135
0
الحكمة في خطاب الشيخ أبي الحسن الندوي {2}
بقلم محمد مراح
2–العمق
القارئ للعطاء الدعوي للشيخ أبي الحسن الندوي من الناحية النظرية ، يلاحظ وفرة هائلة في المحاضرات التي نقلها مريدوه وتلاميذه إلى كتب أو كتيبات . وكان جمهور تلك المحاضرات متنوعا تنوع المنابر التي أُلقيت فيها ؛ بين مساجد يؤمها عموم المسلمين ، ومراكز ثقافية و إسلامية مفتوحة للعموم أيضا ، وقاعات محاضرات جامعية لجمهور الطلاب الجامعيين ، وتجمعات لمسلمين في بلاد المهجر بالغرب ، ومراكز خاصة .
وقد يكون من الطبيعي أن يغلب على نوعية الطرح الفكري والدعوي في أكثر هذه المقامات توخي البسيط من المعلومات واالأفكار و التوجيهات . ولا غرابة إن إكتست هذا الطابع في مجملها . لكن عند تدقيق الدارس في مضامينها يجد إحتواءها على لفتات بعيدة الغور ، عميقة الملمح ، مما سمح لنا بتوصيف الحكمة لديه بسمة ( العمق ) الذي تثبته أمثلة وافرة ، نورد بعضها فيما يأتي ذكره:
أ ــــ مشاكلة الحقيقة لا توجب مطابقتها : كثيرا ما تدفع الأحوال البائسة، والحكومات الجائرة فئات من الناس وخصوصا الشباب إلى التعبير عن رفضها في صورة الثورة العارمة والرفض العنيف . وقد تصادف أحوالهم نزعة تدين تتطلع للتغير الجذري، بإنتهاج أعنف الوسائل ، على إعتبار الإسلام ثورة ضد الظلم ، والإنحراف . وعلى الرغم من أن الإسلام في العديد من جوانبه هو كذلك، إلا أن مطابقة السلوك مع الحقيقة الدينية قد تلتبس على كثيرين ، بتضليل من المشاكلة بين الحقيقة و موهومها ، فتنجم الإنحرافات وقد تُركّب الشعارات الجاهلية على المبدأ الإسلامي فيعطي الإنطباع على أنه كذلك على الحقيقة، وتحوطا لهذا التلبيس الخطير يرى سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي : ضرورة وجود الدعوة والحركة الإيمانية القويمة ، بمضمونها ومقوماتها ورجالها، تملأ الفراغ الذي نشأ عن مساوئ العصر و حضارته , أما عدم وجودها فستملؤه الحركات والإتجاهات المنحرفة تحت شعارات زائفة باسم الإسلام كالثورية، تجرف إليها القوى الشبابية وكل المتبرمين بواقع الأمة المرير، والعصر الكئيب :(إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)النور : 29
ب ــ تجنب تضخم العضو السياسي في الجسم الإسلامي المنسجم : أثرت أحوال الأمة على كثير من حركات الإحياء الإسلامي، ومنظريها وملهميها، فأصطبغت كتاباتهم بصبغة تفسيرية سياسية لمبادئ وأحكام الإسلام، تدفع بالمتتلمذين عليها إلى النظر و الإشراف على كل الإسلام من النافذة السياسية وحدها بدءا من العقائد إلى المعاملات والأخلاق وحتى العبادات. في حين أن الحقيقة الإسلامية تتسم بالتناسق المعجز الدقيق بين أجزاء جسمها المحكم الصنعة.
وإدراكا من سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله تعالى للتشوه الذي يمكن أن يلحق بالحقيقة الإسلامية بتضخم جانب فيها على غير طبيعته دعا في أكثر من مقام إلى ضرورة تجنب المبالغة في تسيييس عرض الإسلام و تفسيره، والمبالغة في التنظير و وضعه على مستوى الفلسفات، فحقائقه هي أصوله الباقية والدائمة . وقد يكون من المفيد في هذا السياق إعادة قراءة نظراته السياسية على ضوء المستجدات والتحولات التي يمر بها العالم الإسلامي، خصوصا ماتضمنته من ملاحظات على ما يمكن أن يكون عليه الأداء الإسلامي قبيل أو أثناء التمكين الإسلامي .
