1414

0

القائد الأسير مروان البرغوثي: 24 عامًا خلف القضبان.. رمزٌ لا يُكسر وإرادةٌ لا تُقهَر

 

بقلم: بن معمر الحاج عيسى

 

 في زنزانةٍ ضيقة بَسَطت ظلالها على جدران سجن "هداريم" شمال فلسطين المحتلة، يقبع القائد الفلسطيني مروان البرغوثي، الرجل الذي حوَّلَ السجنَ من مكانٍ للقمع إلى منصةٍ للنضال، ومن ساحةِ احتجاز إلى رمزٍ للصمود.

في الخامس عشر من أبريل/نيسان 2025، يُكمل البرغوثي عامه الرابع والعشرين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، محكومًا بخمسة أحكامٍ بالسجن المؤبد (مدى الحياة)، لكنه يبقى خارج الزنزانة بقوة كلمته، وثبات موقفه، واتساع تأثيره الذي اخترق القضبان ليرسم ملامح قضيةٍ تحمل اسم فلسطين. وُلد البرغوثي في قرية كوبر قرب رام الله عام 1958، وبدأ مسيرته النضالية مبكرًا.

فقبل أن يُكمل الثانوية العامة، اعتُقلَ لأول مرة عام 1976 بسبب مشاركته في مظاهراتٍ ضد الاحتلال، لتبدأ رحلته مع السجون التي لم تنتهِ حتى اليوم. لكن السجن لم يكن سوى محطةٍ في مسيرة تعليمية استثنائية: حصل على الثانوية العامة داخل الزنزانة، وتعلم العبرية والفرنسية والإنجليزية، ثم واصلَ دراسته الجامعية ليحصل على البكالوريوس في التاريخ والعلوم السياسية من جامعة بيرزيت، والماجستير في العلاقات الدولية، قبل أن ينال الدكتوراه في العلوم السياسية عام 2010 من معهد البحوث التابع لجامعة الدول العربية، وهو ما يُجسِّدُ إصرارًا نادرًا على تحدي القيود بالعلم.

انخرط البرغوثي في العمل السياسي مع حركة فتح منذ سبعينيات القرن الماضي، وبرز كقائدٍ طلابي في جامعة بيرزيت، حيث ترأس مجلس الطلبة وأسس نواةً للعمل الوطني بين الشباب. ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، أصبح أحد أبرز وجوهها، مما جعله هدفًا للاحتلال الذي حاول إبعاده عن الساحة مرارًا.

نُفي إلى الأردن عام 1987، لكنه ظلَّ يعمل من المنفى ضمن اللجنة العليا للانتفاضة، قبل أن يعود إلى أرض الوطن عام 1994 بعد اتفاقيات أوسلو، ليتولى مسؤولياتٍ سياسيةٍ كبيرة، منها عضوية المجلس التشريعي الفلسطيني عام 1996.

لكن مسيرة البرغوثي لم تكن سهلة. فبين عاميْ 1984 و2002، تعرض للاعتقال مراتٍ عديدة، والإقامة الجبرية، وحتى محاولات الاغتيال.

في إحداها، أطلقت مروحيات الاحتلال صواريخٍ على سيارته، وفي أخرى وُجهت إليه سيارةٌ ملغومة. لكن الذروة كانت في ابريل/نيسان 2002، عندما اجتاحت القوات الإسرائيلية رام الله خلال انتفاضة الأقصى، واقتحمت مقرَّ البرغوثي لتعتقله بعد مطاردةٍ دامت أشهرًا.

في محاكمةٍ وصفها مراقبون بأنها "مسرحية هزلية"، حُكم على البرغوثي عام 2004 بخمسة مؤبدات و40 عامًا بتهمة "التحريض على القتل"، وهو ما نفاه دائمًا، رافضًا شرعية المحكمة الإسرائيلية. وقف البرغوثي في قفص الاتهام قائلًا: "جئتم بي هنا بالقوة.. لا أريد اتهاماتكم. لن تُكسر إرادتنا، نحن نناضل من أجل الحرية.. لن يكون سلامٌ قبل إنهاء الاحتلال".

