20
0
الكتابة.. دواء الروح في لقاء أدبي مؤثر لمرضى السرطان بـ"دار واحة"

احتضنت دار واحة بالمدينة الجديدة علي منجلي، صباح اليوم ، لقاءً أدبيًا مميزًا نظمته جمعية واحة لمساعدة مرضى السرطان، بمناسبة الذكرى السنوية لتأسيسها، في أجواء تملؤها الإنسانية والامتنان للحياة، تحت شعار "الكلمة التي تزرع الأمل، والإنسان الذي يجعل من الإبداع رسالة حياة".
صبرينة دلومي
اللقاء، الذي حمل عنوان "لحظات تكريم ومشاركة وجدانية مع أصدقاء واحة"، جمع بين دفء القلوب وصدق الكلمة، حيث تخللته قراءات شعرية ونثرية مؤثرة، ومداخلات فكرية تناولت دور الأدب في تخفيف المعاناة النفسية ومساندة الإنسان في مواجهة المرض. وكان الحضور مزيجًا من المرضى المتعافين، والأطباء، والمختصين في علم النفس والاجتماع، إلى جانب وجوه ثقافية مهتمة بالشأن الإبداعي الإنساني.
سامية خنوف.. من وجع المرض إلى قصائد المقاومة
من بين الشهادات التي لامست الحاضرين، برزت قصة سامية خنوف، التي استطاعت تحويل إصابتها بالسرطان إلى مصدر إلهام وتجربة إنسانية عميقة.
تقول سامية بصوت هادئ لكنه يحمل قوة التجربة: "منذ طفولتي كنت أعشق القراءة، وكانت الكتب عالمي الصغير، لكن إصابتي بالسرطان فتحت أمامي بابًا جديدًا، جعلني أكتشف نفسي من خلال الكتابة. كنت أكتب لأفهم الألم، لأتصالح مع الخوف، ولأقول للحياة إنني ما زلت هنا".
تروي سامية كيف بدأت رحلتها الشعرية بقصيدة عنوانها "احذر يا سرطان"، ثم تلتها نصوص مثل "قدر محتوم" و*"الإعدام"*، التي كتبتها يوم خضعت لعملية البتر. وتصف تلك اللحظة قائلة: "كنت في دوامة من الألم، لكن القصيدة أنقذتني من الانكسار. الورقة كانت أمانًا، والقلم وسيلتي الوحيدة لأتنفس".
اليوم، وبعد أن تعافت، أصبحت سامية رمزًا للأمل، تؤمن بأن الكتابة ليست ترفًا، بل فعل مقاومة صامتة ضد القهر والوجع.
حين تصبح الكتابة خلاصًا من العزلة ووسيلة لإعادة بناء الذات
أما مريضة أخرى وناشطة بالجمعية، فقد شاركت تجربتها المؤثرة مع المرض، مبيّنة أن الكتابة كانت بالنسبة لها خلاصًا من العزلة وأداة لإعادة بناء الذات بعد فترة عصيبة. تقول: "بدأت أكتب خواطر بسيطة بالعربية والفرنسية، أعبّر فيها عن مخاوفي وأحلامي الصغيرة، لكن مع مرور الوقت صار القلم صديقي الأقرب، وعدت إليه بعد أن خذلتني الكلمات زمنًا طويلًا بسبب المرض والضعف".
وتضيف بابتسامة يغمرها الأمل: "الكتابة جعلتني أحب الحياة من جديد، وأدرك أن الألم يمكن أن يتحول إلى طاقة جميلة، إذا وجد طريقه نحو الورق".
قصتها لم تكن استثناءً في ذلك اللقاء، بل كانت نموذجًا متكررًا للنساء اللواتي تحدّين المرض بالكلمة، وكتبن من أعماق الألم نصوصًا نابضة بالحياة، جعلت الحاضرين يصفقون لصدقها أكثر من جمالها الأدبي.
