940
0
الجزائر… صانعة السلام وصوت المبادئ

بقلم: الحاج بن معمر
منذ أن صدحت حناجر الجزائريين بنداء الحرية سنة 1954، لم تكن الثورة الجزائرية مجرّد حدث وطني ضد استعمار غاشم، بل كانت ميلادًا لضميرٍ سياسي جديد حمل إلى العالم رسالة مفادها أن الكفاح من أجل الاستقلال لا ينتهي بتحرير الأرض، بل يمتد ليصون كرامة الشعوب ويصوغ العدالة الدولية من جديد. ومن رحم تلك الثورة، وُلدت دبلوماسية جزائرية فريدة من نوعها، لم تُبن على المساومات ولا على التبعية، بل على الإيمان بأنّ الكلمة يمكن أن تكون بندقية في وجه الظلم، وأنّ صوت الجزائر هو الامتداد الطبيعي لصوت شعبها الحرّ.
على مدى ستة عقود، كانت الجزائر حاضرة في كل مفصل من مفاصل التاريخ المعاصر، شاهدة وصانعة في آن واحد. من طهران إلى بيروت، من الخليج إلى إفريقيا، حملت الجزائر في دبلوماسيتها روح الوسيط النزيه، الذي لا يطمع في سلطة ولا يسعى وراء مجدٍ زائل، بل يتقدّم دائمًا بخطوات ثابتة نحو هدف واحد: السلام العادل المبني على الكرامة والمساواة. تلك هي فلسفة الدبلوماسية الجزائرية التي تحوّلت مع الزمن إلى مدرسة قائمة بذاتها، يُحتذى بها في النزاهة والاتزان والقدرة على جمع الأضداد على طاولة واحدة.
كانت أولى محطات المجد الدبلوماسي الجزائري في نهاية السبعينيات، حين دوّت أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران. العالم كان على صفيحٍ ساخن، والعلاقات بين واشنطن وطهران بلغت حدّ الانفجار. وحدها الجزائر، التي لم تكن تنتمي إلى أي محورٍ دولي، امتلكت الجرأة والرصانة لتقود وساطة معقدة بين الطرفين. يومها، تحركت الدبلوماسية الجزائرية بقيادة وزير الخارجية الراحل محمد الصديق بن يحيى، ذاك الرجل الهادئ العاقل الذي جمع بين الذكاء السياسي والنزاهة الأخلاقية، فنجحت وساطته في فكّ أزمة كادت تشعل حربًا عالمية جديدة. وقّعت اتفاقية الجزائر عام 1981 التي أنهت احتجاز 52 دبلوماسيًا أمريكيًا بعد 444 يومًا من التوتر، وسُجّلت تلك اللحظة في التاريخ كأحد أعظم إنجازات الدبلوماسية الجزائرية. حتى الولايات المتحدة نفسها لم تخفِ تقديرها، فاعترفت بأنّ الجزائر كانت الوسيط الوحيد الذي حافظ على احترامه من الطرفين، ونجح فيما فشلت فيه قوى كبرى.
لكنّ القدر لم يمهل بن يحيى طويلًا. بعد عامٍ واحد فقط، وبينما كان يقود وساطة جديدة لإنهاء الحرب الدامية بين العراق وإيران، سقطت طائرته في ظروف غامضة في الأجواء الإيرانية. ومع سقوطه، فقدت الجزائر واحدًا من أنبل رجالاتها، وبقي اسمه محفورًا في ذاكرة الأمم كشاهدٍ على أن الجزائر لا تخشى السير في حقول النار إذا كان المقصود منها إطفاء الحرائق.
