486
0
الجزائر تتلألأ في صالون باتنة للحلي التقليدي
حين تصوغ الصحراء جمالها بالفضة

في قلب مدينة باتنة، حيث تتقاطع الذاكرة الجبلية للأوراس مع نسمات الصحراء البعيدة، تتلألأ قاعة أسحار كصندوق من الفضة المضيئة،على منصاتها تتجاور الحلي التقليدية والمجوهرات الفاخرة، الزرابي المطرزة بالرموز الأمازيغية، والخناجر النحاسية التي تشع بريقا يشبه وهج الشمس على الكثبان الرملية.
استطلاع: ضياء الدين سعداوي
هنا، في الصالون الوطني للحلي التقليدي والمجوهرات، تجتمع أكثر من ستين أنملة جزائرية من مختلف ولايات الوطن، لتعيد إلى الأذهان فكرة بسيطة وعميقة في آن واحد أن الحرفة ليست مجرد مهنة، بل ذاكرة وطن وموسيقى صامتة تعزفها الأيدي على معادن الأرض.
من باتنة إلى الصحراء رحلة الضوء والذاكرة
منذ اللحظة الأولى لدخولك القاعة تشعر أنك لم تعد في مدينة عادية ، فالألوان والزخارف والملابس التقليدية تجعل من المكان مساحة مفتوحة تتقاطع فيها الجغرافيا بالهوية.
الحرفيون القادمون من إليزي، جانت، تمنغست، إين صالح، بجاية، تيزي وزو، وهران، باتنة و قسنطينة ،كلهم اجتمعوا في هذه البقعة من الشرق الجزائري ليحكوا حكاية الجزائر المتنوعة، من صخرها إلى بحرها ومن جبلها إلى صحرائها.
يقول عبد الوهاب ممو، مدير السياحة والصناعة التقليدية لولاية باتنة للموقع الإخباري "بركة نيوز" وهو يتجول بين الأجنحة بابتسامة واسعة: "مشاركة أزيد من 60 حرفيا قادمين من مختلف ولايات الوطن، من إليزي، جانت، تمنغست، إين صالح، ومنطقة القبائل كبجاية وتيزي وزو، ومن الشرق والغرب الجزائري، هي في حد ذاتها رسالة وحدة وطنية، هذا الصالون ليس مجرد معرض للحرف بل فضاء للتلاقي الثقافي وللتذكير بأن تنوعنا هو أجمل ما في الجزائر."
تغمر كلماته القاعة كما يغمر ضوء المصابيح المعادن اللامعة، إنها رسالة ثقافية بامتياز، تقول إن الفضة يمكن أن تلمع كما يلمع الإنتماء وإن الحرف اليدوية ليست فقط بقايا من الماضي بل مستقبل يصاغ من جديد.
حين تتكلم الفضة لغة الجنوب
في أحد أركان الصالون، تمتد طاولة طويلة تفيض بقطع فنية من الفضة و البرونز والنحاس ، عقود طارڨية، و أساور ثقيلة، وخواتم محفورة بدقة هندسية تشبه نظام النجوم في سماء الأهقار.
تتأمل الزائرات تلك القطع بشغف واضح، بينما يشرح الحرفيون قصصها كمن يسرد حكايات ورثها عن أمهات الصحراء وجدات الرمال.
يقول محمد لهير حرفي من إين صالح وهو يضع قلادة على عنق فتاة صغيرة جاءت مع والدتها: "هذه القلادة اسمها تكخمت ، في الجنوب ترتديها العروس ليلة زفافها وهي ليست زينة فحسب بل رمز للحماية، الحلية عندنا تحمل معنى، فيها بركة الأرض، ونقوش الأجداد، ولمسة الأم."
الفن هنا لا يباع بالوزن أو بالقياس بل يقدر بما يحمله من رموز ومعان ، كل قطعة من الفضة تتضمن تاريخاً مختزلا، وذاكرةً مصوغة في شكل هندسي أو زخرفة دقيقة.
فالطوارڨ، كما يقول بلخير حمادو حرفي من إين صالح، "لا يكتبون سيرهم بالكلمات بل بالحلي".
الشيخ عوامرحارس النقوش الأولى
بين الحلي والزرابي، يبرز جناح مختلف بطابعه الهادئ والغامض.