ج ــ الحضارة الداعية : تشدنا الحكمة الدعوية الندوية إلى لفتة حضارية، تؤكد لنا العمق والثرى الإبداعي في باقة العطاء الدعوي التي خلفها، تعبق بها الأجواء الإسلامية. فقد نبه المسلمين وهم يشيدون معالم حياتهم المعاصرة إلى أهمية تمثيل الحضارة الإسلامية في منجزات المسلمين الحضارية المعاصرة ,، دعوة صامتة للإسلام ؛ذالك أن الأثر الفكري والنفسي لقسمات المنجز الحضاري بليغة بعيدة الغور؛ فالقيم التي تنطوي أو تنطق بها أشياء الحضارة ومظاهرها المادية، تبعث رسائل محددة تخاطب الفكر والوجدان.
د – احتهاد الشارع: الذي يشرع في تداول ما ينزل إليه من خلافات فقهية أو كلامية أي خلافات الرأي في مسائل بطبيعتها إجتهادية تحتمل الآراء المختلفة كما هو مألوف على المستوى العلمي بين المجتهدين والفقهاء والعلماء بمناهج الاستنباط . فيتدوالها الشارع بعقلية ونفسية العامة الذين تتباين مستوياتهم الثقافية، فيفشو بينهم النزاع والتعصب الذي قد يأخذ مداه إلى المواجهات العنيفة. لذا ينصح مولانا الشيخ أبو الحسن الندوي العلماء بحفظ العلم ومقامه بأن يتداولوا خلافاتهم العلمية وفق قواعدها وآدابها، وتجنيب العوام الخوض أو كما قال :عدم تنزيل المسائل الخلافية إلى الشارع. وبالطبع فالأساليب المناسبة لتحقيق ذلك كثيرة ، وقد يكون أجداها تعليم العلماء مريديهم والعامة أن ما يتناهي إلى أسماعهم من خلافات بين العلماء والفقهاء شأن علمي طبيعي، وليس لهم الخوض فيه على اعتبارهم لا يحوزون التأهيل العلمي، فيصير الأمر كالجاهل بالطب ويسمح لنفسه بإعطاء المرضى وصفات علاجية قد تضرهم أو تودى بهم. فبما للعلماء من منزلة مسموعة مطاعة من مريديهم قد يرعوي العامة عن الخوض فيما لا يصح منهم الخوض فيه، مع إلتزام الاقتداء كل بمن يأتم به دون كبير طعن على المخالف .
ه ــ أنسنة الدين : على الرغم من أحكام وشرائع الإسلام يسرها الله تعالى للمكلفين كي تكون في متناول الالتزام فعلا وتركا، فإن مصدرها الإلهي يحفظ عليها التنزيه عن الأنسنة، بمعنى إنزالها منزلة ما يتفتق عنه الفكر البشري من إبداعات ونظم، وآدائها وفق تعبيراتهم اللغوية والاصطلاحية التي مهما بلغت عبقريتها تظل في حدود الإمكان والإبداع البشري وما يعتوره من نقص وعرضة التبدل والتغيير ، لذا فمن الحكمة ـــ كما يرى الشيخ الندوي ـــ ضرورة تنبه الدعاة إلى خطورة تأدية أحكام الدين : فرائض وتشريعات بمضاهاتها بما تعارف عليه البشر من عوائد وممارسات وأنظمة واحتياجات ، أي التنبيه على خطورة المصطلح في نقل الحقائق الدينية والترخص من بعضهم في إطلاقاتها على ما يشابهها من دلالات قد تبدو لغوية أو ممارسات اجتماعية أو رجاءات نفسية أو جسمانية .
و ــ قوة المسلم : القوة في الإسلام والمسلمين هي الأصل ، أما الضعف والنقص والهوان فأعراض لا تُخرج وحدها من حظيرة الإسلام لكنها تضعف الفاعلية، وتُؤخر الإنجاز الإيجابي و النصر . لهذا كان من الواجب على المسلمين إمتلاك القدرة على النفع والضرر، أي أسباب القوة كي يتمكنوا من النفع على إقتدار حين يكون الموقف يقتضيه ، والمقدرة على الضرر حين يقتضى ذلك العدل ودفع الصائل والعدوان
2 – صراحة القول
حملت عناوين رسائل عديدة لأبي الحسن الندوي كلمة ( صريحة ) أو ما تفيده مضافة للجهة المخاطبة بالقول ، كالعرب ومصر وإيران وغيرهها ، مما يكشف عن خاصية من خصائص الحكمة لديه ، وهي القول الصريح في المقام الذي يقتضيها. وقد لزم هذا السَنَنَ في قضايا كثيرة، كالأزمات التي عرضت لها بعض البلاد الإسلامية، والتقصير أو الأخطاء وحتى بعض الإنحرافات التي تظهر لدى العرب خصوصا بإعتبارهم حملة الدعوة الإسلامية الأوائل ، وحامليها للعالم حتى صاروا ممثلي الإسلام على الوجهين الحسن والقبيح لدى الآخرين . ولم ينج من المصارحة الندوية الدعاة وومثلوا الإحياء الإسلامي. وكذلك الشعوب الإسلامية ـ مثلا ـ ما يراه من وجوب إنتهاء حالات الصراع المدمر بين الشعوب الإسلامية والحكام ، وتبدو الأهمية القصوى للحكمة الصريحة هذه في المنعطف الخطير الذي تمر به أمتنا الإسلامية في هذه الأيام ، وعودة الصراعات المذهبية والطائفية، إثر انتهاء الخلافات الأيديولوجية بين الحكومات والدول .
