314
0
العربية في مناهج التدريس تصارع من أجل البقاء حتى في عقر دارها !!
الحرب الحقيقية هي حرب الأفكار و المناهج

مصطفى محمد حابس : جنيف / سويسرا
تتمثل الغاية من التذكير باليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف يوم 18 ديسمبر من كل عام، في إبراز أهمية اللغة في التربية والتعليم محليا ، أما دوليا - على قدر أهل العزم - فهي تسعى في ولم الشمل لإجراء حوارات بَنّاءة بين الثقافات، وتشكيل التصورات، وتعزيز التفاهم في المشهد العالمي الحالي الذي يتسم بالشكوك والاضطرابات خاصة في العقود الأخيرة، ونتوقف في هذا المقال عند موضوع مصيري للغة الوحي الإلهي، لغتنا العربية، التي تصارع من أجل البقاء في بيتها و بين أهلها !!
لا لشيء إلا لأن مناهج التعليم ليست بريئة، وليست سمن على عسل، بل فيها من العلقم والبصل، إذ أنه في كل بلدان العالم التعليم مسيَّس وموجّه وفق مذاهب وعقائد و(أيديولوجيات) ومفاهيم واضعي مخططاته، حول الوجود والكون والإنسان والحياة والنشأة والمصير، ووفق أغراضهم ومصالحهم القومية والوطنية والعقدية أو الحزبية والشخصية، لذلك فإن مهمة وضع مناهج التعليم في العالم الإسلامي مهمة جدًا لأنها المزرعة الحقيقة التي نريد أن نزرع فيها براعم الإسلام حتى نحصد ثمارًا طيبةً ومفيدة، لهذا فإن أبناء الاسلام ومستقبلهم العلمي وفكرتهم السياسية وكيفية تعاملهم مع العالم ترتبط بماهية مناهج تعليمهم في المدارس والجامعات إذا كانت مناهج التعليم فاسدة أو فيها دخن خارجي غربي فهي تهدد مستقبل الأبناء جيلا بعد جيل، وهذا الذي يلاحظه اليوم العام والخاص في عالمنا العربي والإسلامي من تدني المستويات بشكل مخيف للغاية، ينبأ بتصحر كبير على كافة الأصعدة ..
المدارس مناراتٍ للهُدى لعظم مسؤوليَّة التعليم والتربية أمام الله
المدارس في عمومها تعلم ولا تربي، لأن مهمة التربية من مهام المحيط، وهنا يتفاوت الطُلاب في الاستعداد لهذه الغاية النَّبيلة حسب المجتمعات والمعتقدات والنوايا والمقاصد، إذ تتجدَّدُ في هذه المرحلة مسؤوليَّة الأبناء تجاه دراساتهم والآباء تجاه أبنائهم، لِقول النبيِّ - ص-: (كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والأمِيرُ راعٍ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِ بَيْتِهِ، والمَرْأَةُ راعِيَةٌ علَى بَيْتِ زَوْجِها ووَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ). فالمسؤوليَّة عظميةٌ وكبيرةٌ أمام الله - تعالى-، وحريٌّ بنا أن نُراقب الله - تعالى- فيما نتحمَّله من مسؤوليَّةٍ في مدارسنا ، وكُلُّنا شُركاءُ في هذه المهمَّة والمسؤوليَّة، ابتداءً من المُدير، والمُعلِّم، والأب، والطَّالب، و ... وينبغي علينا أن نستشعر كمربين عظم هذه المسؤوليَّة أمام الله، وأنَّ مدارسنا بُنيت لتكون مناراتٍ للهُدى، ونشر الخير، والصَّلاح، والفضيلة، ورفعاً للمُجتمع عن الرَّذيلة، فينبغي أن تتكاتف الجُهود لتحقيق هذه الأهداف السَّامية.
لا بد وأن نستشعر الإخلاص لوجه الله - تعالى-؛ فالعلم من الأُمور التي يُحبُّها الله ورسوله والتي رغَّبا بها، وقد جاء عن الإمام أحمد قوله: "العلم لا يعدله شيء إذا صَلُحت النيَّة"، التي تحثُّه على الفضيلة، وتُبعدهُ عن الرَّذيلة، وبالهمَّة يكون العلم صلاحاً ونماءً لصاحبه، ومن قصَّر في طلبه للعلم يكون وبالا على المجتمع في الدنيا ومسؤولاً أمام الله يوم القيامة.
