358
0
عودة لبعض الأفلام الجزائرية الجديدة:
اشتغالٌ على التاريخ وجمهورٌ غيرُ مؤكد. فيلم "الملكة الأخيرة"، مثلا.

بقلم الناقد خضرون عمر
طوال أشهر متتالية بعد عروضه الأولى، أمكن لزوار العاصمة المحظوظين أن يصادفوا فيلم " الملكة الأخيرة " الناجح تجاريا والمثير للجدل، متاحا بصفة متواصلة مثيرة للإعجاب، في بعض قاعات غاردن سيتي وقاعات أخرى.
وأمكن لهم أن يتأكدوا مرة أخرى بأن أفلام القراصنة لم تعد حكرا على استديوهات "بارامونت" و"ديزني" وأن يتمتعوا بمشاهد جزائرية لتطاير الدماء لا تضاهيها إلا مشاهد أخرى لتطايرٌ للأجساد، في منازلات رشيقة توحي أنَّها ثمرة التعاون مع الشريك الأسيوي التي ساهم في الإنتاج، والذي يبدو متخصصا في أفلام الحركة.
ربما كانت تلك الاختيارات نتاج رغبة مشروعة من قبل المخرجَيْن الموهوبيْن، "عديلة بن ديمراد" و"داميان أونوري"، في تزيين لقطات القتال بعروض مبهرة من الفانتازيا، ولكنها اختيارات تدعو للتعجب والابتسام معا.
كما حُقَّ للملاحظ أن يتساءل إن كان بطل الفيلم، القرصان العثماني "بربروس" المبتور ذراعه، قد التقى، أثناء غزواته الكثيرة ببعض من رجال الساموراي حتى تعلم منهم هذا الشكل من أشكال القتال الشبيه بالقفز الذي ظهر في الفيلم.
يبدو الجواب بديهيا، فالأمر لا يعدو أن يكون شكلا من أشكال الترفيه التي اكتشفها الجزائريون أخيرا، وراحوا إثرها ينجرون وراء منطق الإبهار والمتعة.
فيلم "الملكة الأخيرة" يروي الحياة المزعومة للملكة المزعومة "زافيرا" كما يروي مقاومتها لإغراءات القرصان التركي العاشق "عروج بربروس" الذي قام بدوره الممثل الفرانكوجزائري "دالي بن صالح"، في أحسن أدواره ربما.
ويمكن لهذا الانتاج السينمائي المشترك (جزائري – فرنسي – تايواني) أن يُعَدَّ واحدا من الأفلام الجزائرية الضخمة التي أنجزت بكثير من الشغف والمهارة والتي تحمل بين طياتها العديد من المشاهد السارة والمفاجئة ( مع تنويه خاص بجودة المناظر والملابس والديكورات)، ولكن ما يلفت الانتباه هو أن أصحابها عازمون أولا، وفيما يبدو، على استعمال كل وسائلهم لاسترداد ذلك الجمهور المثقف الذي تصدع بيته إلى غير رجعة رُبَّما، هذا البيت الجميل الذي تأسس أثناء ثورة التحرير الجزائرية بأفلامٍ صُوِّرت، على جبهات الحرب، بوسائل محدودة وأفكار صادقة (ياسمينة، بنادق الحرية، الجزائر تحترق.. الخ ...) ثم بأعمال أخرى أُنجِزت وعرضت في أولى أعوام الدولة المستقلة، ثم ظلت بعدها تصول في كبريات العواصم وتظفر فيها بأرفع الجوائز: ريح الأوراس، معركة الجزائر، تحيا يا ديدو، عمر قتلتو، زاد، الفحام، وقائع سنين الجمر، نهلة، القلعة، على سبيل المثال لا الحصر.
يتأرجح فيلم الملكة الأخيرة بين اتجاهات سينمائية متعددة بمقاطع مبهرة من "البيوبيك" والعمل الملحمي التي تذكرنا بالمسلسل الشهير "صراع العروش".
ومن التاريخ بطبيعة الحال، لأن العمل يزعم وصفه لفترة مهمة من تاريخ الجزائر، فترة قدوم القراصنة الأتراك لعاصمة "بني مزغنة"، العام 1516، قصد حمايتها من خطر الغزاة الاسبان.