3 – الرمزية
لا شك أن للطبيعة الشاعرة لدى الشيخ أبي الحسن الندوي أثر شديد الوضوح في عطائه الفكري والدعوي، فأنطبع بها منهجه الحكيم ، فخرجت على صورة حكم رمزية تؤدى معاني بليغة نأخذ بعضها :
أ ــ الدنيا وقف : فشبه إستخلاف الإنسانية في الأرض بالوقف الذي يقتضى أن يتُصرف فيه وفق شرط الواقف ، لكن أكثر الناس تعسفوا في الأمر وخالفوه، وذهبوا في الإنتفاع بالوقف حسب مبتغياتهم وشهواتهم . ومن حق العنصر البشري الذي أنتهكت حقوقه في الإنتفاع بريع الوقف كما أذن مالكه الحقيقي واشترط أن يرفعوا الدعاوى القضائية أمام محاكم لتُوقف العدوان وتأمر برد الحال إلى نصابها . لكن العجيب أن المدعى عليهم هم القضاة أنفسهم ، في حين أن المنتظر أن من يقيم المحكمة ويعملوا على الإنصاف ليسوا مؤهلين لهذا بحكم الحال ، ويقصد المسلمين الذين وضح ورسم لهم صاحب الوقف كيفية الانتفاع به، وأقامهم نُظَارا عليه . والحل غير متأتى إلا من خلال مصلحة الأوقاف في هذه الأمة التي عليها حشد قدراتها الدعوية من خطباء ودعاة للإصلاح وجمع الكلمة، وتجنب القضايا الخلافية .
ب ــ هزة الأرض وخصوبة قلوب المؤمنين : علامتان من علامات الحياة الحية على الحقيقة لا المجاز هما : الحركة القوية الواثقة والخصوبة المنتجة المثمرة . وإدراكهما في عالم المادة من أيسر المدركات . لكن سبر القلوب والنفوس للعثور عليهما لا يتُاح إلا من خلال منهج الإيمان الرباني الفياض . لهذا فحركة قلب المؤمن الساجد تهز أرض الركون للمادية الطاغية، وتُحجم سطوتها على الكيان الإنساني في قواه اللطيفة من نفس وفكر وقلب هي جوهره الذي كان به إنسانا يفقد إنسانيته باستسلامه وخنوعه لعرامة الشهوات وثقل المادة . سجدة ـــ كما قال سماحته ــ تهز الأرض بها تقاوم سطوة المادية ، حينئذ تصير الأرض الخصبة في قلوب المؤمنين .أنظر قوله :" ألفت أنظاركم إلى أرض غير هذه الأرض ، قلما حظيت من البلاد الإسلامية باهتمام وعناية ، ألا وهي أرض قلوب أمتنا الإسلامية ، فإنها ذات ثروات زاخرة ، وخزائن ثرة ، وقوى وطاقات مكنونة لا يعلم مداها إلا الله ، ومن الواجب أن نعرف قدرها ، ونبرزها ، ونستخدمها ، ونهيئ لها فرصة العمل والتأثير ) .
نخلص إلى أن خطاب الشيخ أبي الحسن الندوي الدعوي الذي استقطب كما نوعيا من قضايا الدعوة الإسلامية المعاصرة ، قد وسمته حكمته الجليلة ، فترك بهذا للأجيال ما تستضئ به في مسارها في الدعوة إلى الله وتنسج على منواله ، لمن أتاه الله القلب المضيئ بأنوار الإيمان ، والعقل المستنير بحكمة القرآن وخير الأنام صلى الله عليه وسلم.