حيثُ إنّ أبناءنا الطلبة باتوا يتلقون من أكثر من وسيلةٍ، ومن قنواتٍ مُختلفةٍ عميلة، فلا بُدَّ لهم عند قُدومهم للمدرسة أن يجدوا المُربِّي النَّاصح الذي يُرشدهم للخير، ويأخُذ بيدهم إلى الصَّلاح والهداية، ويُبعدهم عن الشُّبهات والشَّهوات والمُغريات، فأول ما بدأ الله به من آيات من حيث النُزول قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، وقد جاء عن الإمام الترمذي أنَّه كان من دُعاء النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام-" أن يُعلمه ما ينفعه، وأن ينفعه بما علمه، وأن يزيدهُ من العلم"، كما ينصحُ الطلبة بالتَّواضع والأدب عند طلبهم لعلم ما، وأن يكون قُدوتهم في ذلك نبي الله موسى - عليه الصلاة والسلام - : عندما ذهب إلى الخضر للتعلُّم منه، فقال - تعالى- في وصف ذلك: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)، وممَّا جاء في الشِّعر العربي من الحثِّ على العلم وطلب الاستزادة منه، وعدم الاقتصار على فنٍّ بعينه، قولهم:
احرص على كلِّ علمٍ تبلغ الأملا ... ولا تواصل لعلمٍ واحدٍ كسلا
النحلُ لما رَعَتْ من كلِّ فاكهةٍ ... أبدت لنا الجوهرين: الشمعَ والعَسَلاَ
الشمع بالليل نورٌ يُسْتضاءُ به ... والشهدُ يُبري بإذن البارىءِ العِلَلاَ
من ((درة الحِجال)) : (3/ 49) .
فجدير بالمتعلمين أن يضعوا نصب أعيُنهم أنَّ العلم النَّافع ممَّا يلحق الإنسان بعد موته، لِقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (أربعةٌ تجري عليهم أجورُهم بعد الموتِ: من ماتَ مرابطًا في سبيلِ اللهِ، ومن علَّم علمًا أُجريَ له عملُه ما عُمِلَ به، ومن تصدَّق بصدقةٍ فأجرها يجري له ما وجدتْ، ورجلٌ ترك ولدًا صالحًا فهو يدعو له). كما يجب أن يكون قُدوتهم في التَّعليم مُعلِّمنا الأوَّل مُحمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد قال عنه بعض الصَّحابة: (ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا
منه، فَوَاللَّهِ، ما قَهَرَنِي ولَا ضَرَبَنِي ولَا شَتَمَنِي).
الغزو الفكري، مفاهيم ومعان، لابد لها من توضيح:
إن كلمة “الغزو” في اللغة العربية، كما جاء في القواميس، تدل على القصد والطلب والهجوم على الأعداء وقتالهم في عقر دارهم، وقهرهم، والتغلب عليهم ولم تكن كلمة “الغزو” تطلق في القديم إلا على الغزو العسكري من خلال الحروب والمعارك بين الجيوش في ميدان القتال.
وفي العصر الحديث ظهر مصطلح “الغزو الفكري” والمقصود به بشكل عام إغارة الأعداء على أمة من الأمم بأسلحة معينة، وأساليب مختلفة، لتدمير قواها الداخلية وعزائمها ومقوماتها، وانتهاب كل ما تملك، وبهذا يظهر ما بين المصطلح واللغة من صلة، حيث إن كلمة “الغزو” استعملت بمعنى الإغارة للاعتداء والنهب ولكن عن طريق الفكر وتدمير القوى المفكرة في الأمة المغزوة وما يصحب ذلك من تخريب وسيطرة.
