960
0
الأصالة روح التقدم
بقلم الدكتور محمد لمين قوميدي
تتحلى الإنسانية ككيان مقصود الوجود بقيم ومبادئ تتلاءم وخصوصية هذه الأخيرة، فالقول عن الكون الفضاء المناسب لممارسة الإنسانية يقين يبعد كل الشكوك عن الممارسة المناقضة إلا ما كان مقدرا، وهذا ما يفسر ارتباطنا بمرجعية لا تجعلنا نمارس المساءلة التي جوهرها استمرار السؤال عن أسباب المآل أوغيرها من الأسئلة ذات الطبيعة المشابهة.
إن المقصد من الحديث عن الإنسانية و التأكيد على مكانة قيمها وسمو مبادئها هو مقصد إنساني يكفل للإنسان معنى إنسانيته التي لا يمكن أن يكون لها وجود في غياب جوهرها.
قد نعتقد يقينا أننا مجبرون على التأقلم مع كل الأوضاع حتى نحقق معنى إنسانيتنا، وهذا برأيي يقين بأننا دوما خاضعين لسلطة الواقع بعيدا عن سلطة إرادتنا وكذا واقع عناصر مقوماتنا والتي تضرب بجذورها في أعماق الصمود وربما أعمق من ذلك.
قد يقودنا التغير السريع عبر مختلف مراحل الوجود الإنساني في كل المجالات إلى القول بأن العالم يتقدم و لكن في أي اتجاه حتى نعرف طبيعة هذا التقدم، المهم أنه يتقدم وفقط ومجتمعنا إذا أراد أن يساير المجتمعات المتقدمة فما على أفراده إلا أن يقوموا بما يقوم به الآخر الذي نعتقد أنه مهد للتقدم وأهل له(مع التحفظ) فما معنى التقدم؟ وما مدى تقبلنا لهذه الفكرة الغريبة؟
التقدم هو مقدار الخطوات التي نقطعها في اتجاه معين فنصبح مختلفين عن الوضع السابق وذلك في مختلف نواحي الحياة.
من هنا لابد من معرفة موقعنا وكذلك اتجاه حركتنا ومقدار هذه الحركة حتى نقول بأننا نتقدم إلى الأمام أو إلى الوراء، وكذا الصفة التي يكتسيها نوع هذا التقدم، وهذا يتأتى من خلال إسقاط المقومات المرجعية للمجتمع على سلوكياتنا لنقيس المسافة ونتعرف على النتيجة قصد رسم الخطط وتجنيد الإمكانيات ومختلف العمليات والإجراءات الطامحة لهيكلة المسار المِؤدي إلى الطريق المأمول.
يعتمد العالم اليوم(أمريكا) على معايير محددة لتصنيف الدولة على أنها متطورة وشعبها متحضر، لكنني في خضم كلامي سأتحدث عن الحرية كمعيار معتمد لقياس التقدم كصفة لها معناها في المنظور الأمريكي الرأسمالي.
إن الحديث على المجتمع المحافظ كلام وثيق الصلة بقيم وعادات وتقاليد وأعراف ودين ومرجعية الأفراد فهذه العناصر الثقافية متفاعلة تشكل حاجزا ثقافيا لا يمكن الاقتراب منه ولا تجاوزه ولا المساس بمادته الأولية ولا حتى التفكير في التنازل عنه، لكن الفكر الغربي برؤيته الشريرة وأفكاره المدمرة التي تهدف إلى غزو نسيجنا الاجتماعي الصلب ونخره وتصديعه يروج لفكرة جد خطيرة وهي التحرر من القيم الإنسانية الأصيلة، فالأصالة عنده بما هو موجود و متاح من مضامين ثقافية ذات طبيعة ديناميكية، فالتقدم الحقيقي من مخرجاته ضمان الهوية الأصيلة بما ينتج ويقدم من مبادئ وقيم حضارية، أما حرية الفرد في القيام بما يشاء دون أن تخضع سلوكياته وأفعاله لضوابط مهما كانت طبيعتها والحكم هنا ينسحب على الضابط الأول لحياة المجتمعات المسلمة ألا وهو الدين الإسلامي, حيث ينبغي -حسبهم- الانخلاع من ضوابطه والانصهار في بوتقة ضوابط الحضارة المزعومة وقيم التقدم المدمرة.
