82489

0

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 145

بقلم اسماعين تماووست 

كان مصير النساء والرجال في تلك الحقبة المظلمة، بكل ما حملته من أهوال ومخاطر، مرتبطًا بشكل مأساوي بقرارات قائد تمرد مشؤوم، وبتواطؤ مجموعة من المسؤولين الذين كنت أصفهم حينها بعديمي الوعي بخطورة الخطر المحدق بالأمة. هذا الافتقار إلى البصيرة كان يمكن أن يدفعنا إلى هاوية من الخسائر التي لا تعوض، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي، أو الأهم من ذلك على مستوى الأرواح البشرية.

كانت هناك مؤامرة خبيثة تُحاك في الخفاء، تسير بخطى ثابتة، وهدفها الوحيد هو إشعال فتيل حرب أهلية دامية يُسفك فيها دم الجزائريين والجزائريات،  لم تكن تلك الأفكار الشيطانية، التي تُبنى على التدمير والخيانة، بعيدة عن أساليب المستعمر الفرنسي الذي حاول كسر إرادة هذا الشعب ذات يوم.

بالنسبة لأولئك الذين لم يعيشوا تلك الحقبة المروعة، من الصعب أن يتصوروا عمق المأساة. أما أنا، كشاهد عايش الأحداث بكل تفاصيلها وكفاعل في قلبها، فلا أستطيع إلا أن أشارك جزءًا من هذه القصة المؤلمة. كنت أعمل مفتشًا في جهاز الشرطة، وكان دوري يتجاوز المهام الروتينية. لقد كنت في الصفوف الأولى لمواجهة الخطر، أجمع الأدلة، وأطارد الإرهابيين، وأكشف المؤامرات التي كانت تُحاك في الظلام.

كان عملي يتطلب شجاعة استثنائية، ليس فقط في مواجهة الأعداء المسلحين، بل أيضًا في تحمل عبىء المسؤولية الثقيلة، لم يكن قرار الخروج لمواجهة الخطر مجرد مهمة وظيفية، بل كان خيارًا أخلاقيًا. كنت أعلم أن كل خطوة خاطئة قد تكلف أرواحًا بريئة، وأن ترددنا أو خوفنا قد يفتح بابًا واسعًا للإرهاب ليتمدد وينتشر.

كنت أعمل ليلاً ونهارًا، أتنقل بين الجبال والسهول، وبين الأزقة المظلمة، محاولًا منع الكارثة قبل وقوعها. لم أكن أواجه فقط رصاص الإرهاب، بل كنت أواجه أيضًا ظلال الشك والخيانة، حتى من بعض الذين كان يُفترض أن يكونوا حلفاء.

ولكن رغم كل تلك الصعوبات، لم أستسلم يومًا. كنت أؤمن أن الجزائر تستحق التضحية، وأن شعبها الطيب يستحق العيش بكرامة وأمان. لقد اخترت أن أحمل السلاح دفاعًا عن وطني وأهلي، وألا أتهاون أو أستسلم للخوف.

إن معركتي ضد الإرهاب لم تكن فقط معركة على الأرض، بل كانت أيضًا معركة في روحي. كنت أواجه صراعًا بين الواجب والخوف، بين النور والظلام، وأعلم أن كل قرار وكل تضحية لها ثمنها. ولكنني، كما الكثير من زملائي المخلصين، اخترنا التضحية، لأننا أدركنا أن الجزائر ليست مجرد وطن نعيش فيه، بل هي كيان يستحق أن نموت من أجله.

لم تكن تلك الحقبة مجرد اختبار للقدرات الأمنية أو العسكرية، بل كانت اختبارًا للإنسانية وللقيم. كان علينا أن نختار: إما أن نقف بشجاعة أمام الطغيان والإرهاب، أو أن ننحني تحت وطأته. وقد اخترنا الوقوف، ليس فقط بأجسادنا، بل بأرواحنا التي ظلت مخلصة لهذا الوطن العزيز.

الجزائر، أرض الشهداء والمجاهدين، ستبقى دائمًا رمزًا للشرف والحرية. وكل من عاش تلك الفترة يدرك أن الدماء التي سالت لم تكن هباءً، بل كانت وقودًا للحياة والكرامة.

بصفتي شرطيًا متمرسًا وممثلًا للقانون، كان دوري الأساسية  استعادة العدالة وحماية الوطن. ومن أجل ذلك، وبإخلاص وشجاعة، قمت بكل ما كان في حدود إمكانياتي، بل وفي بعض الأحيان تجاوزتها، لأن الضرورة كانت تحتم ذلك. ضرورة لتحطيم وسحق كل التهديدات الإرهابية إلى رماد.

