983
0
الجزائر.. صوت الحق في زمن الصمت

بقلم: الحاج بن معمر
في نيويورك، حيث يلتقي العالم تحت سقف واحد، وحيث تتحول القاعات الزجاجية إلى مسرح تتقاطع فيه الإرادات وتتصارع فيه القوى الكبرى على رسم خرائط النفوذ والمصالح، كان هناك صوت يعلو فوق الضجيج، صوت لا يُقاس بحجم المقعد الذي يشغله بل بصدق الرسالة التي يحملها.
ذلك هو صوت الجزائر، الذي ارتبط باسم رجل اختار أن يكون ممثلًا لوطنه لا بصفته الرسمية فحسب، بل بصفته ضميرًا متجذرًا في التاريخ والذاكرة، إنه السفير عمار بن جامع، الذي جعل من مقعد الجزائر في الأمم المتحدة منصة لمرافعة طويلة الأمد عن الحق والحرية والعدالة.
حين أعلن السيّد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون قرار تقليده وسام عشير من مصف الاستحقاق الوطني، لم يكن ذلك مجرد تكريم شخصي، بل كان شهادة وفاء لنهج كامل تبنته الدبلوماسية الجزائرية منذ استقلالها: الوقوف مع الشعوب المستضعفة، والتصدي لكل أشكال الظلم مهما كان مصدره.
وعرف العالم الجزائر من خلال كلماتها في المحافل الدولية/ كما عرفها من خلال نضالاتها المسلحة، وعرف أنّ مبادئها ليست مجرد شعارات دبلوماسية بل جذور ضاربة في تربة ترويها دماء مليون ونصف المليون شهيد.
لقد دخل السفير بن جامع مجلس الأمن ذات يوم، حاملاً على كتفيه تاريخ أمة بكاملها، ووجع شعب لم ينسَ جراحه بعد، وذاكرة مقاومة لا تزال حيّة في تفاصيل كل جزائري، لم يكن أمامه إلا أن يختار بين أن يكون موظفًا يتلو بيانات مكتوبة بلغة باردة، أو أن يكون رسولًا يحمل أمانة الوطن ويجعل من صوته مرآة لروح الجزائر.
اختار الطريق الأصعب: أن يتحدث باسم الجزائر كما لو أنّ الشهداء أنفسهم حاضرون خلفه، وأن يضع القضايا العادلة على الطاولة مهما كانت معقدة أو مسكوتًا عنها.
في أروقة مجلس الأمن، حيث تجتمع القوى الخمس الكبرى لتقرر مصير العالم، كان صوت بن جامع يتجاوز حدود الكلمات الرسمية، إذ كان يستحضر دومًا القضية الفلسطينية باعتبارها جوهر الضمير الجزائري، وكان يقولها بصراحة ووضوح: الجزائر لا ترى في فلسطين ملفًا سياسيًا يُدار بالمساومات، بل تراها قضية وجود، وحقًا تاريخيًا لا يسقط بالتقادم.
ولم يكن يتردد في مواجهة محاولات التهميش أو الالتفاف على قرارات الشرعية الدولية، بل ظلّ صلبًا، يكرر أن الحق لا يمكن أن يُطمس ولو اجتمعت على طمسه جيوش الخطاب الإعلامي والسياسي.
ولم تقف مرافعاته عند حدود فلسطين، فقد كان حاضرًا دائمًا في ملف الصحراء الغربية، حيث جعل الجزائر صوتًا لا يُشترى ولا يُباع، مؤكدًا أنّ حق تقرير المصير ليس منحة تُعطى بل هو حق أصيل لا يمكن لأحد أن يسلبه.
وبينما كانت بعض القوى تمارس سياسة الكيل بمكيالين، كان بن جامع يُذكّر المجتمع الدولي بأنّ مبادئ العدالة لا تُجزأ، وأنّ الشرعية لا تفقد قيمتها إذا تعلقت بشعوب صغيرة أو بقضية تبدو للبعض بعيدة جغرافيًا عن مصالحهم.
هذا الثبات لم يكن وليد الصدفة، بل هو امتداد لمسار طويل اختارته الجزائر منذ بروزها كقوة دبلوماسية في حركة عدم الانحياز، ومنذ كانت قبلة لحركات التحرر في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
لقد ورث بن جامع هذا النهج، لكنه أضفى عليه بعدًا جديدًا، حيث دمج بين صرامة الدبلوماسي وحساسية المناضل، فكان يعرف متى يتحدث بلغة القانون الدولي ومتى يرفع صوته بلغة التاريخ، ومتى يترك الأرقام والوقائع تتكلم ومتى يستحضر مشاعر الشعوب المقهورة.
ولم يكن من السهل أن يحافظ على هذا التوازن في عالم تحكمه لغة المصالح الباردة، لكنّه فعل ذلك، بل وحوّل الجزائر إلى نقطة مرجعية في النقاشات الكبرى.