هناك يقف الشيخ عوامر، النقاش القادم من جانت، بين لوحات خشبية مستوحاة من نقوش الطاسيلي ناجر ، بملابسه ذات اللون الرملي و هو يتكلم العربية بلكنة طارڨية رخيمة، يحدث الزوار عن "حكايات الحجارة" كما يسميها هو ، يقول:"هذه الصخور تتكلم فقط علينا أن نصغي إليها ،في الطاسيلي ستجد رسومات عمرها آلاف السنين، لرجال ونساء وحيوانات لم تعد موجودة اليوم، حين أنقلها إلى لوحاتي، لا أفعل ذلك من أجل الفن فقط، بل من أجل الذاكرة."
يشير بيده إلى لوحة تظهر مشهدا لصيد جماعي، رسم فيها وجوهاً غامضة الملامح، كأنها تطل من فجر الإنسانية ذاته : "أنا لا أرسم أنا أستدعي أرواحهم ، هذه الحرفة تربطنا بمن كنا وبمن سنكون."
تأمل أعماله لا يترك المشاهد عابرا، بل يجبره على التوقف، على التأمل، وربما على التساؤل: كيف يمكن للصخر أن يحتفظ بروح الإنسان آلاف السنين؟ الجواب، كما يبدو في يد الشيخ عوامر التي ما زالت تنحت الزمن كما لو أنه معدن طيع.
محمد كوري سيف تينهينان ومفتاح الأهڨار
على بعد خطوات من هناك، يزدحم جناح آخر بالزوار الذين التفوا حول رجل يرتدي عمامة بيضاء طويلة، وعباءة طارڨية زرقاء فاخرة.
إنه محمد كوري من تمنغست، الذي جاء ليعرض تحفته الفريدة سيف تينهينان.
سيف ضخم، مصنوع يدوياً من الفولاذ والفضة، يقول إنه استغرق عاماً كاملاً من العمل المتواصل ، يرفعه كوري بين يديه كمن يرفع أثراً مقدساً : "هذا السيف هو نسخة عن سيف الملكة تينهينان، رمز الطوارڨ وأمهم الكبرى ، هي التي جمعت قبائل الصحراء، وقادتهم بحكمة وشجاعة ، أردت أن أعيد سيرتها في قطعة فنية تحفظ روحها."
يقف الزوار بإنبهار أمام السيف، يتأملون النقوش الدقيقة على مقبضه، والرموز الطارڨية المحفورة على نصله يضيف بابتسامة هادئة:"حين أعمل لا أتعجل، في الصحراء كل شيء يسير ببطء حتى الزمن نفسه ،الحرفة عندنا تشبه الحياة هناك ، تحتاج صبراً كي تكتمل."
وإلى جانب السيف، يعرض كوري مفتاح الأهقار — قطعة نحاسية ضخمة صاغها على شكل مفتاح رمزي يرمز إلى انفتاح الجنوب الجزائري على الوطن كله :"هذا المفتاح هو رسالة الصحراء بأنها ليست بعيدة، هي قلب الجزائر النابض وبابها المفتوح على الجميع."
حين تمتزج جهات الجزائر كلوحة واحدة
يبدو الصالون في لحظاته العابرة مثل جزائر مصغرة، في جناح من الأجنحة يعرض حلي قبائلي ملون بألوان البحر المتوسط، وفي جناح آخر، ملحفة الأوراس بألوان الجبل والأرض، وفي المقابل أدوات نحاسية من الغرب تحمل زخارف عربية أندلسية ، كل جناح هنا هو خريطة صغيرة من هوية كبيرة ، يقول عبد الوهاب ممو، مدير السياحة، وهو يشرح فلسفة هذه التظاهرة:"نحن نؤمن أن الصناعة التقليدية ليست مجرد منتجات تراثية، بل جسر بين المناطق، بين الأجيال وبين الماضي والمستقبل.
حين ترى حرفياً من باتنة يتبادل الخبرة مع آخر من تيزي وزو، فأنت ترى الجزائر التي نحلم بها: متحدة رغم الإختلاف، وغنية بتنوعها."ويضيف: "هذه التظاهرات أيضاً منصة لتسويق المنتوج الحرفي، لتشجيع السياحة الثقافية التي يمكن أن تكون مورداً اقتصادياً حقيقياً للبلاد، خصوصاً في مناطق الجنوب التي تملك إمكانات تراثية وسياحية هائلة."
كلماته تجد صداها في أروقة القاعة حيث تتجاور اللهجات، وتلتقي الأيدي على حرفة واحدة، كأن الجزائر كلها تصوغ نفسها من جديد في هذا المكان.
