513

0

العنصرة في الأوراس.. موسم تينٍ ناضج ودخانٍ صاعد من ذاكرة الجبال

في أعماق جبال الأوراس حيث تتداخل الصخور مع أشجار الزيتون والتين وحيث ترتّل الريح أناشيد الأجداد عند المنحدرات، يولد زمنٌ موسميّ فريد لا تعترف به الروزنامة الرسمية، لكنه يحظى بقداسة في الذاكرة الجماعية للسكان، إنه موسم "العنصرة" 

ريبورتاج: ضياء الدين سعداوي

هذا الإسم الشعبي الغامض الذي قد يمرّ على غير أبناء المنطقة كلمحٍ لغويّ عابر، يمثل لدى سكان القرى والهضاب والأودية موعدًا ممهورًا بالتجربة والملاحظة و الموروثات التي تتناقلها الجدّات كوصايا مقدّسة: "من السابع جويلية، تبدأ "العنصرة" وتمتدّ 13 يومًا، فتقلب الأرض جلدها، وتُعلن الطبيعة مرحلة نُضج وتحوّل لا يشبه غيره".

 

7 جويلية.. علامة موسمية لا تخطئها العيون

 

في الوقت الذي يتابع فيه العالم نشرات الأرصاد الجوية، كان سكان الأوراس – وما زالوا – يراقبون علامات العنصرة بعيون فطرية مجرّدة :حرارة فجائية، رياح خفيفة لكنها ملتهبة و انتفاخ حبات التين والعنب في الحقول.

 

 

 

 

"اللي يجيه المرض في العنصرة ما ياكلش الهندي"، تقول الحاجة يمينة من قرية غوفي، في تحذير متوارث لا علاقة له بالعلم لكنه يعكس مدى ارتباط الإنسان بتجارب أجياله المتعاقبة.

ففي هذه الأيام تشتد الحرارة إلى درجة تجعل من أشواك التين الشوكي "تطير" في الهواء على حد تعبير الفلاحين، و يكاد المرء لا يسمع لصوت الرياح صدى رغم أنّ الشمس تلهب الأرض والجلد والذاكرة.

 

ثمار تنضج.. وحشرات تزحف


من بين أولى علامات العنصرة نضج الفواكه الصيفية: التين، العنب، النبق، عين بقرة والتين الشوكي، التي تنفجر تحت أشعة الشمس وتطلق روائحها المميزة في الحقول، هذا النضج لا يُنتظر فقط كموسم للفلاحة بل كمؤشّر إجتماعي يقود إلى طقوس وممارسات لاحقة.

 

 

لكن الطبيعة لا تمنح خيرها دون مقابل؛ إذ تظهر في هذه الفترة جحافل الذباب البعوض والنمل المجنّح، بل وحتى الزواحف الخطرة كالأفاعي والعقارب ، لذا لا غرابة في أن يتحوّل البيت الأوراسي إلى مسرح لتدابير إحترازية تبدأ بالتبخير و تنتهي بالتحذيرات الليلية.

 

التبخير.. طقس شعبي بنكهة بيئية


"نُبخّر الدار في العنصرة باش نطردوا الذباب والنمل.. ماشي للجن"، تقول السيدة يمينة من وهي تُشعل باقة من الأعشاب البرية تُعرف محليًا بـ"حُزمة العنصرة".

 

 

تتكوّن هذه الحُزمة من نباتات فريدة تنمو في الطبيعة الجبلية: الحرمل، الفليو، الزرّمت، الدرين، الحلفاء، العرعار، وغيرها من الأعشاب ذات الروائح النفّاذة. يُلقى بها على الجمر فينطلق الدخان في أرجاء البيوت، وتنتشر رائحتها في الزوايا والغرف فيما يتحلّق الأطفال لمشاهدة الطقس العائليّ الذي يتكرر كل سنة.

تؤكد دراسات علمية أن لبعض هذه الأعشاب خصائص طاردة للحشرات ما يجعل من هذا الطقس الشعبي ممارسة بيئية واعية، حتى وإن اتخذ في بعض الحكايات طابعًا روحانيًا أو خرافيًا.

