66
0
عيد الاستقلال: نور أعاد للحياة معناها وللإنسان كرامته..؟

بقلم: مسعود قادري
في حياة الأمم والشعوب أيام خالدة من أيام الله التي تنقش وتحفر في الذاكرة الفردية والجماعية لتبقى راسخة في الأذهان و نبراسا للأجيال تنير لها الدرب وتقتبس منها الدروس والعبر لتواصل صنع مستقبل الأمة.
للجزائر الشامخة، تاريخ حافل بالذكريات والعبر التي يدخرها ماضيها المجيد كمنارات للمستقبل منها ،ما هو اليم يحز في النفس لكنه لا ينسى ولا يمحى من سجلها مهما طال الزمان ، كمآسي الثورة التحريرية وما خلفه الدمار الفرنسي من آثار نفسية وبدنية ومادية رهيبة على الإنسان والحياة عامة . ومنها ما هو مفرح وسار توج كل التضحيات والمعاني وأنهى عقودا من الظلام الدامس والإهانات والتمييز العنصري.. هذه أيام لا يمكن أن تزول من ذاكرة الشعب والأمة أو يشوبها النسيان ولا يمحوها الزمن مهما تنوعت أحداثة وتطورت وسائله ..
يومان خالدان في تاريخ الجزائر الحديثة، يوم اندلاع الثورة التحريرية المباركة في الأول من نوفمبر 1954 ويوم الاستقلال في الخامس من جويلية 1962 الذي اختير ليمحو يوم الخامس من نفس الشهر سنة 1930 يوم دخول الجراد الفرنسي الهدام للبلاد ليأتي على الأخضر واليابس .. . إنهما يومان سيبقيان راسخين في ذاكرة الأمة والشعب والمحبين لهذا الوطن الذي كانت ثورته سببا في تحريره أوطانهم من بطش الاستدمار الغربي عامة والفرنسي خاصة ..
الفرحة الحقيقية الكبرى بفجر الاستقلال الذي سنحيي عيده الثالثة والستين هذ ه ألأيام سبقتها فرحتها كبرى يوم توقيف القتال ونهاية الحرب في 19 مارس 1962 يوم أنهى الله فيه ظلم الظالمين ونصر فيه أصحاب الحق والأرض المظلومين. يوم طلعت فيه شمس الحرية على وطن غيبت عنه مدة طويلة وبقي دفؤها يبعث الأمل في الأجيال الحرة التي لم تستكن ولم تقبل بالغربة في الديار حتى جاء وعد الله ".. وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا ..." .
ليس من السهل العودة بالذاكرة إلى أكثر من ستين سنة لاستحضار صور تلقائية نادرة الحدوث عن الفرحة العارمة التي عمت البلاد ليلة الإعلان عن توقيف القتال، 19مارس 1962، يوم تميزت فرحته بخروج القوات المحتلة من ثكناتها مطأطئة الرؤوس تجر أذيال الخيبة والذل.هذا الفرح العارم المفتوح الذي أعدت له الثورة منذ انطلاقتها في نوفمبر 1954 كان تقديما لفرحة نهاية الكابوس يوم الخامس من جويلية الذي قال فيه الشعب الجزائري كلمته الصريحة في الاستفتاء .. نعم للاستقلال والتحرر من قبضة المعتدي الفرنسي الذي جثم على بلادنا طيلة 132سنة واستغل شعبها وموارده الطبيعية استغلالا فاحشا لتطوير بلده على حساب الجزائر... كل هذا نسي في لحظة من لحظات الزمن المبارك الذي كرم الله فيه جهاد شعب مظلوم بالنصر على أعتى وابغظ وأخبث أنواع القوى الإجرامية والاستدمارية في التاريخ القديم والحديث ..
كل شيء صار من الماضي الذي يحفظ ولا ينسى من خلال الخروج التلقائي للشعب الجزائري بكل مكوناته إلى الشوارع والساحات يجوبها هائما وغير مبال بحال الجو الخارجي ولا بالجوع والعطش والضياء والظلام.. .شعب كان يعيش في سجن واسع حرم فيه طيلة سبع وسنوات ونصف ـ عمر الثورة التحريرية المباركة ـ من نسمات الليل الصيفية المنعشة ورؤية السماء والنجوم وهي تتلألأ و من اللقاءات الشتوية حول مواقد " المعمرات "( المدارس القرآنية) حيث كانت قوات العدو تفرض حضر التجول من سابعة المساء إلى ثامنة الصباح (صيفا وشتاء) ظنا منها أن ذلك يحد من نشاط المجاهدين والمسبلين .. هذا الحضر حرم الأسر من التواصل العائلي القرى خاصة حيث كان الليل سترها وغطاؤها .. حرم الأطفال من السمر قرب بيادر الحصاد والدرس والطلبة من الذهاب مبكرا للمدارس القرآنية.. هذا الحرمان زال في ليلة من ليالي الله المباركة فكسر القيوم ونزع الأغلال و أطلق العنان لخروج كل الشعب خارج الجدران معبرا عن فرحة الانتصار التي لا يمكن وصفها ولا الإحساس به إلا لمن عاشها وشعر باسترجاع حق كان مفقودا ونعمة كانت غائبة ..
نهاية الحرب : عودة الحياة وبداية الأمل ..