كلماته تلك لم تكن مجرد دفاعٍ عن نفسه، بل بيانًا سياسيًا حوَّلَ قاعة المحكمة إلى منبرٍ عالمي للقضية الفلسطينية.

رغم القضبان، لم ينقطع البرغوثي عن المشهد السياسي، ففي سجنه، كتبَ بحوثًا وكتبًا مثل "ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي" و*"الوعد"، وأصدر عام 2006 – بالاشتراك مع قادة أسرى آخرين – "وثيقة الوفاق الوطني"، التي مهَّدت لاتفاق المصالحة بين فتح وحماس في مكة. وفي مؤتمر فتح السابع عام 2016، فاز بعضوية اللجنة المركزية للحركة بنسبة 70% من الأصوات، ليصبح أول سجينٍ يُنتخب لموقعٍ قيادي بهذا الحجم.

تقول زوجته فدوى البرغوثي: *"مروان اليوم أقوى من أي وقتٍ مضى.. لقد أفشل مخطط إسكاته".

اليوم، وبينما يُكمل عامه الـ24 في الأسر، يظل البرغوثي رمزًا للأسرى البالغ عددهم 6500 سجين، يعاني المئات منهم من التعذيب والإهمال الطبي، وفق تقارير حقوقية. قضيته تذكيرٌ بألمٍ فلسطيني جماعي: فكل عائلةٍ فلسطينية تقريبًا مرَّ أحد أفرادها بتجربة السجن. ومع ذلك، يحمل البرغوثي رسالةً مختلفة: فسجنه ليس علامة هزيمة، بل دليلٌ على أن الاحتلال فشل في كسر الإرادة الفلسطينية، حتى عندما يغلق الأبواب.

في زنزانته، يتابع البرغوثي الأحداث اليومية عبر رسائل تُهرب له، ويُدلي بمواقفه من الواقع الفلسطيني والعربي.

قبل سنوات، أطلقَ مع مجموعة أسرى إضرابًا عن الطعام استمر 40 يومًا، للمطالبة بتحسين أوضاع السجناء، مُثبتًا أن المعركة تستمر حتى خلف الجدران. وفي كل ذكرى لاعتقاله، تتجدد الحملات المطالبة بإطلاق سراحه، من فلسطين إلى الأمم المتحدة، حيث اعتبرته منظمات حقوقية "أسير رأي".

لكن البرغوثي ليس مجرد سجينٍ أو قائد سياسي، إنه جزءٌ من ذاكرة الشعب الفلسطيني، وشاهدٌ على أربعة عقود من النضال: من الحجر في الانتفاضة الأولى، إلى صفارات الإنذار في غرف التوقيف، إلى مفاوضات السلام التي رأى فيها طريقًا مسدودًا دون إنهاء الاحتلال.

مسيرته تلخّص مأساة جيلٍ كامل: فمنذ أن كان طالبًا في بيرزيت، وحتى وهو في الـ67 من عمره، لم يعشْ فلسطينًا واحدةً خارج القيود. الغريب أن الاحتلال، برغم سجنه للبرغوثي، لم يستطع سجن أفكاره. فالشباب الفلسطيني اليوم، الذين وُلدوا بعد اعتقاله، يرفعون صورته في المظاهرات، ويستلهمون من كتاباته. وفي كل مرةٍ تُنشر فيها صورة له خلف القضبان، يذكّر العالم بأن فلسطين لا تزال تحت الاحتلال، وأن "مدى الحياة" بالنسبة للبرغوثي ليست حُكمًا، بل تحدٍّ لإرادة لم تُهزم بعد.

في الذكرى الـ24 لاعتقاله، يبقى السؤال: متى يُفكّ القيد عن رجلٍ حوّل سجنه إلى مدرسةٍ للنضال؟ الجواب قد يكون في كلمات البرغوثي نفسه: "سيأتي اليوم الذي نُحرر فيه أرضنا، لأن الشعوب لا تموت". حتى ذلك الحين، سيظل البرغوثي خلف القضبان.. قائدًا لا يُغيّب، ورمزًا لا يُنسى. 

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services