وأيضا، هناك جانب مهم في الفيلم يبدو أنه كُتب خصيصا لإضفاء العمق على العمل حتى لا يوصف بالسطحية بعد ذلك.
هذا الجانب يصف الصراع النفسي بين بطلين بأتم معنى الكلمة، البطل بربروس إذن، ثم الملكة المزعومة زافيرا التي اغتيل زوجها "سليم التومي" في ظروف مشبوهة وفقا لنظرية الفيلم التي تساهلت مع الحقيقة، فزعمت أن قاتله لم يكن إلا بربروس الذي أراد أن يزيح الزعيم العربي حتى يقترن بأرملته ويوطد حكمه الجديد بعد ذلك.
في هذا الصدد، هناك مشهد في الفيلم يحار المرء كيف يصفه، ففي ليلة دخول القرصان على زوجته المُرغمة (مُرغمة، لأنها دُفِعتْ، دون اقتناع كبير، لقبول ذلك الزواج حتى تنقذ العرش والبلد)، تتراجع الملكة زافيرا عن المهمة المصيرية التي أُنيطت بها ولا تتمكن في نهاية المطاف من قتل بربروس لأنها سوف تفضل أقصر الحلول وأذلها، بإنهاء حياتها سريعا قبل أن يتمكن التركي من وطئها.
في هذا اللقطة، يتحول بربروس، الذي صُوِّر في المشاهد السابقة كأنه وحش مرتزق عديم الثقافة، ليصبح فجأة رجلا في غاية الإحساس والذوق، ويمضي في حوار شاعري، ذكي وعميق، حتى وإن كان يُلقى بشكل مسرحي متحذلق، يبتعد قليلا عن السينما ليقترب من التراجيديات الشكسبيرية الشبيهة بالملاحم الاغريقية. هذا المشهد وحده كفيل بأن يصف حالة التخبط التي تميز المخرجيْن بإصرارهما الخفي على استعطاف جمهور السينما ونقادها الصارمين من جهة، ومن جهة أخرى، وبصفة أولى، وهذا ما يهمهما على الأرجح، استقطاب جمهور آخر، عريض ومهم: هؤلاء المشاهدون الشباب الذين ترعرعوا على أفلام "البلوكباستر" التي شكلت أذواقهم وميولاتهم حتى أصبح يديرون ظهورهم لنوع من الأفلام، جزائرية وعربية، أصبحوا يعدونها قديمة وخاملة.
فعلى الرغم من الملاحظات المسجلة على صحة الاحداث، تبدو محاولة المخرجيْن الموهوبيْن كما لو كانت، قبل كل شيء، نتاج رغبة معلنة في الابهار والامتاع، بهذا العمل الذي يروي، بصفة رائعة وغير مسبوقة، أوضاع العاصمة الجزائرية قبيل الوجود العثماني، حيث لا تشكل القصة هنا إلا حجة لاستعراض المهارات في الكتابة والتمثيل وفي الديكور والتصوير.
فليس من المنصف ولا من اللائق الإسراع بتوجيه أصابع الاتهام لعديلة بن ديمراد لغرض الطعن في نواياها، مثلما فعل بعض النقاد الغاضبين.
ويبدو أن بن ديمراد اكتشفت، أثناء فترة ترويجها للفيلم، المأزق الذي وقعت فيه، رفقة زميلها، بانجرارها في مغريات الأسطورة واختلاقها لتلك الأحداث، وكيف سقطت في مزالق الشغف الجامح دون أن تحسب العواقب ربما، ثم راحت تحاول، يائسة، أن تبرر التساهل الذي وقعت فيه، حيث صرحت في برنامج "أما بعد" على قناة الشروق الجزائرية قائلة: من نحن حتى ندعي كتابة التاريخ؟ ولكنها قالت أيضا: لا أحد كان حاضرا في تلك الفترة، ويكذب من يدعي انفراده بالحقيقة، وحده دون الآخرين. ثم أدلت في برنامج آخر على القناة الخامسة الفرنسية بهذا التصريح التبسيطي الساذج (لو كانت زافيرا مجرد أسطورة من محض الخيال، لماذا شعروا بضرورة خلقها إذن؟ ولو افترضنا أنها قد وجدت بالفعل، لم تم طمس حقيقتها لقرون؟).