ولم تتوقف المساعي الجزائرية عند ذلك الحد. في تلك الحرب الطاحنة بين بغداد وطهران، التي أزهقت أرواح الملايين، كانت الجزائر البلد العربي الوحيد الذي حافظ على مسافة واحدة من الطرفين، رافضة الانجرار إلى التحالفات الضيقة. ولعلّ التاريخ يذكر أنّ الاتفاق الحدودي الذي حمل اسم “اتفاق الجزائر” سنة 1975 بين الشاه محمد رضا بهلوي وصدام حسين كان ثمرة وساطة جزائرية نزيهة جمعت الخصمين على طاولة الحوار، بإشراف مباشر من الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي قال آنذاك عبارته الشهيرة: «لا يمكن للأمة العربية أن تنهض إلا إذا كان صوتها موحدًا وقلوبها صادقة».
ذلك الاتفاق، رغم ما أعقبه من توترات، شكّل آنذاك انتصارًا للدبلوماسية على المدافع، ورسّخ صورة الجزائر كقوة سلام حقيقية في الشرق الأوسط. بل إنّ الأمم المتحدة نفسها اعتبرت أن تجربة الجزائر يمكن أن تُدرّس كنموذج للدبلوماسية الوقائية التي تسبق الكارثة بدل أن تلحقها.
وفي أواخر الثمانينيات، حين اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان وغرقت بيروت في بحارٍ من الدماء، كانت الجزائر من أوائل الدول العربية التي آمنت بأن لا خلاص للبنان إلا بالحوار الوطني الشامل. وقد لعبت شخصيات جزائرية بارزة، بتكليف من جامعة الدول العربية، دورًا هادئًا وفعّالًا في الدفع نحو التسوية التي ستُعرف لاحقًا باتفاق الطائف عام 1989. لم يكن ذلك الاتفاق مجرد وثيقة سياسية لإنهاء الحرب، بل كان ثمرة جهدٍ دبلوماسي عربي طويل تميّزت فيه الجزائر بمواقفها الثابتة الداعية إلى وحدة لبنان وسيادته ورفض كل أشكال التدخل الأجنبي في شؤونه. وفي الوقت الذي كان فيه بعض الوسطاء يسعون إلى النفوذ، كانت الجزائر تبحث عن الحل. لم تكن تبحث عن مكسبٍ سياسي أو إعلامي، بل عن إنقاذ وطنٍ عربي من التمزّق.
ومع اندلاع حرب الخليج الثانية عام 1990، وقفت الجزائر من جديد أمام اختبار صعب. بين عراقٍ عربيّ شقيق، وقرار أممي يفرض عليه الحصار والعقوبات، اختارت الجزائر مرة أخرى طريق المبادئ. رفضت الاصطفاف في أي محور، ولم تشارك في التحالف العسكري الذي استهدف بغداد، رغم الضغوط الغربية والعربية على حدّ سواء. وعبّر وزير خارجيتها آنذاك عن الموقف الجزائري بوضوح قائلاً: «نحن لا نبرر العدوان، لكننا لا نبرر الحرب أيضًا. فليس من العدل أن يُعاقب شعبٌ بأكمله لأنّ السياسة أخطأت». هذا الموقف الذي كلّف الجزائر عزلة دبلوماسية مؤقتة، كسب لها احترام العالم لاحقًا، وأثبت أنّ الدبلوماسية الحقيقية ليست في مسايرة التيار، بل في الصمود على المبدأ.
وفي خضم تلك العواصف التي عصفت بالمنطقة، برز اسم الأخضر الإبراهيمي كأحد كبار مهندسي الدبلوماسية الجزائرية في الخارج. رجل جمع بين الحنكة السياسية والهدوء الصوفي، فقاد مهمات أممية معقدة في أفغانستان والعراق وسوريا، لكنه ظلّ دومًا يحمل بصمته الجزائرية: البحث عن الحلول لا عن الانتصارات، وعن التفاهم لا عن الهيمنة. يقول الإبراهيمي في أحد لقاءاته: «لقد تعلّمت من الجزائر أنّ الدبلوماسية ليست خطابة ولا مجاملة، بل مسؤولية أخلاقية تجاه السلام». وهي عبارة تلخص مدرسة بأكملها من الفكر الدبلوماسي النزيه الذي تشكّل في الجزائر منذ استقلالها.
