2983

0

*الجزائر في مواجهة العاصفة الرقمية: حرب القيم بين سيف القانون وصرخة المجتمع*

 

بقلم الحاج بن معمر 

في زمنٍ تتحوّلُ فيه الهواتفُ الذكيةُ إلى أسلحةٍ ناعمةٍ تخترقُ بيوتَ الجزائريين قبلَ أسوارهم، وتُحوّلُ قيمَهم إلى ساحةٍ لمعركةٍ وجوديةٍ بين أصالةِ الماضي ورياحِ التغريب العاتية، تُكتبُ اليومَ فصولٌ من ملحمةٍ وطنيةٍ تجمعُ بين صرامةِ القانون وحكمةِ المجتمع، لمواجهةِ ظاهرةٍ خطيرةٍ باتت تُهدّدُ النسيجَ الأخلاقي: "مؤثرو السوشيال ميديا" الذين يسعون للربحِ السريعِ عبرَ تسويقِ الرذيلةِ والعنفِ والانزياحاتِ الأخلاقية، مستغلينَ فراغًا ثقافيًا وضعفًا في البدائلِ التربوية، في محاولةٍ لتحويلِ الأجيالِ إلى وقودٍ لـ"حربِ القيم" التي تشنّها شبكاتٌ محليةٌ ودوليةٌ تعملُ في الظلام.

لم تكن الجزائرُ بمنأى عن عواصفِ العولمةِ الرقمية، فمنذُ أن أطلقتْ منصاتُ التواصلِ حملاتِها الجارفةَ لاختراقِ المجتمعاتِ المحافظة، بدأت تظهرُ حساباتٌ تروجُ لمقاطعَ مُخلةٍ بالحياءِ العام، تُظهرُ العنفَ كـ"ترفيه"، وتُمرّنُ المراهقينَ على الاستهزاءِ بالتقاليدِ تحتَ شعاراتٍ برّاقةٍ مثلَ "الحريةِ الفردية" أو "تحريرِ الجسد"، فيما كشفت تحقيقاتُ الأمنِ عن تورطِ بعضها في شبكاتٍ ماليةٍ مدعومةٍ من جهاتٍ خارجيةٍ تهدفُ إلى تفكيكِ الأسرةِ الجزائرية، باعتبارها حصنَ المقاومةِ الأخيرَ ضدَّ مشاريعِ التغريب.

لم تترددِ الدولةُ في الردِّ بقوةٍ تشريعيةٍ غيرِ مسبوقة، حيثُ سنّتْ قوانينَ تجرّمُ "التحريضَ على الانحرافِ الأخلاقي" بعقوباتٍ تصلُ إلى عقدٍ في السجن، مع مصادرةِ عوائدِ المحتوى المسيء، وألزمتْ منصاتِ التواصلِ بحذفِ أيِّ موادَّ مُخلةٍ خلالَ ساعاتٍ تحتَ طائلةِ الغراماتِ الماليةِ الثقيلة، فيما حوّلتْ أجهزةُ الأمنِ الوطنيةِ جزءًا كبيرًا من قدراتها لملاحقةِ هذه الظاهرة، عبرَ وحداتٍ إلكترونيةٍ متخصّصةٍ تتعقبُ الحساباتِ الوهميةَ وتكشفُ الشبكاتِ السريةَ التي تُدارُ من داخلِ وخارجِ البلاد، حيثُ تمكّنتْ خلالَ عامٍ واحدٍ من حجبِ آلافِ الحساباتِ ومصادرةِ مئاتِ الأجهزةِ الإلكترونيةِ المُستخدمةِ في إنتاجِ محتوىً إباحي، بل ونجحتْ في تفكيكِ عصاباتٍ دوليةٍ كانت تُنظّمُ "حفلاتِ فوضى" مُقنّعةً بفعالياتٍ ثقافية، وتعيدُ قاصرينَ إلى أسرهم بعدَ إنقاذهم من براثنِ استغلالٍ خطير.

لكنَّ المواجهةَ الأمنيةَ والقانونية، رغمَ ضرورتها، لم تكن كافيةً لسدِّ الثغراتِ الاجتماعيةِ العميقةِ التي تتسللُ منها هذه الظاهرة، ففي الأحياءِ الشعبيةِ والمدنِ النائية، حيثُ يفتقرُ الشبابُ إلى مراكزَ ترفيهيةٍ أو برامجَ ثقافيةٍ جاذبة، يجدُ الكثيرونَ في المحتوى الصادمِ ملاذًا لملئء فراغِهم، بينما تعاني بعضُ الأسرِ من انهيارِ التواصلِ بين الأجيال، مما يسهّلُ على "مافيا المؤثرين" استقطابَ المراهقينَ عبرَ وعودٍ ماليةٍ أو شهوةِ الشهرة.

