمن لا يغلق أبوابه"، في إشارة واضحة إلى أن المقاربة الأمنية الجديدة تقوم على الانفتاح والثقة المتبادلة، مدعومة بوسائل رقمية كـ الرقم الأخضر 55-10 وتطبيق “طريقي” لتسهيل التواصل بين المواطن والأجهزة الأمنية.
هكذا، يتحول الأمن من سلطة منفذة إلى ثقافة مجتمعية مشتركة.
الحماية المدنية: الوقاية مسؤولية الجميع
من جهته، أكد المقدم قداوي نصر الدين مدير الحماية المدنية أن الجمعيات المحلية يمكن أن تكون عاملاً حاسماً في الوقاية من الكوارث الطبيعية، بحكم قربها من نقاط الخطر. أحد الضباط أوضح قائلاً:
في كل أزمة، الوقت هو الفارق بين الخطر والسيطرة عليه، والمجتمع المدني هو أول من يلاحظ التغيرات في الميدان.” هذه المقاربة الجديدة تضع المواطن في قلب منظومة الاستجابة السريعة، وتُرسخ ما تسميه الحماية المدنية بـ"المرونة المجتمعية".
البيئة... وجه آخر للمواطنة
ولأن التنمية لا تنفصل عن الوعي البيئي، فقد شدد ممثل مديرية البيئة على أن “الحفاظ على المحيط هو ممارسة مواطناتية، وليست حملة موسمية”.الجمعيات، بحسبه، يمكن أن تكون أداة ضغط إيجابية لترقية الحس البيئي، كما حدث في مبادرات التشجير والنظافة الأخيرة التي انطلقت من داخل الأحياء الشعبية نفسها.
تناغم إداري ومجتمعي غير مسبوق
اللقاء عرف حضوراً متنوعاً من مندوبي القطاعات المختلفة: الشؤون الدينية، الثقافة، السياحة، النشاط الاجتماعي، وحتى الوكالة العقارية. ذلك التنوع جعل الحوار أشبه بـ"ورشة وطنية مصغرة" للحوكمة التشاركية، حيث تمت مناقشة ملفات الأمن، البيئة، الثقافة، والاندماج الاجتماعي ضمن رؤية واحدة.
الخلاصة: من المنيعة... تبدأ الحكاية
مع اختتام الأشغال، بدا واضحاً أن الحدث تجاوز حدود المناسبة التنظيمية ليشكل تجربة ميدانية قابلة للتعميم وطنياً.
أكد المفتش العام للولاية مسعود كروط في كلمته الختامية أن توصيات اللقاء ستُرفع إلى المرصد الوطني للمجتمع المدني، مع التزام الولاية بمتابعتها ميدانياً.
نجاح أي مشروع تنموي أو أمني مرهون بوعي المواطن ومشاركته. فالمجتمع المدني هو الامتداد الطبيعي للدولة في الشارع، وصوتها الحي في الأحياء.”
تلك الكلمات تلخص فلسفة جديدة في إدارة الشأن المحلي: الأمن يُبنى بالثقة، والتنمية تنجح بالشراكة، والمواطنة تُترجم بالفعل لا بالشعارات.
وهكذا، تُعيد المنيعة من خلال هذه التجربة صياغة العلاقة بين المواطن ومؤسساته، لتتحول إلى نموذج مصغر للجزائر التي تتنفس وعياً، وتبني بالتشارك لا بالأوامر.