ولكن يبدو أن الحقيقة ليست إطلاقا في صالح النظرية المزعومة التي ظهرت في الفيلم، لأن عددا من المؤرخين الجزائيين الموثوقين أكدوا أن سليم التومي قُتل بالفعل على يد الفاتحين الاتراك، ولكن ذلك لم يحدث إلا بعد ثبوت تورطه مع الاسبان، وأنه لم يثبت أبدا وجود ملكة اسمها زافيرا في تلك الفترة، مقابل نظريات مزعومة من اسبانيا وبريطانيا وهولندا وتركيا تدعي المخرجة أنها كانت مصدرا لقصة الفيلم، طوال سبع سنوات من البحث، دون أن تتفضل بكشف مصادرها بالتفصيل ودون أن تشير صراحة للقصة المغمورة التي ألفها، في القرن الثامن عشر، القنصل الفرنسي "جون فيليب لوجيي دو تاسي"، والتي ادعى فيها، لأول مرة، وجود زافيرا ثم اختلق لها تلك التفاصيل الغريبة.
والملفت للانتباه في برنامج الشروق، كيف بدت بن ديمراد مترفعة، حين نطقت اسم هذا الكاتب دون إلحاح فلم تذكره إلا على طرف لسانها، ولعل ذلك من جراء الحرج الذي يصيب الجزائريين عادة عند التطرق للتاريخ المشترك الذي يكتبه أعداء الأمس من الفرنسيين.
ومن جهة أخرى، لم يعد الحديث عن الفترة التي سبقت الاحتلال الفرنسي مُحرَّما ولا ممنوعا في بلادنا، ونتج هذا التطور من تزايد فرص النقاش حول أوضاع السكان الأصليين خلال الوجود العثماني وحول أساليب فرض الضرائب على القبائل العربية والبربرية آنذاك وأيضا في ظاهرة تداول الاتراك على الحكم، بصفة شبه كاملة، طوال ثلاثة قرون من الحماية.
كان يمكن للفيلم أن يخوض إذن في هذه المواضيع الشائكة دون تردد ولا إشكال (حتى ولو كانت عديلة بن ديمراد تؤكد أن الفيلم لا يهدف أصلا لتلك المسائل لأن أحداثه تدور في فترة سابقة للوجود العثماني وأن ما يهمها كامرأة جزائرية هو مآثر النساء المشهورات في المخيال الجزائري مثل "الكاهنة" و"فاطمة نسومر"، وفدائيات معركة الجزائر: "جميلة بوحيرد" والأخريات، ثم "زافيرا" بطبيعة الحال).
ولو أُنْجِز الفيلم بهذا الشكل ( أي كفرصة للحديث عن القدوم التركي وحجة لعرض مسبباته)، لو كان الفيلم بهذا الشكل لاستطاع أن يستدرج الجمهور الحقيقي في كل أنحاء الجزائر العميقة وليس في أماكن مُترفة فيها، ولحظي باحترام المهتمين بالتاريخ فعلا، ولترتبت عنه جولات سليمة من النقاش العلمي حول الوجود العثماني ببلادنا، عوضا عن هذا الجدل العقيم في وجود زافيرا أو عدم وجودها، وعوضا عن هذا العمل السينمائي الذي، حتى وإن كان رائعا ومشوقا، إلا أنه سيظل مدعاة للتحسر على إهدار الفرص، ومرادفا للعمل الجميل الذي تجب مشاهدته ولكن من باب التمتع والفضول قبل كل شيء، لأنه بُنِيَ أساسا على تكهنات تقريبية لا تضيف كثيرا للتاريخ.