فحين كان الحديث يدور حول الأزمات الدولية، كانت مداخلاته تعكس صورة بلد لا ينحاز إلا للحق، ولا يتورط في تحالفات مشبوهة، ولا يسمح أن يُستخدم اسمه لتبرير الظلم.
وهذا ما جعل الكثيرين ينظرون إلى الجزائر باعتبارها آخر الأصوات النقية في عالم تغلب فيه الحسابات على المبادئ.
إنّ الوسام الذي تقلده بن جامع هو في الواقع وسام للدبلوماسية الجزائرية كلها، التي لم تتخل عن رسالتها رغم تغير الظروف وتبدل التحالفات.
فالجزائر التي وقفت مع جنوب إفريقيا في معركتها ضد الأبارتهايد، هي نفسها التي تقف اليوم مع فلسطين والصحراء الغربية.
والجزائر التي كانت تحاور العالم بصوت الرئيس بومدين في سبعينيات القرن الماضي، هي نفسها التي تحاوره اليوم بصوت أبنائها الذين حملوا الأمانة ورفضوا أن يفرطوا فيها.
ولعل أعظم ما يُحسب للسفير بن جامع أنه لم يرَ في الدبلوماسية مجرد وظيفة، بل اعتبرها امتدادًا لمعركة التحرر التي لم تنته بعد.
كان يردد دومًا أنّ الجزائر لا يمكن أن تكون على الحياد حين يتعلق الأمر بالظلم، وأنّ مكانها الطبيعي هو إلى جانب الشعوب التي تُحرم من حقها في الحرية والكرامة، وهكذا، كان حضوره في مجلس الأمن تجسيدًا لهذه القناعة، وكان خطابه انعكاسًا لهذه الروح، حتى صار يُنظر إليه باعتباره "صوت الجزائر" لا مجرد ممثلها.
إنّ التاريخ سيذكر أنّ الجزائر، في واحدة من أصعب المراحل التي مرّ بها العالم، لم تفرط في مبادئها، ولم تساوم على مواقفها، وأنّ رجالًا مثل عمار بن جامع حملوا هذا الإرث بكل صدق وأمانة، سيذكر أنّ كلماته في قاعات الأمم المتحدة لم تكن حروفًا عابرة، بل كانت أشبه بنداءات ضمير، تُسجّل في ذاكرة الشعوب المقهورة قبل أن تُسجّل في محاضر الجلسات.
واليوم، وهو يتسلم وسام الاستحقاق الوطني من يد وزير الخارجية أحمد عطاف بتكليف من رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، بدا المشهد أكبر من مجرد بروتوكول رسمي، كان أشبه بلحظة اعتراف بوفاء رجل لنهج وطن، ولحظة تجديد لعهد الجزائر مع نفسها: أن تبقى دائمًا حيث يجب أن تكون، إلى جانب العدل، وإلى جانب الشعوب التي تبحث عن الحرية.
إنّ هذا التكريم لا يُختتم عند حدود شخص واحد، بل يفتح أفقًا لجيل جديد من الدبلوماسيين الجزائريين، الذين يرون في بن جامع قدوة ومثالًا، جيل يعرف أنّ صوت الجزائر لا يجب أن يخفت، وأنّ دورها لا يمكن أن يُختزل، وأنّ الكلمة التي تخرج من قلبها تحمل قوة تُوازي قوة الرصاص، لأنّها كلمة الحق.
ففي عالم يزداد قسوة وتشتد فيه الصراعات، يبقى صوت الجزائر صوتًا مختلفًا، لا يعلو بالمال ولا يضعف أمام التهديد، بل يستمد قوته من تاريخ صنعته الدماء والتضحيات.
وفي هذا السياق، يبقى اسم عمار بن جامع جزءًا من هذا التاريخ، ورمزًا لرجل أدرك أنّ الجزائر لا تتحدث إلا لتقول الحقيقة، ولا تقف إلا لتساند العدل، ولا ترفع صوتها إلا كي تُدافع عن الذين لا يملكون أصواتًا مسموعة في عالم تسوده المصالح الكبرى.
هكذا، ستظل الدبلوماسية الجزائرية، بفضل أبنائها، درعًا واقيًا للقيم التي ناضلت من أجلها، وجسرًا يربط بين ماضيها الثوري وحاضرها الدولي.
وسيظلّ صوتها حاضرًا في كل محفل، يذكّر العالم بأنّ هناك بلدًا اسمه الجزائر، لا ينسى واجبه ولا يتخلى عن رسالته، بلد يكرم رجاله لأنهم أوفوا بالعهد، ويبقى وفيًا لروحه لأنّها روح الحرية.
فصوت الجزائر لم يكن يومًا صدى عابرًا، بل كان نداءً خالدًا، نداءً يشبه البحر في اتساعه والجبل في ثباته، نداءً يجد في السفير عمار بن جامع تجسيدًا حيًّا ومعاصرًا لمعناه العميق: أن تكون الجزائر دائمًا صوت الحق في زمن الصمت.