حرفيون يحكون بقلوبهم
على طاولة صغيرة قرب المدخل يجلس عبد القادر شاب من إليزي، ينقش بعناية زخرفة على قطعة نحاسية، عيناه مركزتان، يداه ثابتتان، وصوته بالكاد يسمع:"ورثت هذه المهنة عن والدي، علمني أن الصنعة لا تتعلم بالكلام بل بالصبر، كل قطعة تصنعها يدك تترك فيها شيئًا منك."
إلى جانبه، تعمل حرفية من بجاية على تطعيم قطعة من الفضة بالأحجار الكريمة، بينما تصف الحرفة بأنها "حوار بين المرأة والمعدن".
تقول:"الفضة عندنا تشبه النساء، جميلة لكنها صعبة المراس ، تحتاج إلى لمسة حنان وإلى عين تعرف حدود النار والبرودة."
وربما في هذا التشبيه سر بقاء الصناعة التقليدية حية رغم كل التحولات، فهي ليست عملاً تقنياً باردًا، بل فنا عاطفياً يتوارثه الناس كما يتوارثون القصائد والأغاني.
بين الجمال والمقاومة الثقافية
بعيداً عن قيمته الإقتصادية، يحمل الصالون رسالة أعمق ، ففي زمن تهدد فيه العولمة الثقافات المحلية بالذوبان، تبدو هذه الحرف كآخر خطوط الدفاع عن الهوية الجزائرية المتجذرة ، الحرفيون القادمون من الجنوب يعرفون أن ما يفعلونه هو أكثر من صناعة، إنه فعل مقاومة ضد النسيان.
يقول أحدهم: "حين تصنع حليا من الطراز الطوارقي أو نقشا من الطاسيلي، فأنت لا تبيع منتجا ، بل تحافظ على روح من أرواح الجزائر."
هذه الفكرة تتردد في كل زاوية من الصالون: في العيون التي تلمع بالفخر، في الأصابع التي تحفر بصمت تفاصيل دقيقة، وفي الزوار الذين يكتشفون أن الجزائر ليست خريطة سياسية فقط، بل نسيجا من الجمال الإنساني.
المستقبل يصاغ باليد
ورغم أن المعرض سيغلق أبوابه بعد أيام قليلة، إلا أن أثره سيمتد طويلاً ، فإدارة السياحة في باتنة تخطط لتحويل هذه التظاهرة إلى موعد سنوي، مع برامج تدريب للشباب في مجالات الصياغة والنقش والنسيج "نريد أن نورث هذه المهن لأجيال جديدة، وأن نحولها من تراث إلى صناعة مستدامة"،يقول مدير السياحة، مضيفاً أن:"الصناعة التقليدية ليست بديلاً عن الحداثة، بل وجهها الآخر، العالم اليوم يبحث عن الأصالة، ونحن نملكها."
من خلال هذا التوجه، تسعى السلطات المحلية إلى ربط التراث بالإقتصاد وتحويل الشغف إلى قيمة مضافة، والحرفي إلى سفير ثقافي لبلده.
حين تصوغ الجزائر مرآتها من الفضة
مع اقتراب غروب الشمس، تتسلل خيوط الضوء عبر نوافذ القاعة، فتنكسر على القطع الفضية كأنها تذوب فيها ، الحرفيون يجمعون أعمالهم، الزوار يلتقطون الصور، والقاعة تستعيد هدوءها شيئا فشيئا.
لكن الأثر الذي يتركه هذا الصالون في النفوس لا يزول بسهولة.
ففي باتنة لم يكن الصالون مجرد معرض للحرف بل مرآة لجزائر تتذكر نفسها.
من الجنوب الكبير بألوانه الصحراوية إلى الشمال بزخارفه المتوسطية، ومن القبائل إلى الأوراس، تتشكل لوحة وطنية واحدة، تصوغها الأيدي، وتوقعها الذاكرة.
ربما لا شيء يلخص الحدث أكثر من كلمات الشيخ عوامر، وهو يهم بمغادرة جناحه:"حين نعمل بأيدينا، نحن لا نصنع حليا نحن نصنع هوية."
وفي قاعة أسحار، ظلت الفضة تهمس بما يشبه الحقيقة الأبدية بأن الجزائر مثل الحلي، لا تفقد بريقها مهما طال الزمن.