لا يخلو أي فيلم تاريخي من التساهلات التي يضطر لها المخرجون لتقديم شخصياتهم وتأثيث قصصها، فحتى في الأفلام التي عرضت على مراجع دينية صارمة، على غرار فيلم "الرسالة" (1976) الذي عُرض، قبل تصويره، على الأزهر الشريف وعلى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بلبنان، تُدرج العديد من المشاهد والحوارات الوهمية، لإضفاء المزيد من الدعم والتشويق والابهار ولكن دون المساس بجوهر الحكاية.
في "مملكة الجنَّة" (2005)، يبالغ "ريدلي سكوت" في وصف بطل الفيلم "باليان ديبولان"، ويتخيل له بطولات كبيرة وزوجة لم يثبتها التاريخ، لكن دون أن يمس بالحقائق الكبرى التي وردت عن الحروب الصليبية وعن الشخصيات العظيمة التي نشطتها مثل شخصية صلاح الدين الايوبي التي جاءت، مرة أخرى، في غاية التسامح والبأس والمروءة.
وبذلك يكون المخرج البريطاني الكبير قد تفادى السقوط في تيارات الحقد والكراهية التي أصبحت تسود في الغرب والتي تتعمد إنكار مآثر المسلمين لأغراض معروفة.
ولا يوجد في الفيلم كله هذا الاختلاق الفظ للأحداث، مثلما يوجد في الملكة الأخيرة. وعلى الرغم من ذلك، لم يسلم "سكوت" من تهمة الموالاة للعرب والمسلمين كما كان ذلك منتظرا. وفي "آخر إغواء للمسيح" (1988)، المقتبس من رواية "نيكوس كازانتزاكيس" المثيرة للجدل والذي جاء صادما للمسيحين ولمشاعر المؤمنين بصفة عامة، لا يعتمد السيناريو إطلاقا على الأناجيل بل على استكشاف خيالي لحوادث من محض الخيال، غرضها الأساسي هو وصف الصراع الأبدي بين الروح والقلب. هذا ما كُتِبَ قبل جنيريك البداية وهذا ما حذر منه بشدة مخرج الفيلم "مارتن سكورسيسي"، دون أن يتمكن من الاقناع ودون أن يفلت من التهديد بالعقاب في بلدان حرية التعبير. والجدير بالذكر بأن هذين الفيلمين قد سبقتهما أفلام أمريكية وأوروبية وأعمال أدبية ومسرحية تحصى بالمئات في نفس المواضيع، حتى بدت أعمال سكورسيسي وسكوت، بعد انحسار موجات الجدل الأولى، على حقيقتها العادية والمعتادة التي لا تؤثر كثيرا على المعاني المكرسة لأنها مجرد إضافات على مواضيع مستهلكة في مجتمعات مترفة وظروف مريحة. أما في الظروف الصعبة والمعروفة التي يعمل فيها المخرجون الجزائريون (قلة الأفلام المنتجة، ارتفاع نفقات التصوير، مشاكل التوزيع، انعدام أجهزة العرض DCP رغم وجود القاعات، ثم مشاكل حرية التعبير والهوية والصراع اللغوي التي تتغذى أحيانا من حساسية الشعب تجاه الغرب وتجاه المستعمر السابق بصفة خاصة، ...الخ...)، فإنه لا يبدو من اللائق لهم أن يصروا على التمثل بهؤلاء المخرجين وتقليد تجاربهم، حتى ولو كان ذلك لغرض إنتاج أفلام تثير النقاش ويقبل عليها جمهور المشاهدين أخيرا.
على الرغم من كل ذلك، يمكن أن نغفر للمؤلِفيْن، عديلة ين ديمراد وداميان أونوري، ما سبق من مآخذ حين نستعيد المتعة التي عشناها بصدق أثناء تسلسل المشاهد، وسط شلة من المتفرجين المصفقين في نهاية العرض. وعلينا أن نعترف بأن الفيلم وجد مكانه في قاعات العرض بالعاصمة الجزائرية، دون عناء، بين "إينديانا جونز" و"باربي"، وأننا ننهي الفيلم دون ملل بخلاف ما يحدث لنا عادة في عدد من الأفلام الجزائرية التي صُورت، خلال العشريتين السابقتين، بحد أدنى من المال وحد أدنى منه من الطموح.