ولم يكن الدور الإفريقي بعيدًا عن هذا الإشعاع. فبينما كانت القارة السوداء تموج بانقلاباتٍ وصراعاتٍ مسلحة، كانت الجزائر حاضرة في قلبها، داعمة لحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، ومساندة لمسار التحرّر من الاستعمار. من جنوب إفريقيا زمن الأبارتايد إلى ناميبيا وموزمبيق وأنغولا، كانت الجزائر قبلةً للمناضلين الأفارقة، تفتح لهم أبوابها وتمنحهم صوتًا في العالم. ولا يزال نيلسون مانديلا يختصر تلك المرحلة حين قال: «الجزائر هي التي جعلت مني رجلاً».
وفي مطلع الألفية الجديدة، لم تتغيّر المبادئ وإن تغيّر الزمن. فحين تفجّرت الأزمة في مالي والساحل الإفريقي، كانت الجزائر أول من دعا إلى الحل السياسي ورفض التدخل العسكري الأجنبي. وقد لعبت دورًا محوريًا في رعاية اتفاق السلام في مالي سنة 2015 بين الحكومة والجماعات المسلحة، لتؤكد مجددًا أنها تملك أدوات الوساطة الفعّالة، وأنّ صوتها ما زال مسموعًا في القارة السمراء. وأشاد الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، بان كي مون، بالجهود الجزائرية قائلاً: «إنّ الجزائر تبرهن يومًا بعد يوم أنّها شريك موثوق في بناء السلام بإفريقيا».
هذا المسار الطويل من المبادرات والمواقف لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة رؤية واضحة للسياسة الخارجية الجزائرية التي وضع لبناتها الأولى الرئيس الراحل هواري بومدين، وترسّخت مع الأجيال المتعاقبة. رؤية تقوم على ثلاثة أسس: استقلالية القرار الوطني، احترام سيادة الدول، والدفاع عن القضايا العادلة في العالم. ومنذ مؤتمر باندونغ وحركة عدم الانحياز، والجزائر تُعدّ إحدى ركائز النظام الدولي الجديد الذي حلمت به شعوب الجنوب، نظامٌ لا يُقاس فيه النفوذ بالقوة العسكرية بل بالشرعية الأخلاقية.
ويقول الأستاذ في العلوم السياسية عبد العزيز بن يطو إنّ الدبلوماسية الجزائرية «كانت دومًا تتعامل مع القضايا بمنطق الدولة لا بمنطق العاطفة، لكنها في الوقت نفسه ظلت تحتفظ بحرارة القيم الإنسانية. فهي لا تساوم في مبدأ، ولا تتنازل عن قضية عادلة، لكنها تعرف كيف تُوازن بين الحزم والواقعية.»
وعلى الساحة الفلسطينية، بقيت الجزائر الصوت الأكثر صدقًا واستمرارية. فكما استضافت في 1988 إعلان قيام الدولة الفلسطينية على أرضها، عادت عام 2022 لتحتضن مؤتمر “لمّ الشمل” الذي جمع مختلف الفصائل الفلسطينية تحت سقفٍ واحد، مؤكدة أنّ فلسطين ليست مجرد ملفّ في أجندة الدبلوماسية الجزائرية، بل هي قضية هوية وذاكرة. وقد عبّر الرئيس عبد المجيد تبون في أكثر من مناسبة عن هذا الموقف قائلاً: «الجزائر لم تخلق لتقف على الحياد في وجه الظلم، نحن أبناء ثورةٍ علمتنا أنّ الصمت أمام القهر خيانة.»
ولعلّ سرّ تميّز الدبلوماسية الجزائرية يكمن في توازنها بين الأصالة والتجدد. فهي لا تزال وفية لمبادئها التاريخية، لكنها تتكيّف مع تحديات العصر الجديد. وفي زمنٍ صار فيه العالم يختزل السياسة في لغة المال والسلاح، لا تزال الجزائر تراهن على لغة الحوار والتفاهم، مؤمنة أنّ الكلمة يمكن أن تفتح ما تغلقه المدافع. وقد أظهرت السنوات الأخيرة أنّ هذا النهج يثمر نتائج ملموسة، فصوت الجزائر عاد قويًا في المحافل الدولية، خصوصًا بعد انتخابها عضوًا غير دائم في مجلس الأمن لعامي 2024-2025، حيث رفعت لواء إفريقيا والعرب في الدفاع عن القضايا الإنسانية، من فلسطين إلى السودان، مرورًا بأزمات المناخ والهجرة.