هنا، يبرزُ دورُ المجتمعِ المدنيِّ والمبادراتِ الأهليةِ التي تحاولُ سدَّ هذه الفجوة، فمن مراكزِ الإرشادِ الأسريِّ التابعةِ لوزارةِ التضامن، التي تستقبلُ مئاتِ الحالاتِ شهريًا لعلاجِ آثارِ الطلاقِ أو العنفِ المنزلي، إلى حملاتِ التوعيةِ الدينيةِ التي تُنظمها الزوايا والمساجدُ لتحصينِ الشبابِ ضدَّ "فتنةِ الشاشات"، مرورًا بمبادراتٍ شبابيةٍ مثلَ "سوشيال أخلاقي" التي تُدرّبُ الأسرَ على أدواتِ الرقابةِ الذكية، وتُنشئُ جيلًا قادرًا على تمييزِ المحتوى الهادفِ من المسموم.

غير أنَّ المعركةَ الأكثرَ تعقيدًا تكمنُ في الإجابةِ عن سؤالٍ مصيري: كيف نوفّقُ بين ضرورةِ حمايةِ القيمِ وضمانِ الحرياتِ الفردية؟ فبينما تُشيدُ فئاتٌ واسعةٌ بحزمِ الدولة، تخرج بعض الأصوات الناعقة والشاذة ومنظمات تدعي حقوقية للترويج لفكرة  انزلاقِ الحملاتِ الأمنيةِ نحوَ قمعِ الرأيِ تحتَ غطاءِ "الحفاظِ على الأخلاق"، خاصةً بعدَ تداولِ العديد من الاخبار المغلوطة و تقاريرَ مسمومة عن حالاتِ اعتقالٍ مثيرةٍ للجدلِ بتهمٍ غامضة،  وذلك من أجل ضرب الجزائر من خلال الجهات الأمنية الساهرة على تطبيق القانون مما يفتحُ البابَ أمامَ تسييسِ القضيةِ وتحويلِها إلى أداةٍ في صراعاتٍ سياسوية تحت شعار حرية التعبير والفكر وحتى المعتقد.

في المقابل، يُذكّرُ القانونيونَ بأنَّ الدستورَ الجزائريَّ يضمنُ حريةَ التعبيرِ لكنَّه يُلزمُ بحمايةِ النظامِ العام، وأنَّ المعركةَ ضدَّ "الانحلالِ الأخلاقي" ليست ترفًا، بل ضرورةً لصونِ الهويةِ في وجهِ حروبِ الجيلِ الرابعِ التي تستهدفُ العقولَ قبلَ الأجساد.

التحدي الأكبرُ يظلُّ في صناعةِ بديلٍ ثقافيٍ قادرٍ على منافسةِ إغراءاتِ المحتوى المسيء، فما بين مقاطعَ راقصةٍ تجذبُ ملايينَ المتابعينَ، وفيديوهاتٍ توعويةٍ تظلُّ حبيسةَ النوايا الحسنة، تُدركُ الجزائرُ أنَّ المعركةَ تحتاجُ إلى إعادةِ اختراعِ الخطابِ الأخلاقي، عبرَ دعمِ الفنّ الهادفِ الذي يلامسُ همومَ الشبابِ دونَ ابتذال، والاستثمارِ في الرياضةِ كساحةٍ لتفريغِ الطاقات، وإشراكِ المؤثرينَ الإيجابيينَ في صناعةِ محتوىً ينطلقُ من الثوابتِ الوطنية.

بعضُ النماذجِ بدأتْ تلوحُ في الأفق، كقصةِ فاطمة، شابةٌ من باتنة حوّلتْ حسابها على "إنستغرام" إلى منصةٍ للترويجِ للتراثِ الأمازيغي، فحققتْ تفاعلًا يفوقُ نظيراتها من "مؤثراتِ الرذيلة"، أو تجربةِ منصةٍ وطنيةٍ بديلةٍ لـ"يوتيوب" تُحوّلُ عوائدَ الإعلاناتِ إلى دعمِ صنّاعِ المحتوى الهادف.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services