من أهداف الغزو الفكري التي تجتاح المسلمين:
إن هذا الغزو الفكري الذي يجتاح العالم الإسلامي له أهداف متعددة، ومنها حسب المحللين والمختصين، نذكر على الخصوص:
1- استعمار المسلمين فكريًا وإبعادهم عند دينهم
2- إزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام
3- تفريغ العقل والقلب من القيم الأساسية، المستمدة من الإيمان بالله. ودفع هذه القلوب عارية أمام
4- عاصفة هوجاء تحمل معها السموم عن طريق الصحافة والمسرح والفيلم والأزياء والملابس
5- تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضاري، بدعوى أن الحضارة الإسلامية منقولة عن حضارة الرومان، ولم يكن العرب والمسلمون إلا نقلة لفلسفة تلك الحضارة وآثارها. ..
الغزو الفكري هو أبشع وسائل الغزو: الداء والدواء
ليصبح بذلك مصطلح “الغزو الفكري” تعبير دقيق بارع، يصور خطورة الآثار الفكرية التي قد يستهين بها كثير من الناس؛ لأنها تمضي بينهم في صمت ونعومة، مع أنها حرب ضروس لا تضع أوزارها حتى تترك ضحاياها بين أسير وقتيل أو مسيخ، كحرب السلاح أو هي أشد فتكًا، ليتبين بعدها لكل ذي بال، أن الغزو الفكري هو أبشع وسائل الغزو، هذا الغزو يبني ويهدم أممًا. ويُشير الغزو الفكري إلى أنّه تطلّع أمّة ما إلى محاولة بسط نفوذها وسيطرتها على أمّة أخرى والاستيلاء عليها للتحكم بها، ولو عن بعد، بواسطة " الريموت كنترول"، وتوجيهها نحو طريق معين لتضليلها أو إغراقها
بداية الغزو الفكري مع الثمار المرة التي حصدها الصليبيون:
الغزو الفكري من الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الغربي عموما والصليبي خصوصا لمحاربة الإسلام ونشر الشبهات والأفكار الغربية بين المسلمين، والدافع الرئيس لاستخدام الغزو الفكري في الحروب الصليبية هو الثمار المرة التي حصدها الصليبيون من حروبهم الصليبية الأولى مع المسلمين في القرنين الخامس والسادس الهجريين (الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين) والتي انتهت بالهزيمة والفشل رغم جميع مؤامراتهم، و لنا في التاريخ الاستعماري للجزائر أبهر وأشهر دليل ..
وبعد خروج الفرنسيين من مستعمراتها بدأ التخطيط لحرب الكلمة بدل حرب السنان، واتجهت نحو نزع هذا الدين من أعماق المسلمين ليزرع بدله الأفكار الهدامة. وهذه الهزيمة تسببت في تغيير الغرب طريقة تفكيرهم في محاربة الإسلام والمسلمين، وبعد أسر لويس التاسع ملك فرنسا في مصر وبقائه سجينًا في المنصورة فترة من الزمن حتى افتداه قومه وفُكّ أسره، وقال لويس التاسع بعد تفكير فيما حلّ به وبقومه: " إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح ولكن حاربوهم في عقيدتهم، فهي مكمن القوة فيهم".
يقول المفكر محمد جلال كشك - رحمه الله- في كتاب "الغزو الفكري": “إن عملاء الغزو قد عملوا منذ نهاية القرن التاسع عشر منذ أن تقرر في أوكار الصهيونية والاستعمار تدمير الخلافة الإسلامية، عملوا على تخريب الفكر الإسلامي وتشويه عقل المسلمين وهم ما زالوا يعملون، ولكن الأسماء تتغير والشعارات تتلون ولكن الهدف واحد وهو تجريد المسلمين من إيمانهم بالله والكتائب في ذلك واحدة هي كتائب الغزو الفكري، الطابور الخامس الذي يعمل داخل صفوفنا ليجهز على مقاومتنا”.
: الحرب الحقيقية هي حرب الأفكار والمناهج و المدارس
من أخطر وسائل الغزو الفكري، التي تأتينا عبر مناهج التعليم ووسائل الإعلام
1 - في مناهج التعليم:
إدخال خاصة التربية الجنسية والإباحية الجنسية، لتصبح الاسرة ليس بالضرورة تتكون من أب و أم وأطفال، بل قد تتكون من رجلين وأطفال أوامرأتين وأطفال .
محاصرة الدين بتقليص الحجم الساعي أو حذف تخصص التربية الإسلامية ووضع تخصصات أخرى قد يتعلمها الانسان لوحده كبعض الفنون والموسيقى.