الجزائر لم تكن يومًا دولة تبحث عن الأضواء. دبلوماسيتها لا تلهث وراء العناوين الكبرى، بل تشتغل في الظلّ بصمتٍ وفعالية. ولعلّ هذه السمة هي التي جعلت منها بلدًا يحظى باحترامٍ نادر في العالم، إذ تجمع على تقديرها القوى الكبرى والبلدان النامية على حدّ سواء. فهي تمثل اليوم نموذجًا لما يمكن أن تكون عليه الدبلوماسية حين تقودها المبادئ لا الأوامر.
في هذا السياق، يرى الإعلامي العربي فيصل جلول أنّ “الجزائر أعادت تعريف مفهوم الحياد في العلاقات الدولية، فهي ليست محايدة لأنها مترددة، بل لأنها مبدئية. لا تنحاز لأحد ضد أحد، بل تنحاز للعدالة ضد الظلم”. ويضيف: “لقد نجحت الجزائر في أن تبقى وفية لروحها الثورية دون أن تتحول إلى دولة صدام، وأن تحافظ على براغماتيتها دون أن تسقط في الانتهازية. وهذا توازن نادر في عالم السياسة.”
وهكذا، تواصل الدبلوماسية الجزائرية مسيرتها الهادئة الواثقة، تقف على مسافة واحدة من الجميع، لكنها دائمًا في صفّ المظلومين. إنها دبلوماسية الذاكرة النوفمبرية التي لا تنسى أنّ أول قرار دولي ناصر الثورة الجزائرية كان في قاعة الأمم المتحدة، وأنّ الجزائر حينها لم تكن دولةً بعد، لكنها كانت ضميرًا حيًا للعالم الثالث. اليوم، بعد أكثر من ثمانين عامًا على تأسيس الأمم المتحدة، تعود الجزائر لتقول للعالم: ما زلنا على العهد، نحمل لواء السلام كما حملنا بالأمس راية التحرير.
من أزمة الرهائن الأمريكيين إلى اتفاق الطائف، ومن وساطة بغداد وطهران إلى جهود السلام في مالي، ومن فلسطين إلى الصحراء الغربية، خطّت الجزائر سجلًا من المواقف المشرّفة التي جعلت منها مرجعًا أخلاقيًا في العلاقات الدولية. رجالها الذين عبروا المحافل من بن يحيى إلى الإبراهيمي، ومن طالب الإبراهيمي إلى عطاف، تركوا بصماتٍ خالدة على جدران التاريخ، تثبت أن الدبلوماسية ليست مجرد فنّ للكلام، بل فنّ لصنع الممكن في قلب المستحيل.
وحين ننظر اليوم إلى خارطة العالم المليئة بالنزاعات، ندرك أن ما ينقصه ليس مزيدًا من القوى العظمى، بل مزيدًا من الحكماء. والجزائر، بتاريخها وثورتها ورجالها، ما زالت تحمل ذلك الصوت النادر الذي يذكّر العالم بأنّ القوة بلا ضمير لا تبني سلامًا، وأنّ الدبلوماسية حين تُغرس في أرض المبادئ تثمر عدلاً وسلامًا حقيقيين.
الجزائر... ليست فقط بلد المليون ونصف المليون شهيد، بل أيضًا بلد المليون موقف مشرف، الذي يكتب تاريخه لا بالحروب، بل بالمواقف، لا بالاحتلال، بل بالتحرر، ولا بالمصالح، بل بالمبادئ. إنها دبلوماسية من نورٍ في زمنٍ تتكاثر فيه الظلال.