46940
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 152

بقلم اسماعين تماووست
مع اقتراب نهاية عام 1986، كانت الجزائر تشهد فترة عصيبة، تخللتها أزمات معقدة أثرت على الأمان والاستقرار.
القضية الجنائية التي هزت مدرسة الشرطة في "الصومعة ولاية البليدة" كانت من بين تلك القضايا التي تركت في النفوس جرحًا غائرًا.
لم تكن مجرد قضية عابرة، بل كانت انعكاسًا لحالة من الإحباط العام، حيث اعتُبرت الهزيمة فيها ضربًا من الخيانة للواجب. ورغم أنني أدركت حينها أن المستقبل لن يكون سهلًا، إلا أنني كنت أعلم أن معركة البقاء تتطلب منا ثباتًا يتجاوز حدود الصعوبات.
الخطر الأكبر كان الزمن، لم تكن خسارة الوقت مجرد عقبة، بل أداة زادت من قوة عدونا، كل دقيقة تمر دون إحراز تقدم كانت تُقرِّبهم من أهدافهم المظلمة.
ومع ذلك، لم نتوقف عن البحث. يومًا بعد يوم، كنا نطارد خيوطًا ضئيلة، نحاول أن نجد أي أثر يمكن أن يكشف لنا مخابئ المجرمين أو يفضح شركاءهم، لكن النتائج كانت دائمًا مخيبة، لا شيء سوى الفراغ الذي يبتلع الجهود ويزيد من ثقل الواقع.
ورغم تلك العقبات، لم نتراجع، لم يكن الإحباط خيارًا. بل على العكس، كنا نجد في يأسنا قوة جديدة، كان اليأس بمثابة وقود يُشعل فينا التصميم على كسر دوامة العنف، مهما كلفنا ذلك من ثمن. كنا نعلم أن وقف هذه الجرائم يتطلب منا أكثر من مجرد شجاعة، بل وضوحًا في الرؤية وقدرة على مواجهة الخطر دون تردد.
كان علينا تحديد التهديدات المحيطة بنا بدقة. لم يكن الهدف فقط حماية أنفسنا، بل أيضًا تجنب الوقوع في دوامة من الإحباط التي يمكن أن تشل قدراتنا وتزرع فينا الخوف من الفشل ، فالخوف لم يكن خيارًا متاحًا، ليس ونحن نقف في وجه أعداء بلا رحمة، أعداء تجاوزوا كل القوانين، سواء كانت إلهية أو بشرية.
في تلك الأيام، كنت أشعر أنا وفريقي بأننا نواجه أكثر من مجرد قضية جنائية، كنا نرى في كل خطوة أننا ندافع عن وطننا الوحيد، الجزائر. وطن أصبح هدفًا لمؤامرات خبيثة تهدف إلى زعزعة استقراره وتدمير وحدته. أعداءنا لم يكونوا مجرد مجرمين، بل كانوا أدوات لقوى تسعى إلى تفكيك كل ما نؤمن به.
لم يكن هدف هؤلاء مجرد خرقوا القوانين، بل سحقوا كل ما تمثله الإنسانية من قيم. كانوا يرون أن السلطة القانونية عقبة أمام مخططاتهم، بينما كنا نراها الدرع الذي يحمي البشر ويضمن استمرار الحياة في وئام وسلام. لكن هذا الوئام كان يتعرض للتمزيق، وكان علينا أن نعيد بناءه مهما كانت التضحيات.
لقد كانت تلك الأيام تضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن نستسلم للهزيمة، أو أن نحول اليأس إلى قوة تقودنا للنصر. وبالنسبة لنا، لم يكن الاستسلام مطروحًا. كنا نقاتل، ليس فقط من أجل تحقيق العدالة، بل من أجل الحفاظ على مستقبل وطننا الذي كان على المحك.
في تلك الفترة المظلمة من الصراع، كنتُ أشعر بعبىء المسؤولية يثقل كاهلي، أنا وزملائي كنا ندرك تمامًا أن الجزائر، وطننا الذي نحبه ونحميه بكل ما أوتينا من قوة، كانت تتعرض لحملة تدمير ممنهجة، أعداء الوطن كانوا قد أداروا ظهورهم لكل القوانين، الإلهية منها والبشرية، وتحولوا إلى وحوش لا تعرف الرحمة، تسعى لابتلاع الأرواح البريئة من نساء وأطفال ورجال بلا تمييز.
في داخلي، عانيت من صراع لا يهدأ؛ صراع بين إنسانيتي ورغبتي في حماية هؤلاء الأبرياء، وبين الحقيقة المؤلمة التي كنت أراها تتجسد أمامي يومًا بعد يوم.
الخيانة كانت تقود هؤلاء المجرمين، والجهل كان يغذي قلوبهم بالحقد، وكنتُ أتساءل دومًا: هل يدركون المصير الذي ينتظرهم؟ هؤلاء الذين تجرأوا على جعل الخيانة عقيدة، والظلامية أسلوب حياة؟
كنت أعلم أن استيقاظهم، إن حدث، سيكون متأخرًا، سيجدون أنفسهم ضائعين، وحيدين، يسيرون نحو جحيم أبدي صنعوه بأيديهم. ولكن، بين كل هذه الأفكار، كنت أجد القوة في إيماني بواجبي كشرطي، وكإنسان.
كانت الأوضاع تتدهور بسرعة مذهلة، والقلق يملأ القلوب، في تلك اللحظات، كان علينا نحن رجال الشرطة أن نكون في الصفوف الأمامية، أن نواجه الخطر بلا تردد، كنتُ أرى في أعين زملائي خوفًا نحاول جميعًا إخفاءه، ولكنني كنتُ أذكّر نفسي دائمًا بأن الواجب الوطني أكبر من أي خوف.
لقد أدركت حينها أنني لست مجرد مفتش يحقق في القضايا ويلاحق الجناة؛ بل جزء من نضال أكبر، نضال من أجل الحفاظ على وطننا. كنت أعي أن كلماتي وأفعالي ستترك أثرًا، وأن واجبي يتجاوز اللحظة الراهنة ليصل إلى الأجيال القادمة.
يتبع...