ثم ماذا يقول بعض المفكرين والقادة الغرب عن مناهج التعليم:
قال الكاتب الأمريكي اليهودي توماس فريدمان : الحرب الحقيقية هي حرب المدارس، يجب تغيير المناهج؛ لكي يقبل الطلاب سياستنا كما يحبون فطائرنا
وليس غريبًا أن نجد الكاتب فريدمان يتحمل مشاق السفر وعناء الترحال، ليحضر بنفسه حفل افتتاح مدرسة للفتيات في قرية نائية في جبال هندوكوش في أفغانستان، موّلهًا أحد أثرياء الأمريكان، وليس غريبًا أن نجده يكتب عن ذلك الحفل، وهو يشعر بالسرور فيذكرنا بماهية جوهر الحرب على الإرهاب (الإسلام)، فيقول: “إنها حرب الأفكار داخل الإسلام..”.
ويسترسل فيقول: “لقد كان غزو أمريكا لكل من أفغانستان والعراق في بعضه محاولة لخلق مساحة للتقدميين (أتباع الغرب) على الإسلاميين للنضال والفوز، حتى يتمكن المحرك الحقيقي للتغيير، وهو أمر يتطلب 21 عامًا وتسعة أشهر لإنتاج جيل جديد يمكن تعليمه وتنشئته بصورة مختلفة”.
2- في وسائل الإعلام :
إن للإعلام دورًا هامًا في تغذية المجتمع بالمعلومات والحقائق عن كل ما يحدث فيه، ويفيد المجتمع في الوقوف على كل المستجدات أولًا بأول مما يفيده في اتخاذ القرارات الهامة والمصيرية.
وأيضًا الإعلام له دور إيجابي وسلبي في نفس الوقت، حيث يكون إيجابيًا في تنمية وعي المجتمع الإسلامي بالأحداث حول العالم، إذ أصبح العالم قرية صغيرة بفضل النقل المباشر للأحداث الجارية، وله دور سلبي بنشر وسائل الإعلام الغربي للأخبار المزيفة والتلاعب بالعقول البشرية
يقول المفكر جوزيف ناي في كتابه: «القوة الناعمة: سبل النجاح في عالم السياسة الدولية»، الذي صدر في العام 2004. إن “المعارك لا يمكن أن تُربَح فقط في ميادين القتال، وإن الكاسب في الحرب هو ذلك الذي تكسب قصته في الإعلام”.
وفي محاضرة شهيرة ألقاها البروفسير الأميركي «ماكس مانوارينغ»، في العام 2012، نصح الرجل القادة العسكريين الغربيين مباشرة بتبني «أساليب قتالية حديثة»، يقع بعضها في المجال الإعلامي، معتبرًا أن “تنفيذ تلك الأساليب بدأب، سيقود العدو إلى أن يستيقظ يومًا ما فيجد نفسه ميتًا، من دون أن نبذل الجهد في إطلاق النار عليه”.
وهنا نرى أهمية الإعلام وتأثيره في المجتمعات وفي عالمنا الإسلامي نحن نواجه وبلا شك حربًا عنيفة لتشويه الإسلام والتاريخ الإسلامي وحضارتنا الإسلامية وهؤلاء المحاربين للإسلام ليسوا الغربيين لكن هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!!
