95

0

الأمير عبد القادر الجزائري: مؤسس الدولة وبوصلة الروح في زمن الانكسار

في مثل هذا اليوم، السادس والعشرين من ماي سنة 1883، توقف نبض قلب كان يخفق بقضية أمة، ورحل جسد أنهكته المنافي والسجون والمعارك، لكنه ظل شامخًا في ذاكرة التاريخ وضمير الإنسانية. إنه الأمير عبد القادر الجزائري، الذي لم يكن مجرد رجل مقاومة حمل السيف في وجه الاستعمار الفرنسي، بل كان أمة تمشي على قدمين، مدرسةً فكريةً وروحيةً متكاملة، ومشروع دولة سابقًا لعصره.

بن معمر الحاج عيسى

 

وُلد عبد القادر بن محيي الدين في 6 سبتمبر 1808 قرب مدينة معسكر في الجزائر، وسط بيئة علمية ودينية تُقدّس القيم الإسلامية وتُشجع على طلب العلم، حيث نهل من ينابيع الفقه والتصوف والفلسفة، وبرز منذ شبابه كقائد يتمتع بكاريزما فريدة، جعلت منه لاحقًا زعيمًا للمقاومة الجزائرية ضد الغزو الفرنسي الذي بدأ عام 1830.

 

لم يكن الأمير عبد القادر قائدًا عسكريًا فحسب، بل كان سياسيًا محنكًا استطاع أن يؤسس نواة دولة جزائرية حديثة بكل ما للكلمة من معنى. أنشأ مؤسسات إدارية، وسكّ عملة، وأسس نظامًا قضائيًا، وقسّم البلاد إلى مقاطعات، وأنشأ جيشًا نظاميًا، واهتم بالبنية التحتية، في وقت كانت فيه آلة الاستعمار تهدم وتُهجر وتُشرد. لقد أدرك الأمير أن النصر لا يكون فقط في ميدان القتال، بل في بناء الإنسان والدولة، وفي الحفاظ على الهوية والثقافة والدين.

 

دامت مقاومته سبعة عشر عامًا من الصمود والمفاوضات والكرّ والفرّ، مُلحقًا بالجيش الفرنسي هزائم فادحة، جعلته يحظى باحترام حتى ألدّ أعدائه. لكنه، وبعد أن وجد نفسه وحيدًا دون دعم عربي أو إسلامي، فضّل حقن دماء شعبه، فسلّم نفسه عام 1847 بشروط تعهد فيها الفرنسيون بعدم تسليمه، لكنهم خانوها ونفوه إلى فرنسا، ثم إلى دمشق حيث عاش بقية حياته.

 

في منفاه، لم يُطفئ الغربة في قلبه جذوة النور التي كانت تسكنه. كان بيته في دمشق ملاذًا للعلماء والفقراء والمستضعفين. وعندما اندلعت الفتنة الطائفية في الشام عام 1860، وقف الأمير موقف العظماء، وحمى آلاف المسيحيين من القتل، رافعًا راية الإنسانية فوق كل الانتماءات الضيقة. نال بسبب ذلك تقديرًا عالميًا، فقلّدته فرنسا وسام الشرف، وأشاد به كبار المفكرين في أوروبا، من بينهم فيكتور هوغو الذي كتب عنه بانبهار.

 

كان عبد القادر صوفيًا بامتياز، ينتمي للطريقة القادرية، لكنه لم يكن متقوقعًا في الزوايا بل منفتحًا على فلسفات الشرق والغرب، مما جعل فكره يجمع بين الإيمان العميق والتسامح الواسع والرؤية المستقبلية. كتب في الفقه، والسياسة، والفلسفة، والتصوف، وكان يرى أن النهضة لا تقوم إلا على التنوير، وأن الدين جوهره المحبة والعقل، لا التعصب والانغلاق.

 

لقد جسّد الأمير عبد القادر المعادلة الصعبة: أن تكون قائدًا مقاتلًا ومفكرًا متصوفًا في آنٍ واحد. أن تكون حازمًا في وجه الظلم، لكن رقيقًا أمام آهات المستضعفين. أن تحمل السيف ساعة الحرب، والقلم ساعة السلم. أن تُفكر في وطنك، لكن لا تنسى الإنسانية جمعاء.

 

حين توفي في 26 ماي 1883، بكى عليه الجميع، المسلمون والمسيحيون، العرب والفرنسيون، الفقراء والعظماء. ودفن في دمشق، قبل أن تُعاد رفاته إلى الجزائر عام 1965 ليُوارى الثرى في مقام الشهداء، في لحظة تاريخية حملت رمزية استعادة روح الوطن الذي حلم به.

 

واليوم، بعد مرور 142 عامًا على رحيله، لا يزال الأمير عبد القادر حيًا في ضمير الشعوب التي تُقاوم، في عيون من يؤمنون بالحرية والكرامة، في فكر من يرون أن الدين لا يُختزل في طقوس، بل في القيم الكبرى التي تُنقذ العالم من جحيم الحقد والظلم.

 

إنه ليس مجرد صفحة في كتاب التاريخ، بل مرآة نرى فيها وجوهنا حين نبحث عن معنى الشرف، والوطن، والكرامة. فهل نُعيد قراءته لا كذكرى، بل كمشروع يُلهم الأجيال، ويضيء درب الأمة من جديد؟

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services