إن الصراع الفكري وصل اليوم إلى أبعد الحدود نتيجة مختلف الأخترعات الإنسانية التي غيرت من طرق السيطرة التقليدية وأقحمت آليات جديدة تسيطر بها المجتمعات المتملكة والمتحكمة فيها على مختلف مجالات الحياة -وربما كلها- وضننا أنها تخدم الإنسانية ولكننا نجهل الشطر الثاني والوجه الخفي وهو ما يخطط ويدبر من مكائد لمجتمعاتنا مراهنين في ذلك على نجاعة هذه الوسائط والطريقة التي يراد لنا أن نستعمل بها هذه الوسائل، حبث تهدف العملية في صميم غاياتها إلى غزو العقول واصطياد الشباب في شباك الدناءة الخلقية المخبأة في علبة الحضارة.
إن الإنتاج الفكري الغربي يسير بوتيرة تفوق السريعة فقد وصلوا إلى تصورات عديدة لعدد من الأفكار التي يريدون تطبيقها تحت مسميات ومفاهيم توهيمية وما يدعم موضوعنا نتكلم على مفهوم ما بعد الحداثة وهو مفهوم فلسفي لرؤية وتصورات غربية تجعل من الإنسان حرا في كل شيء، فقد وصل إلى درجة من الإبداع الذي جعل تصرفاته تدرج تحت مسمى الفن (الفن للفن) دون التطرق للأبعاد الأخلاقية وهذا ما جعل شبابنا يبتعدون عن الفتاوى الدينية والاستماع لصوت واحد وهو فتوى الحضارة وما تفرضه من أمور أصبحت تقدر على أنها أحكام واعتبارها كمبررات لممارساتهم وهذا ما يفسر من جانبه عمق الغرق في مستنقعات الأفكار الخبيثة وهي أفكار لا تبني بقدر ما تهدم ولا تنبؤ إطلاقا بالأمر الخيّر للمجتمع بقدر ما تجعله يحتضر في انتظار تسلمه شهادة وفاة قيمه الأصيلة التي باتت وشيكة في نظر البعض ليبعث إلى العالم الآخر.
إن راية المجتمع ترفع من خلال الدفاع عن ثقافته في وجه من يريد تدميرها وطمس معالم هويتها، لكن لو نقوم بمقارنة بسيطة بين واقع الإنتاج في مختلف المجالات في المجتمع الغربي ومجتمعنا سوف نكتشف الفرق الشاسع والهوى المتسعة مع استمرار تدفق الأيام، وسيتيقن أغلبية أفراد المجتمع العربي أنه لا يمكن لمجتمع مستهلك لا يقدس العمل ولا يؤمن به كقيمة إنسانية -في غالب الأحيان- أن يراهن على منافسة مجتمع منتج وله من القيم ما يجعله في الصدارة عن جدارة ونصل في النهاية إلى نقطة مهمة وهي منطقية التبعية.
ولكن تفسيري ورؤيتي لهذه الظاهرة تأخذ بعدا آخر وهي بعد المجتمعات العربية عن مرجعيتها الأصلية وتخليها عن قيم شريعتها وعدم العمل بها والانتفاع بفوائدها وهذا يعد نكران للذات، أما الإنغماس الغريب في قيم الثقافة الغربية هو تصنع وليس طبيعة إنسانية بل وتقمص لدور الغير الذي لا يعكس واقعنا ولا يمكن لممثل في كل الأحوال أن ينجح في حياته بشخصية غيره، لأن الطبيعة الإنسانية تبنى على مميزات البيئة التي نشأ فيها الإنسان أما قضية التأثر بالآخر ففيها من الإيجابيات الكثير لكن بشرط أن لا تقتلعنا من جذورنا فالتأثر المناسب هو وظيفي تكميلي فقط ما يكمل ثقافتنا ويقوي ويبرز معالم هويتنا.