سيناريوهات المؤامرة الفرنسية على العربية مستمرة في مغربنا
إن قضية تعدد اللغات في البلد الواحد أضحى من الأمور المطلوبة و المرغوبة بل الواقعية، إذ في أوروبا اليوم مثلا تكاد أغلب الدول تسير في اتجاه الاعتراف بتعدد اللغات والألسن، وبات بحق الجميع تداول اللغة التي يرغبون فيها، والاعتراف الرسمي باللغات حسب المجموعات اللسانية السائدة، هذا فيما يتعلق بأوروبا ففي سويسرا مثلا البلد الصغير الحجم هناك اربع لغات معترف بها كلغات رسمية وهي الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومنشية، أما في بلجيكا فمعترف بكل من: الألمانية والفرنسية وفلامية ، ولنا أيضا أمثلة أخرى عديدة في بلدان أخرى ككندا التي أقرت ثلاث لغات رسمية، هي: الإنجليزية، الفرنسية، الإنكتكوت .. لا لشيء إلا ، لأنه للغة طابع اجتماعي وثقافي، وليست مجرد أداة للتواصل، إنها أداة لنقل القيم والتعبير عن الحياة الاجتماعية، وأساس الهوية الجماعية والفردية، وهي رمز من رموز التراث الثقافي وحاملة المعرفة وناقلتها، كما أنها أداة للتنشئة الاجتماعية، فمن خلالها يتحدد نمط السلوك والشخصية، ولا يستطيع الفرد أن يبدع وأن يفكر خارجها، لذا يتعين تحديد وظيفة اللغة: فهل اللغة مجرد أداة لاستهلاك الجاهز وتلقين المعرفة أم أنها أداة للإبداع؟ لا يمكن أن نحدد دور ومكانة اللغة، إلا بتحديد وظيفتها، لهذا يذهب بعض المهتمين بالموضوع إلى الحديث عن كون القضية اللغوية بالمغرب العربي يمكن معالجتها من ثلاث مستويات: اللغة الكونية، واللغة الوطنية - الرسمية، واللغة الأم.
ويراهن المشروع، حسب المدافعين عنه، على إعطاء روح جديدة للتعليم الجامعي خاصة في شقه المرتبط بالشعب العلمية، وتجاوز الفشل الذي يصطدم به الطلبة العلميين بهذا السلك من التدريس، بسبب تلقيهم للدروس العلمية في المرحلة الثانوية باللغة العربية قبل أن يتابعوها بلغة موليير في الجامعات والمعاهد العليا
وحسب وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والبحث العلمي في المغرب، يفشل طالب من بين أربعة في استكمال دراستهم الجامعية، بسبب عائق اللغة، وهو ما يدعو الطبقات الميسورة لاستباق هذا الانقطاع الاضطراري عن الدراسة، بإرسال أبنائها إلى المدارس الخاصة منذ المرحلة الابتدائية، والتي تعتمد الفرنسية في التدريس ضمانا لمستقبلهم..
ويعتبر المغرب و الجزائر و تونس و موريتانيا و لبنان و سورية من البلدان العربية التي يزدهر فيها هذا النوع من التعليم، ما أفرز نوعين منه: الأول عمومي يرتاده عامة أبناء الشعب، وتعليم خاص لا يستفيد منه إلا حفنة محدودة من المواطنين ممن تسمح لهم الإمكانيات المادية بذلك.
وباتت سياسة التعريب التي انتهجتها بعض دول المغرب العربي، منذ سنوات الثمانينات محط جدل بين فئة متمسكة باللغة العربية كأداة للتدريس، وأخرى تعتبرها غير مؤهلة كليا لذلك لاسيما في المجال العلمي، بحكم أن الشُعب العلمية في التعليم العالي تدرس باللغة الفرنسية!!
مطلب التعدد اللغوي والتنوع الثقافي في مجتمعاتنا على المحك
رغم كل ذلك يعتبر مطلب التعدد اللغوي والتنوع الثقافي سمة ملازمة للمجتمع البشري مهما كان أصله وفصله، بحيث يصعب الحديث عن مجتمع أحادي اللغة أو الثقافة، ففي كل الدول تتعايش اللغات المختلفة والثقافات المتنوعة بهذا القدر أو ذاك. والمجتمعات المغاربية لا تشكل استثناء، فعبر تاريخها تعايشت حضارات عريقة عابرة مع الحضارة الأمازيغية التي يشهد لها التاريخ بكونها أولى الحضارات المتواجدة في منطقة شمال إفريقيا.
عبر تاريخها وبفضل موقعه الاستراتيجي شكل المغرب الإسلامي منطقة عبور، توافدت عليه كبريات الحضارات: الفينيقية، البيزنطية، الرومانية، العربية - الإسلامية... وتعايشت مع "السكان الأصليين"، وحصل ما حصل من تمازج وأخذ وعطاء، وتداخلت الثقافات العابرة مع الثقافات المحلية. وتعتبر الحضارة العربية ـ الإسلامية أهم حضارة عمرت المغرب قرون عديدة، ولازالت إلى يوم الناس هذا، حيث يشكل الإسلام واللغة العربية جزءا من الهوية المغاربية، من ليبيا لموريتانيا، و لله الحمد.