لقد تعلمت أن الواجب الوطني لا يقبل التردد أو المساومة، وأن حماية الوطن تتطلب التزامًا لا يعرف الكلل، ولو لم أقم بواجبي بكل الصرامة التي يتطلبها، لكنت خنت جوهر مهمتي. كان عليّ أن أغرس، من خلال مثالي الشخصي، قيم التفاني الكامل لقضيتنا الوطنية. ففي تلك الفترة الزمنية الحرجة،  كانت هذه الأمانة تمثل واجبًا خالدًا ومسؤولية مقدسة تحدد هوية الرجل الذي يحترم وظيفته.

ولكن، ومع كل هذه التضحيات، كنت أجد نفسي أحيانًا في مواجهة تساؤلات فلسفية عميقة. هل من الممكن أن يستقيم ميزان العدالة وسط بحر من الفوضى والخيانة؟ هل يُمكن تحقيق السلام من دون أن تُسفك الدماء؟ وكما قال أحد الفلاسفة: "من لا يدافع عن وطنه، يفقد روحه قبل أن يفقد شرفه."

ومع ذلك، لا بد لي من القول: رغم نبل مهنتنا، لم يكن أداؤها دائمًا في مستوى التحديات التي تهدد وطننا. فقد كان هناك كثير من الجبناء، غير القادرين على مواجهة الخطر، يلجؤون إلى حيل دنيئة للتملص من مسؤولياتهم. بهدوء، كانوا يتوارون عن الأنظار، تاركين ساحة المعركة دون أي ندم على عواقب تقاعسهم.

اليوم، وأنا أنظر إلى الوراء، أدرك أننا لسنا مجرد رجال  أمن، بل شاهدين على صراعات لم تكن فقط مع أعداء الخارج، بل أيضًا مع ضعف الإنسان وتناقضاته. لقد كان التحدي الأكبر دائمًا هو المحافظة على الإيمان – إيمان بالوطن، إيمان بالعدالة، وإيمان بأن التضحيات، مهما بدت قاسية، هي الثمن الوحيد للحفاظ على ما هو أعظم.

من الطبيعي أن يتحلى كل رجل أو امرأة مخلصة لوطنها بالشجاعة التي لا تعرف التردد أو التراجع، وأن يهبّ للدفاع عن أرضه بكل الوسائل الممكنة، حتى وإن كان الثمن حياته. فالولاء للوطن لا يتطلب التفكير مرتين عندما يتعلق الأمر بحمايته من كل خطر يهدده.

أما الذين استسلموا للجبن، فقد ارتكبوا خيانة لا تغتفر في حق أنفسهم قبل وطنهم. خيانة سيحملون عارها على عاتقهم طيلة حياتهم، وستظل تطاردهم كظلٍ ثقيل، تسلبهم السلام الداخلي وراحة البال. هؤلاء الجبناء، بتخاذلهم، فرّطوا في أعظم شرف يمكن للإنسان أن يحققه: شرف التضحية من أجل الوطن.

"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" (الأنفال: 60).
هذا الأمر الإلهي لم يقتصر على توفير القوة المادية فقط، بل يشمل أيضًا القوة المعنوية، قوة الإيمان والجرأة التي لا تعرف الخوف.

الشجاعة ليست مجرد فضيلة، بل هي جوهر الإنسان الأصيل، الذي يضع الكرامة فوق الحياة ذاتها. إنها تلك الصفة التي تميز أصحاب المبادئ عن ضعفاء النفوس، وتؤكد التفوق الأخلاقي لأولئك الذين يقاتلون من أجل الحق.

أما الفوضى والدمار الذي يسعى البعض لإحداثه بين أبناء الوطن الواحد، فهو نتيجة العجز عن مواجهة الواقع بشجاعة، هؤلاء، بعقلية تدميرية وبنية خبيثة، يزرعون الفتنة، لكنهم في نهاية المطاف يسقطون في شر أعمالهم.

الشجاعة ليست غياب الخوف، بل التصرف رغم وجوده، والإقدام في مواجهة الصعاب، حيث يتطلب الوطن رجالاً ونساءً يحملون أرواحهم على أكفهم، ويقفون بصلابة في وجه كل عدو متربص.

وفي النهاية، يبقى التاريخ شاهداً على أفعال الشجعان كما يبقى وصمة عار على جبين الخائنين. الشجاعة ليست مجرد لحظة، بل هي التزام دائم، وإيمان لا يتزعزع بأن الدفاع عن الوطن هو أعلى مراتب الإخلاص والوفاء.

فالوطن ليس مجرد أرض نعيش عليها، بل هو الحياة التي نستمد منها كرامتنا، والمبدأ الذي نُفنى من أجله. إن الذين يتجرأون على الوقوف في وجه الأعداء يدركون أن الموت أهون من العيش بذلٍّ أو خنوع. هؤلاء الشجعان، بأفعالهم الخالدة، هم من يمنحون للحياة معناها الحقيقي، لأنهم يثبتون أن التضحية من أجل الأرض والأهل ليست مجرد واجب، بل هي رسالة خالدة تعبر الأجيال وتضيء طريق المستقبل.

..يتبع

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services