ومثلما كان متوقعا، ينال الفيلم الإشادة التي كان يبحث عنها. ولكنه، في بلده، لم يتأتى إلا لفئة ميسورة في العاصمة وفي وهران وقسنطينة، مقابل ثمن للتذاكر باهض بشكل فظيع، ولم يتمكن أغلبُ الجزائريين من مشاهدته حتى يشاركوا في النقاش الذي دار حوله وحول قصته المزعومة. هل يُلام المخرجون هنا؟ وهل يتحملون وزر غياب سياسة رشيدة لتوزيع للأفلام؟ وبقاء قاعات السينما مغلقة منذ ثلاثة عقود على الأقل؟ وانصراف الجمهور عن الثقافة بصفة عامة؟ بالطبع لا. ولربما كان لهم بالفعل جزء من المسؤولية. ذلك لأن مهمة إنقاذ السينما وإيقاظ جمهورها التقليدي تبدو صعبة بهذه الأفلام التي تحاول أن تضاهي الانتاجات الهوليوودية الضخمة بتزييفها الساذج للتاريخ وانغماسها الأعمى في المحاكاة كما ظلت، طوال الفترات السابقة، ميؤوسة في أفلام أخرى اشتغلت على التاريخ، سموها حربية أحيانا وثورية أحيانا أخرى، ولكنها لم تستطع، على الرغم من أموالها الضخمة، أن تتخلص من ضعفها المرضي في كتابة السيناريوهات وفي الإخراج والتمثيل معا (كمثال على ذلك: سلسلة الأفلام التي أنتجتها وزارة المجاهدين عن كبار الشهداء والتي أخرجها، للأسف، المبدع الكبير أحمد راشدي، صاحب الأعمال الخالدة، "فجر المعذبين" (1965) و"الأفيون والعصا" (1969)، وكلاهما بالتعاون مع الكاتب الكبير مولود معمري وكذا الفيلم الجميل "علي في بلاد السراب" (1981) الذي كتب قصته الروائي الشهير رشيد بوجدرة).
وفي مقابل ذلك، يكفي أن نتذكر أن أفلاما جزائرية قديمة، متواضعة لا تدعي الكمال، أصبحت تعد الآن من كلاسيكيات الافلام التجارية الجزائرية التي يهرع لها المتفرجون كلما أتيحت لهم فرص مشاهدتها من جديد، لأنها تميزت بكثير من الصدق حتى وإن صورت بأقل التكاليف، مثل سلسلة أفلام حسان طيرو، ليلى وأخواتها، عطلة المفتش الطاهر، وأفلام الحاج رحيم التلفزيونية وأفلام أخرى عديدة. إنها في واقع الأمر أفلام بسيطة بساطة المتفرج العادي الذي كان يتردد على قاعات السينما في الستينيات والسبعينيات مقابل دنانير معدودة ترفق بجيوبه. وبقدر ما حاولت تلك الأفلام البسيطة أن تغوص في نفسية المواطن الجزائري بكثير من الدعابة والحقيقة، بقدر ما تجنبت التمثل الساذج بالأفلام الغربية التجارية والاندماج في تيار معين من أفلام العنف والرعب والمغامرات والجنس والمخدرات التي باتت تروق للمراهقين فلا يلتفتون لمآخذها الكثيرة المتعلقة بالنمطية والمبالغة والاسفاف والابتذال ومآخذ أخرى في الكتابة، مثل نوع من الأفلام والمسلسلات أصبحت تطغى على المنصات التجارية الكبرى مثل منصة "ناتفليكس" وغيرها.
ومن نافلة الحديث، القول بأن الأفلام التاريخية ستبقى ساحرة ومفيدة لأجيال متعاقبة من المتفرجين وأن الأثر المشهور عن الصورة التي لا يمكن تكذيبها سيظل مهيمنا لفترات طويلة من الزمن، طالما ظل للسينما ذلك الأثر السحري في تحريك الشخوص بذلك المفعول الفيزيائي الذي يميزها عن القصة والرواية.