من هذا التدافع حول تدريس العربية و اللغات الأخرى يستلزم على دول المغرب العربي تدبير الوضع بهدوء، واتباع سياسة لغوية واضحة قادرة على وضع حد للفوضى اللغوية التي نعيشها في تونس و الجزائر، و المغرب و موريتانيا، وهي سياسة منوطة بكل الفرقاء المعنيين وكل المؤسسات العلمية القادرة على رسم هكذا استراتيجية تستجيب لمطلب التعدد وتحافظ عليه، وهو ما لن يتم إلا بالحوار بين المكونات الثقافية واللغوية معا، فدول المغرب العربي لا تعوزه المؤسسات العلمية القادرة على الدفع بإنعاش التعدد وتطوير الخريطة اللغوية وتقويم الاعوجاج، كما لا تعوزه الكفاءات، إنما تعوزه الإرادة السياسية والوعي بالضرورة التاريخية التي تحتم هذا التدبير، فأغلب الدول الأوروبية شرعت في تدبير أوضاعها اللغوية قبيل الحرب العالمية الثانية وقد راكمت ما يكفي من التجارب، فهل نحن عاجزون عن تدبير حقيقي؟ يحتاج تدبير الوضع اللغوي إلى إمكانات مادية وبشرية هائلة، ولا ينبغي أن يشكل هذا مبررا لرفضه، لأن وضع حد "للفوضى اللغوية" الحالية هو إنصاف للتاريخ والحضارة وللشعوب في نفس الوقت ولا أعتقد أن التدبير يتم من خلال لغة واحدة كما يعتقد البعض، حتى و لو كانت هذه اللغة هي العربية لغة القرآن الكريم .. لأن باقي اللغات الأخرى، ألسن بل " آيات " ، كما جاء في قوله تعالى : " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (الروم : 22 ).
الفرنسية قاصرة و تكنولوجيا أمام لغلات عملاقة أخرى !!
أما بالنسب للغة الفرنسية، لغة المستعمر التي تدار حولها المشكلة، فهي لغة لها وزنها وثقلها الأكبر في إفريقيا لأمور تاريخية واستعمارية معلومة، وحتى المجتمع الفرنسي ذاته في أوروبا متعدد اللسان نظرا لكونه مجتمع المهاجرين بامتياز، حيث يتداول الفرنسيون: اللهجة الألمانية بالألزاس، الباسكية، البروطون، الكطلانية، الكورسية، الفلامنية الغربية، الأوكسيطونية، العربية الدارجة، الأمازيغية، الإيديش، الأرمينية الغربية، رغم ذلك سياسة التعليم أجبرت الجميع على لغة واحدة، وهي الفرنسية التي أصبحت قاصرة علميا و تكنولوجيا أمام لغلات عملاقة أخرى كالألمانية و الإنجليزية، وهو ما تفكر فيه بجد المنظومة التربوية الفرنسية، و الدول الناطقة بالفرنسية في أوروبا و أمريكا.
و بالتالي فإن فرنسا بلغتها في نظرنا لا تشكل النموذج المناسب لدول المغرب العربي، ذلك أن أغلب الدول الأوروبية عملت على تدبير التعدد اللغوي بإقرارها على الأقل لغتين وطنيتين رسميتين.. ومهما كان فإن المشوار لا يزال طويلا لترسيم استراتيجيات لغوية تربوية للأجيال بعيدا عن التبعية الاستدمارية في دولنا، إذ لا تزال سياسات تربوية تفرض من وراء البحار، لعدم وجود البديل، وغياب القرارات السيادية بغياب الحريات.. ففي اليوم الذي تكون للشعوب سيادتها وقرارتها واستقلالها الاقتصادي بداية بالاكتفاء الذاتي للشعوب في مأكلها ومشربها وملبسها، هنا مربط الفرس، أما بدون هذه الاساسيات، فيبقى الجميع يدور في حلقات مفرغة ومهدئات موسمية، وسيبقى بيت لقمان على حاله حتى يقيض الله للأمة من يقوم بمهمة التغيير نحو الأجود و الأحسن .. و إن غدا لناظره قريب.
( للبحث مراجع ..)