19237
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 158

بقلم اسماعين تماووست
منذ اللحظة التي انهارت فيها القواعد وسقطت القيم في متاهة الفوضى، غدت كل شرارة لإشعال "حرب عصابات" بلا قوانين.
لم يكن الأمر يتعلق بمجرد تمرد، بل بانزلاقٍ خطيرٍ نحو العدمية المطلقة، حيث يصبح القتل عقيدة، والرعب وسيلةً لفرض السطوة. وكما قال نيتشه: "من يحارب الوحوش عليه أن يحذر أن يتحول إلى وحش، فإن أطلت النظر في الهاوية، فإن الهاوية تطل النظر إليك."
لم يكن الدافع وراء هذه الحرب مجرد اختلافٍ سياسي أو نزاعٍ على السلطة، بل كان تدميرًا متعمدًا للنسيج الوطني، نكوصًا إلى ظلمات الجهل والغلو، حيث يصبح المنطق الوحيد هو استعادة جحيم العنف، وفتح أبواب الجريمة على مصراعيها. وحين تُلوى أعناق الحقائق وتُلبس الأكاذيب ثوب العقيدة، يصبح التبرير أداةً يلوّح بها القتلة، في محاولة يائسة لجعل الفوضى تبدو وكأنها نظام، والإجرام وكأنه عدالة.
تحت ستار محاربة "الكفار"، تحوّلت آلة القتل إلى أداةٍ لتمزيق الجسد الواحد، حيث لم يكن المستهدف عدوًا غازيًا، بل شعبٌ أعزل، أُزهقت أرواح أبنائه بدمٍ بارد، وطُرحت أجسادهم في الأزقة، شاهدةً على بشاعة المشهد.
لم تكن أيديولوجيتهم إلا صورةً معدّلة عن النازية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الدم، ولا مكان لضعيفٍ لم ينخرط في آلة الدمار. الأحياء عاشوا جحيم الخوف، أما الجرحى، فقد تُركوا ينزفون بلا رحمة، كأن الألم كان جزءًا من العقاب.
كان جنونهم أعمى لدرجة أنهم لم يدركوا أن رصاصاتهم لم تكن تمزق خصومًا، بل كانت تصيب قلب الوطن. صورة البلاد تشوّهت أمام العالم، لم يعد يُرى فيها شعبٌ يسعى للحياة، بل بركٌ من الدماء، وشوارع يملؤها الصراخ. لم يكن ذلك صراعًا على المبادئ، بل فوضى مجنونة يقودها وحوشٌ أدمنوا الخراب.
لم تتوقف آثار الإرهاب عند القتلى والجرحى، بل امتدت لتغتال أحلام جيلٍ كاملٍ كان يطمح للنهوض بالوطن. توقفت عجلة التنمية، وهُجرت المدارس، وأُغلقت المصانع، وعادت المدن التي كانت تنبض بالحياة إلى عصور الظلام.
كل مشروع أُجهض، وكل فكرة أُحبطت، لأن الخوف صار سيد المكان، ولأن الرصاص كان أسرع من الطموح. كان يمكن للبلاد أن تكون في مصاف الأمم المتقدمة، لكنها وجدت نفسها تنفض الغبار عن نفسها كل مرة، تحاول الوقوف رغم النزيف المستمر.
أما الجرح الأعمق، فكان في النفوس. جيلٌ كامل نشأ بين أنقاض المدن المحترقة، وتربى على وقع الانفجارات، وألفّ مشهد الموت كأنه فصلٌ يومي في مسرحية عبثية. لم تكن الجدران وحدها من تهدمت، بل سقطت الثقة بين أبناء الوطن، وصار الشك هو القاعدة، وكأن كل شخصٍ خائفٌ من أن يكون ظله عدوًا له. احتاج الناس إلى سنواتٍ ليستعيدوا الأمل، لكن بعض الجروح لا تلتئم أبدًا، تظل شاهدةً على زمنٍ كُتب بالدم والنار.
في خضم هذا الجحيم، أدركت السلطة الحاكمة أن الوقت قد حان لكشف المستور. لم يعد الصمت خيارًا، فقد كان الخطر يتربص بكل شارعٍ وزقاق، والأرض نفسها كانت ترتجف تحت وطأة القتل الجنوني.