ولكن الأفلام التي تسمي نفسها تاريخية تعمد، عادة، على خلق أحداث كاملة من محض الخيال وتعمل على سردها بالموازاة مع الأحداث التي أثبتها التاريخ (بل على حسابها في بعض الأحيان)، وهي الطريقة الشائكة التي لا تخلو من المخاطر والتي تتسبب أحيانا في نشوء نوع من مشاعر الريبة والاحتجاج لدى عدد من المتفرجين التقليديين الذين ينسون بأن هذه الأعمال روائية قبل كل شيء، ولذا تعتبر متمردة عن الحقيقة ومغلوطة من البداية.
ومع ذلك، لا يُفْهمنَّ هنا أن الحقيقة ركيزة مقدسة لا يجوز أبدا أن تنزل لمغريات الابهار والاثارة.
لو خَلَتْ أفلام "إيزنشتاين" من مشاهد الامتاع العجيبة لَمَا كان لها ذلك العمق الذي تخطى حدود الخيال، ولو حاول المخرج السوفيتي العبقري، أن يجعل مشاهد الحرب في فيلم "ألكسندر نافسكي" (1938) أكثر التزاما بالحقيقة فصورها كما جاءت بالضبط في كتب التاريخ، مثقلة بالتفاصيل والأرقام، تماما مثلما صورها مواطنه "سرغيي بوندارتشوك" في فيلم "واترلو"(1970) على سبيل المثال، لما كان لفيلم "إيزنشتاين" هذا النفَس المقاوم للزمن الذي جعل قصته تبدو كأنها قطعة من مآسي الفرد المنصهر في المجموعة وحيث تبدو كل روح تلفظ أنفاسها، وكل قطرة دم تنزل جراء ذلك، مُحَمَّلةً بوزن كبير من المعاني العميقة ومن دروس التاريخ.
ولو التزم إيزنشتاين بالحقيقة كاملة في فيلمه الشهير "مدرعة بوتمكين" (1925) لما كان لمشهد الرضيع المتدحرج على سلالم "أوديسا" ذلك الأثر، المشوق والمرعب في آن واحد، الذي يذكرنا بسنفونيات "بروكوفياف" (بل أن المشهد كله، مشهد مطاردة الجنود التساريين للشعب الثائر على سلالم أوديسا لم يحدث بالمعنى التاريخي للكلمة لأنه فقط من خيال المخرج السوفييتي الذي أقنع السلطات البولشفية آنذاك).
والملاحظ أن فيلم المدرعة الذي نال الخلود أصبح يشتهر قبل كل شيء بهذه المشهد المزيف الفريد من نوعه والذي قلده بعد ذلك العديد من المخرجين الكبار مثل "بريان دو بالما" و"تيري غيليام".
ولكن أفلاما تاريخية جزائرية عديدة ظلت طويلا مدعاة للنفور لأن قصصها صُورت وفق مبدأ صحة الأحداث، الثقيل والممل (سلسلة الأفلام التي انتجتها وزارة المجاهدين مثلا) مقابل أفلام أخرى أنجِزت بمنطق الترفيه لا منطق الحقيقة فأصبحت من أجل ذلك مدعاة للسخرية والاستهزاء.
ولا شك أن الترفيه سيظل فعالا أكثر من الكتب وأكثر من المحاضرات التي يلقيها أساتذة التاريخ في الجامعات لأنه يخاطب عواطف البشر قبل عقولهم. ولكن العواطف التي تثيرها الأفلام التاريخية الروائية غالبا ما تبدو ساذجة وبدائية لأنها تتعارض مع المنهج العلمي الذي ينبغي أن يتميز في المقام الأول بالتفكير الصارم وبالتباعد.
فالمطلوب من المخرجين هو أن يركزوا على حقائق البشر لا على قصص مزيفة تثير العواطف كما كان يقول المخرج الفرنسي الشهير "جون رُونوار" صاحب " الوهم الكبير".
وهذا هو التحدي الذي ينبغي أن يقوم به المخرجون الجزائريون الذي يشتغلون على التاريخ، إن كانوا فعلا يريدون الإفلات من وهمهم الكبير وإن كانوا يطمحون لاكتساب عقول المتفرجين قبل عواطفهم.