في قرية من قرى الجزائر العميقة التي جثم الاستعمار عليها منذ بداية الثورة وحرم أهلها بكل فئاتهم الصغيرة والكبيرة من أبسط شروط الحياة والاتصال التي كانت متوارثة بين الساكنة الذين يشكلون وحدة متكاملة بنيت على أسس عقائدية وتراثية راسخة وزاد في تحصينها تمسكها بأصولها في مواجهة سياسة التنصير بالخصوص لأن تعليم أبناء الجزائر وإدخالهم المدارس القصديرية الفرنسية التي أنشئت خصيصا لتعليم لغة الدخيل عنوة، لم تبدأ إلا في منتصف الثورة عندما اشتد الخناق على حكام المستدمر من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية سياسيا وضربات جيش التحرير الميدانية عسكريا . من بين مظاهر الحياة الطبيعية التي حرم منها السكان في الريف خاصة الذين لا يملكون مساكن واسعة بفناءات داخلية " مراحات " تتيح رؤية الجو الصافي وتلألأ النجوم وضوء القمر ليالي اكتماله وجمع أفراد العائلة في المناسبات الدينية ـ على الأقل ـ التي كانت تمر صيفا أو شتاء كبقية الأيام إلا ما كان فيها من مظاهر التهنئة التي يلغيها ما يرتكبه المستدمر من جرائم ضد عائلة من عائلات القرية فيتحول الفرح إلى مأتم عام تضامنا من العائلة المصابة .. .
افتقدنا السهر والسمر في الليالي العادية وحرماننا كان أكثر في شهر رمضان حيث فرض حضر التجول لا يسمح بإقامة التراويح التي تعد ميزة هذا الشهر المبارك ومنارة للمساجد ومحيطها الاجتماعي العام الذي فقد نكهة التمتع بكل مظاهر الحياة الريفية المرتبطة بالطبيعة وأزهار الربيع وفاكهة الصيف وثلوج الشتاء وكل ماله علاقة بالحياة.. .فقد حول الاستدمار حياة الجزائريين إلى ما يشبه حياة البهائم التي تركن إلى أوكارها قبل المغرب ولا تغادرها إلا بعد الشروق عند الصفاء أو تبقى محجوزة طوال اليوم أو ربما أياما..؟.
كل هذه الحرمان لم يفقد الجزائريين الأمل في طلوع شمس الحرية والاستقلال يوما ما ، وكان ذلك بفضل الله يوم 19مارس 1962 الذي انفجر فيه الشعب في كل ربوع الوطن وهام شبابه وكباره في الشوارع والساحات مرددين قول الله تبارك وتعالى :" قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .". وهو ما نبشر به إخوتنا في فلسطين فحبل الكذب قصير وحياة اليهود في أكناف القدس وما جاورها كذبة وباطل سيزهقه الله عندما يحين اجله قريبا إن شاء الله !..
من سنن الله في الحياة، أن الصحة لا يقدر قيمتها إلا من ابتلاه الله بداء ثم شفي منه . فالصحة كما يقول المثل الصيني " تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى..". والاستدمار داء خبيث أصاب الشعب الجزائري ولم يتخلص منه إلا بعمليات جراحية عديدة و خطيرة استِؤصل في نهايتها بإراقة دماء كثيرة من جسد امة صابرة محتسبة نصرها الله فكان تعبيرها عن النصر خارقا لا يوصف لأنه كان حلما جميلا حلمت به أجيال عديدة وعاشه جيل دفع الثمن غاليا ليتحول الحلم إلى حقيقة تنعم بها أجيال اليوم التي لا يقدر بعضها قيمة الاستقلال لأنهم لم يبتلوا كسابقيهم واعتقدوا أن الجزائر المزدهرة حاليا كانت هكذا سنة 1962.. !.؟ عندما غادرها الفرنسيون وعملوا المستحيل للقضاء على كل جميل فيها قبل خروجهم ، لكن الله رد كيدهم في نحورهم وخرجوا مطرودين شر طردة ليجروا بعدها أشلاءهم من كل القارة السمراء ويتركوا عملاءهم وأعوانهم ليواصلوا ابتزاز الشعوب وإفساد حياتها ..
بعد فرحة توقيف القتال التي يعجز العقل عن وصفها حاليا والتي كانت أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع والدخول الجدي في فترة تحضير الاستفتاء كما أشرت أعلاه ، كانت مهمة المجاهدين والسياسيين ، هي تجنيد المواطنين وأبناء الكشافة لجمع رفاة الشهداء من الجبال والفيافي ودفنها في مقابر للشهداء ..
هذه العملية الوطنية النبيلة سمحت لنا كأطفال في تلك الفترة بزيارة مواقع المعارك الضارية التي واجه فيها جيش التحرير قوات العدو التي كانت تستعمل كل الوسائل المحرمة دوليا ومنها "سلاح النابالم الحارق لكل مظاهر الحياة " ، حيث وقفنا على جثث أبطال تفحمت والتصقت مع سلاحها الموجه نحو الجو لمواجهة الطارات ، بالأشجار فتفحمت مع أغصانها وقريبا منهم بقايا طائرة أسقطت في المعركة وبقي هيكلها شاهدا عليها إلى اليوم ..؟ كما بقيت جثامين العديد من الشهداء محافظة على حالتها دون تحلل رغم مرور وقت طويل على استشهادها ومنها جثمان شهيد شيخ عذب كثيرة ثم اغرق في ماء حار جدا بحمام معدني وعندما استخرج جثمانه بعد شهور عديدة من دفنه دهش الجميع من حالته التي لم يتغير حتى لون كفنها إلا بذرات من تراب القبر فقط .. فسبحان الله .. استمر البحث عن الشهداء عبر الجبال ومقابر القرى واستمر التحضير للاستفتاء الذي رسم التحرير وأكد الشعب ارتباطه بوطنه وجيشه وحريته واستقلاله .. واستمرت الحياة ومعها الأمل في استفادة أجيالنا الصاعدة من تضحيات سلفها والوقوف بثبات لرد كيد المتآمرين على البلاد .. رد الله كيدهم في نحورهم .. رحم الله الشهداء .
م.ق