206
0
الفرز العشوائي للنفايات في باتنة.. أزمة بيئية تتفاقم تحت أنظار السلطات

تحقيق:ضياء الدين سعداوي
بين شوارع وأحياء مدينة باتنة ينتشر مشهد بات مألوفًا، عشرات الأشخاص من مختلف الأعمار يجرّون عربات يدوية أو يقودون شاحنات صغيرة مهترئة محمّلة بأكياس ضخمة متسخة، يبحثون في أكوام القمامة وعلى الأرصفة عن قارورات بلاستيكية ومعادن قابلة لإعادة التدوير.
تحولت المدينة إلى ما يشبه مكبًا مفتوحًا وسط فوضى بصرية وبيئية خانقة، مشهد يوحي بفوضى غير مسبوقة تعكس هشاشة الواقع الإجتماعي و الإقتصادي وتطرح أكثر من سؤال حول دور السلطات في تنظيم هذا النشاط المتزايد.
ظاهرة متفاقمة... من هامش المجتمع إلى قلب الاقتصاد غير الرسمي
لم يعد مشهد الفرّازين العشوائيين في شوارع باتنة مقتصرًا على الفقراء أو المهمشين، بل أصبح جزءًا من إقتصاد غير رسمي يدرّ أرباحًا لا يُستهان بها، في بداية الأمر ارتبط الفرز العشوائي بمربي الماشية الباحثين عن الخبز اليابس لإطعام مواشيهم، غير أن الوضع تطور بسرعة ليغدو نشاطًا مربحًا يستقطب شرائح واسعة من المجتمع.
"أكرم"، طفل لم يتجاوز التسع سنوات ويزاول دراسته في السنة الخامسة ابتدائي جمع ما يفوق 10 ملايين سنتيم جزائري من بيع البلاستيك والخردة ويحقق من خلالها دخلا كبيراً مقارنة بسنه، معلمته التي لاحظت تغيّبه المتكرر تفاجأت بالمبلغ الكبير الذي عثرت عليه في محفظته، ليُكتشف لاحقًا أنه يعمل مساءً في البحث بين النفايات، هي ليست حالة فردية بل واحدة من بين عشرات القصص المشابهة.
الأطفال... مستقبل ضائع بين أكياس النفايات
المثير للقلق أن هذه الظاهرة أصبحت تستقطب الأطفال في سن التمدرس، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا على مستقبلهم التربوي والنفسي ، في ظل غياب الرقابة الإجتماعية. يتسرب الأطفال من المدارس ليصبحوا طرفًا فاعلًا في تجارة غير قانونية، مما يفرغ الجهود التربوية من مضمونها ويهدد الأنسجة الإجتماعية الهشة.
عمال النظافة... الضحايا الصامتون في حرب غير متكافئة
عمال النظافة هم الأكثر تضررًا من هذه الفوضى، مراد و هو عامل نظافة بالمؤسسة العمومية الولائية للنظافة وتزيين المحيط "كلين بات" يشتغل على خط جمع النفايات بمنطقة القطب العمراني حملة 1، يقول: "نواجه معاناة يومية في جمع النفايات بعد أن يقوم هؤلاء الأشخاص بتقطيع الأكياس ونثر القمامة على الأرض، نُجبر نحن على جمعها يدويًا، ما يعرّضنا لمخاطر صحية جسيمة في ظل غياب أدوات الوقاية، تأذيت مرارًا بجروح من زجاج مكسور مختلط بالنفايات".
أما منصور، المكلف بكنس الشوارع، يروي لنا جزءًا من معاناته اليومية : "الحاويات يتم كسرها و سرقتها لبيعها كبلاستيك، وهو ما ساهم في تفشي النقاط السوداء " يضيف منصور : "ننظف الشارع صباحًا، وفي المساء يعود الوضع كما كان، ومع هبوب الرياح أو تساقط الأمطار، تتحول النفايات إلى مجارٍ تنتهي بإنسدادات وفيضانات ، ومع ذلك نُحاسب على تدهور الوضع ونتعرض لعقوبات و خصم من الأجور رغم الجهد المبذول".