تقرر حينها نشر بعض الحقائق، ليعرف كل جزائري وجزائرية ما يحدث في الخفاء، وما الذي يُرتكب باسمهم. لم يكن الهدف إثارة الذعر، بل إيقاظ الحسّ الوطني، حتى يدرك الجميع أن بقاءهم متفرجين لن يكون إلا تمهيدًا لسقوطهم فرادى، كما تتساقط أوراق الشجر اليابسة مع أول عاصفة.
في تلك اللحظة، شعر الناس بأنهم لم يعودوا مجرد متابعين، بل صاروا جزءًا من المعركة، لم يعد الخوف مبررًا للحياد، ولم يعد الصمت مأوى آمنًا. كان على كل شخص أن يختار: إما أن يكون شاهدًا على الانهيار، أو أن يكون جزءًا من إعادة البناء. وقد كان ذلك أول اختبار حقيقي لوطنٍ لم يتجاوز بعد جراح الاستعمار، لكنه وجد نفسه في مواجهة كارثة لا تقل فظاعة عما سبق.
وقفتُ أنا المفتش إسماعيل تماووست، ومن معي من الأشراف، في مواجهة عاصفةٍ لم تكن مجرد رياحٍ عابرة، بل كانت زلزالًا يريد اقتلاع كل ما تبقى من جذور الوطن. لم نكن أبطالًا خارقين، ولم نكن نبحث عن المجد، كنا فقط رجالًا أقسموا أن لا يتركوا الجزائر تُختطف من جديد، لا بأيدي الاستعمار ولا بأيدي من ورثوا وحشيته تحت راياتٍ جديدة.
كنتُ أعلم أن الموت يترصدني في كل زاوية، أنني كلما خرجتُ في مهمة، قد لا أعود. لكنني لم أخف، لأنني كنت أعرف أن الخوف هو أول خطوة نحو الاستسلام، وأن الشجاعة ليست عدم الشعور بالخوف، بل مواجهته رغم إدراك مخاطره. لم أكن وحدي، كان معي رجالٌ شرفاء، لم يبيعوا ضمائرهم ولم ينحنوا للظلم، بل ظلوا واقفين كالأشجار، جذورهم ممتدة في عمق الأرض، وعيونهم مفتوحة تحرس الليل حتى لا يفاجئنا الفجر بخيانةٍ جديدة.
رأيتُ أصدقاءً سقطوا في ساحة المعركة، بعضهم فارق الحياة بين يدي، وآخرون اختطفوا وعُذبوا حتى فقدوا القدرة على الكلام. لكنني لم أنسَهم، كانوا معي في كل خطوة، في كل قرار، كانوا هم الدافع لأن أكمل الطريق حتى النهاية. لم أسمح للحزن بأن يشلني، ولم أترك للانتقام أن يعميني. كنتُ أبحث عن العدالة، لأن العدالة وحدها تستطيع أن تعيد للوطن توازنه، وللأرواح التي أُزهقت حقها في الحياة ولو بعد فوات الأوان.
كنتُ أؤمن أن الجزائر ليست مجرد أرض، بل فكرة، والفكرة لا تموت ما دام هناك من يحملها في قلبه. اليوم، وأنا أنظر إلى كل ما مررنا به، لا أشعر بالندم، لأنني فعلت ما كان يجب أن يُفعل. لم أكن ملاكًا، كنتُ مجرد رجلٍ رفض أن يكون متفرجًا على سقوط وطنه. وإن كان هناك شيءٌ أفتخر به، فهو أنني بقيتُ وفيًا لنفسي، ولم أنحرف عن الطريق الذي اخترته، طريق الشرف والنزاهة.
ولكن في لحظةٍ ما، أدركت أن الحرب الحقيقية ليست فقط في ساحات المعارك، بل في العقول والقلوب، في القدرة على مقاومة الظلام بنور الحق، في مواجهة الطغيان بالعدالة، وفي رفض الخضوع حتى عندما يكون الخيار الأسهل. حينها، أيقنت أن الصراع لم يكن مجرد معركةٍ ضد الإرهاب، بل معركةٌ من أجل مستقبل الجزائر، مستقبلٌ لا تصوغه البنادق، بل العقول الحرة والإرادة التي لا تنكسر....
يتبع...