من الانكسار إلى التوازن النفسي عبر الكلمة
مريضة أخرى روت تجربة مختلفة، أكثر وجعًا، بعد أن تخلى عنها زوجها فور إصابتها بالمرض، لكنها وجدت في الجمعية العون والسند. قالت بدموع ممزوجة بالامتنان: "كنت في صدمة، لم أستطع تقبل الواقع، لكن الدعم الذي وجدته في جمعية واحة أعاد إلي الثقة، وجعلني أؤمن أن الإنسان لا يُقاس بما يفقد، بل بما يصنع من ألمه"، مضيفة أن الورشة الأدبية أعطتها القدرة على التعبير دون خوف، وأنها اليوم تكتب لتشكر الحياة على فرصة النجاة.
الكتابة كعلاج نفسي وروحي
من جهتها، أكدت المختصة في علم النفس فريدة إبراهيمي أن الكتابة التعبيرية تُعد اليوم من أهم الوسائل العلاجية المكمّلة لعلاج مرضى السرطان والأمراض المزمنة، مشيرة إلى أن هذا النوع من التعبير لا يقتصر على الجانب النفسي فحسب، بل يمتد ليعالج تجربة المريض الإنسانية بكل ما تحمله من خوف وفقدان وسيطرة على الألم.
وأضافت أن العلاج التعبيري يشمل الكتابة، والفن التشكيلي، والحكي السردي، والموسيقى، موضحة أن دراسات حديثة أثبتت أن الكتابة العلاجية تخفف من القلق والتوتر، وتقلل من عدد الزيارات الطبية، بل وتساهم في رفع مناعة الجسم وتحسين المزاج العام.
وترى أن القلم والورقة يقدمان للإنسان مساحة آمنة للبوح، تمنحه الإحساس بالتحكم في مشاعره، وتزرع فيه الثقة والرضا، مما يساعده على اكتشاف ذاته وتجاوز آلامه بطريقة صحية وبناءة.
الكلمة مرآة الروح وصوت الإنسان
أما الأستاذة نادية بن سديرة، المختصة في علم الاجتماع، فقد تحدثت عن البعد الإنساني والاجتماعي للكلمة، مؤكدة أن التعبير بالكلمات هو أرقى ما يملكه الإنسان لمواجهة أزماته، قائلة: "منذ الأزل كانت الكلمة وسيلة لتضميد الجراح، فالإنسان حين يكتب يترجم مشاعره ويمارس شكلاً من التحرر الداخلي"، وأضافت أن الأزمات الكبرى والحروب كثيرًا ما أنجبت أجمل القصائد وأصدق النصوص، لأن الألم يولد الإبداع، ويمنح الإنسان عمقًا لا يصله إلا عبر التجربة.
وترى الأستاذة بن سديرة أن الورقة والقلم يمثلان أمانًا روحيًا لمن لا يجد أذنًا تسمعه، فالتعبير المكتوب يعيد التوازن بين الإنسان ونفسه، ويخلق جسور تواصل مع الآخرين. كما أكدت أن الدعم الاجتماعي والمرافقة النفسية لمرضى السرطان لا تقل أهمية عن العلاج الطبي، فكل مريض يحتاج إلى من يسمعه، ويمد له يد الأمل وسط عزلته الداخلية.
لقاء جمع الأمل والكلمة
اختُتم اللقاء الأدبي وسط أجواء مؤثرة غلبت عليها الدموع والابتسامات، حيث شعر الحضور بأنهم جزء من تجربة إنسانية راقية أعادت الاعتبار لقيمة الكلمة كوسيلة للشفاء والبوح.
لقد أثبتت جمعية واحة من خلال هذا اللقاء أن الثقافة يمكن أن تكون جسرًا بين الألم والرجاء، وأن الكتابة ليست مجرد هواية، بل فعل حياة يمنح الإنسان القدرة على المقاومة والنهوض من تحت ركام المرض، بروح تكتب لتعيش، لا لتبكي.