إن الدولة الإسلامية نشأت بعدد قليل من الرجال سر نجاحهم وتفوقهم وتحقيق مشاريعهم هي المبادئ التي آمنوا بها والغاية الشريفة التي كانوا ينشدون تحققها "فالواحد منهم بقوة ألف" يزلزل الأرض ويحرك الجبال بعزيمته وإقدامه النابعين من قوة إيمانه وثقته بالله أما اليوم فالمفاهيم تغيرت والشخصية الإسلامية زال مفعولها وانقلب معناها رأسا على عقب فقد أصبحت ضعيفة وبطاريتها تتضاءل يوما بعد يوم فالأحرى القول "ألف مسلم بأف" -نقص فعالية المسلم-.
إن التقدم التكنولوجي والعلمي والتقني الذي لا يخدم مبادئنا لا يمكن الأخذ به حتى تتم قولبة مخرجاته بما يتلاءم وقالب ثقافتنا، فلا ينفع تبرير التبعية بأن العالم قرية وأن عصر السرعة لا يرحم ونحن في عصر القلق حيث أصبح كل فرد يشعر بأن عليه القيام بعدد كبير من الوظائف دون التطرق إلى الوظائف العديدة المتعلقة ببناء الهوية و الحفاظ على الثقافة وعدم بيع الأصالة بعملات لا تتداول في أسواقنا، فعلينا بذل الجهود وتكثيفها من خلال السهر على صياغة برامج التوعية والوقاية من هذه السموم والعمل على تطبيقها، ولا يفوتني هنا إلا أن أشير إلى نموذج يقتد به في مواجهة الغزو الخارجي إنه التنين النائم:الصين بلد يبلغ تعداد سكانه عدد سكان كل المسلمين في العالم فرغم كثرة الديانات التي لا تعد ولا تحصى إلا أننا ما نشهده من ثبات ثقافي دليل واضح على الاستراتيجيات الناجحة التي تنتهجها الحكومة الصينية في وجه الخطط الأجنبية وما يدعم هذا الكلام المهرجان الثقافي الصيني الذي يقام كل سنة للتأكيد على قيمة الثقافة الصينية وترسيخها لدى أبناء بلدهم وبعث رسائل إلى الدول المتربصة بأن التقدم والتحضر ينطلق من الأصالة والاعتزاز بها هو نقطة الاقلاع نحو أي وجهة.
تشكلت رؤية واضحة حول الضعف الفظيع الذي يشعر به الفرد المسلم -العربي بالدرجة الأولى- مهما كانت مكانته الاجتماعية وهو الأمر الذي أدى إلى تبنيه لفكرة "لن نسبق الغرب" مع العلم أننا خير أمة أخرجت للناس ودستورنا القرآن الكريم فيه من النقاط والمبادئ التي لو اتبعناها لانتصرنا في كافة مجالات الحياة، فعلماء الأمة الإسلامية ما كانوا ليكونوا كذلك لولا عملهم بتعاليم القرءان واقتداؤهم بمن سبقهم من السلف الصالح فكانوا خير خلف لخير سلف، فالقرآن الكريم نظم حياتهم وفيه تحديد لمختلف المسخرات التي وفرها الله لكي تستغل لصالح الإنسانية.
إن الحفاظ على الثقافة الأصيلة من الزوال في وجه الآخر الذي يخطط لضرب معاقلنا ونقاط ضغطنا ليخرج منها هواء الأصالة أصبح مطلبا أكثر من ضروري فالتحدث عن قوة الغرب والتغني بثقافته وتمجيد نموذجه وتقديس أساليب حياته يعتبر مضيعة لمزيد من الوقت الذي نحتاج لاستثماره فيما يخدمنا وكذلك مزيد من رسائل الاطمئنان اللا شعورية التي نبعث بها إلى الغرب والتي مفادها لا خوف على مشاريعه فكل شيء يسير كما هو مخطط له.
إن الانطلاقة الحقيقية التي نرغب فيها هي من بوابة الفكر و الفكر مجال واسع والكتابة في هذا المجال لابد أن تكثر وتتكاثر وتسوق لأبناء مجتمعنا حتى نعود لسابق عهدنا ونسترجع مقومات الشخصية الاجتماعية الأصيلة ولكي نفرض أنماط تخضع لواقع ثقافتنا ومن ثم نتقوى بالاعتزاز بأصالتنا و نصرة ديننا والوقوف عليه.