فوضى الفرز تُنهك البيئة وتُثقل كاهل الاقتصاد
لا تقف الخسائر عند البيئة والمشهد الحضري المشوّه، بل تمتد إلى المؤسسات العمومية والخزينة الوطنية، المؤسسة الولائية للردم التقني التي يُفترض بها الإستفادة من المواد القابلة لإعادة التدوير، تُحرم يوميًا من مئات الأطنان بسبب تسربها إلى قنوات غير رسمية. كما أن غياب الفوترة والرقابة، يجعل الدولة لا تستفيد من أي ضرائب على عمليات بيع المعادن والبلاستيك التي تُباع في السوق السوداء.
تقدّر الخسائر غير المعلنة بملايين الدينارات سنويًا، كما تتكبد مؤسسات حساسة مثل سونلغاز واتصالات الجزائر خسائر فادحة نتيجة سرقة الكوابل النحاسية التي تُفكك وتُباع لتجار الخردة، حيث قدرت خسائر سونلغاز لوحدها حسب مديرية الطاقة و المناجم لولاية باتنة ، سرقة ما يفوق 70 كيلومترا من الكوابل النحاسية بقيمة تجاوزت 140 مليار سنتيم ، حوادث سرقة الكوابل النحاسية تسببت في قطع الإنارة العمومية عن كثير من الشوارع و الطرق الرئيسية، ما جعلها تغرق في الظلام لعدة أشهر و أغطية البالوعات الحديدية لم تسلم بدورها، وقد أدى غيابها إلى حوادث مرور خطيرة وفترات من شلل في البنية التحتية.
تجارة غير شرعية... بلا هوية ولا قانون
من المثير للإستغراب أن كل هذه التجارة تُمارس في وضح النهار دون أي تدخل قانوني حقيقي، تجار البلاستيك والحديد والنحاس، يشترون من الفارزين دون طلب أي وثائق أو معرفة مصدر البضاعة، لتُنقل بعدها إلى مصانع الرسكلة الخاصة التي لا تُطالها أي رقابة تُذكر.
يقول أحد العمال السابقين في مصنع خاص لإعادة التدوير: "نستقبل يوميًا أطنانًا من المواد، لكن لا أحد يسأل عن مصدرها، لا توجد فواتير ولا محاضر إستلام، وكل شيء يتم نقدًا ،إنها تجارة تدر الملايين دون أن تستفيد منها الدولة بأي فلس".
ما بين التقنين والتهميش... الحاجة إلى حلول جذرية
في مدن عديدة حول العالم، أصبح فرز النفايات عملًا منظَّمًا ومدرًا للدخل، ضمن مشاريع تعاونية تحترم شروط الصحة والسلامة وتضمن حقوق العاملين فيها، لماذا لا تُطبق نماذج مماثلة في باتنة؟ لماذا لا يتم إدماج هؤلاء في منظومة رسمية توفر لهم حماية قانونية وتستفيد منهم الدولة؟
يرى مختصون في الإقتصاد الأخضر أن الحل يكمن في تقنين النشاط، عبر منح تراخيص قانونية وإلزامية العقود التجارية، وإنشاء شبكات تعاونية بإشراف البلديات أو الشركات العمومية.ط، بذلك يمكن تحويل ظاهرة فوضوية إلى مصدر دخل مشروع، يحقق توازنًا بين المصلحة البيئية والإجتماعية.
باتنة... مدينة تختنق أمام أعين الجميع
ما يجري في باتنة ليس مجرد فوضى نفايات، بل أزمة متعددة الأوجه تمس البيئة، الصحة، الإقتصاد، وحتى المنظومة التربوية.
الظاهرة، وإن كانت تحمل في طيّاتها بعض الفوائد الإقتصادية الفردية، إلا أن كلفتها المجتمعية باتت أكبر من أن تُهمل.
إن استمرار تجاهل هذه الكارثة الصامتة يُنذر بتفاقمها، وقد يأتي يوم تصبح فيه المدينة غير قابلة للعيش ما لم تُتخذ قرارات جادة وشجاعة لإعادة الأمور إلى نصابها، وتقنين ما يمكن تقنينه، ومعاقبة من يتربحون على حساب النسيج المدني والبيئي.
فهل يتحرك الضمير الرسمي قبل فوات الأوان؟