 

منزلة "أنصاف أونوبذو" في التقويم الشاوي

 

في اللسان الشاوي الأمازيغي، تُعرف العنصرة أيضًا بإسم "أنصاف أونوبذو"، وتعني تقريبًا "منتصف الصيف"، في إشارة إلى شدّة الحرارة التي تميّزها، هذه المنزلة الفلكية ليست فقط مرحلة حرارية بل هي مرحلة عبور في الوعي الزراعي والطقسي للسكان.

"العنصرة تشبه العبور فوق جمرٍ مشتعل.. من يتحمّلها، يتحمّل باقي الصيف"، كما يقول أحد الرعاة من بلدية تكوت ولهذا، تنمو حولها روايات وأساطير. من لا يتحمّل العنصرة يُقال عنه إن "روحه خفيفة"، ومن يأكل فاكهة الهندي خلالها قد يُصاب بـ"إلتهاب في البطن".في تحذيرات شعبية تُروى بحكمة أكثر من كونها خرافة.

 

العنصرة زمن للحرارة.. وزمن للذاكرة


في مجتمعات الأوراس التي كانت تعتمد على الفلاحة والرعي كليًا، كانت العنصرة تُمثّل لحظة حذر وتعبئة، يوصي الكبار بعدم السهر خارج البيوت ويُمنع الأطفال من النزول إلى الحقول ويُنصح الرعاة بعدم المبيت في العراء تفاديًا للدغات الزواحف.

 

 

في ذات الوقت تمثّل هذه الفترة فرصة لجني الثمار المبكرة، وتخزين بعضها للمواسم المقبلة. كانت النساء تُجفف التين أو تعدّ منه مربى ، فيما يُحضّر الرجال أكياس "الحرمل" و"الدّرين" لتبخير البيت بها طيلة الصيف.

في مدن الأوراس.. العادة لا تزال حيّة


رغم انتقال جزء كبير من السكان إلى الحواضر والمدن الكبرى ما تزال طقوس العنصرة حيّة لدى كثير من العائلات. "نُبخر البيوت، المحلات، وحتى البالكون"، يقول شاب من آريس مؤكّدًا أن هذه الممارسة لم تعد مرتبطة فقط بالبيئة القروية، بل تحوّلت إلى رمز للإرتباط بالجذور.

بل إن بعض الشباب بدأوا يتداولون صور تبخير البيوت على وسائل التواصل و يستعيدون عبارات الجدّات عن العنصرة في نبرة فخر كأنما يحاولون انتزاع لحظة انتماء من زحمة الحداثة.

الطقس والهوية.. لغة لا تموت

تُعتبر "العنصرة" إحدى اللحظات النادرة التي تلتقي فيها البيئة مع الثقافة والفلك مع الذاكرة والتجربة مع الطقس ،إنها حدث غير معلن في الرزنامة الوطنية لكنه حاضر بقوة في الرزنامة العاطفية لكل أوراسي عاش على إيقاع الفصول وسمع حكايات الصيف الملتهب.

يقول الباحث في التراث الأزهاري الحانية: "العنصرة تُجسد كيف كان الإنسان في الأوراس يقرأ الطبيعة كشيفرة لا كمعطى علمي فقط، هي لحظة تعكس توازنًا دقيقًا بين الإنسان والأرض وبين المادة والرمز".

العنصرة.. حين تصغي الأرض إلى نفسها

 ليست "العنصرة" مجرد فصل زمني بل هي زمن يعلّمك الإصغاء و الإصغاء لصوت الأرض وهي تنضج و تنصت لصوت الجدات وهنّ يُبخّرن بيوتًا علّها تنجو من الذباب والسموم، لصوت الحكمة الشعبيّة وهي تُعلن أن للحرارة ذاكرة وللنبات دورًا وللإنسان مكانًا إذا أحترم إيقاع الطبيعة.

في الأوراس لا تزال "العنصرة" موعدًا مع جذور لا تذبل و مع ريفٍ يحتفظ بأسراره ومع حرارةٍ ليست فقط في الطقس بل في القلب والوجدان.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services