211

0

عن غزة ذكرى وفكرة ومشروع {1}

 

 

الدكتور  محمد مراح

               أما الذكرى ففي عام 1992 في موسم الحج  دعا وجيه يمنى مقيم في جدة  المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد  عمارة  رحمه الله تعالى رحمة واسعة { 1350 هـ/  1931 -   1441 هـ/  2020}  لعشاء في بيته، وشمل كرم دعوته بعض المرافقين الأستاذ الجليل في فندق إقامته، وكنت بمعية أخ الروح وأستاذي الدكتور إبراهيم نويري  ننعم بتلك الرفقة الميمونة في ذاك الموسم المبارك، نَقْضي الساعات الطوال مع الأستاذ الكبير ، نتحاور معه وننهل من علمه وفكره وتوجيهه؛ ولا أقول إننا لم نشعر لحظة واحدة أنه رحمه الله يتكلم من علو منزلة، وسامق فكره، ومديد تجربة، و لوامع منهج تجديدي في الفكر الإسلامي المعاصر، وتأسيس مدرسة فكرية  لها قسماتها وإشراقاتها ، وكتيبة جند من جنود الله مجسدة  في رجل واحد جاهد في سبيله على الجبهة الفكرية  في أخطر منعطف يَمُرُّ به الإسلام عبر تاريخه، من خلال تدافعه ومغالبته لأقوى امبراطوريتين عرفهما تاريخ البشر؛ الليبرالية الغربية والماركسية الشرقية، وامتدادهما في العالم العربي والإسلامي بأشد أساليب و وسائل المكر والبطشّ والجبروت، قلت: لا أقول إننا لم نشعر بأنه يخاطبنا من بنيان شُيِّدَ من كلّ أؤلئك، بل لم يدر بخلدنا طرفة عين واحدة أن الأستاذ الكبير يحافظ على سمت خلقي يراقب نفسه ألآ يبدر منه ما يخرقه سهوا فضلا عن قصد؛ المفكر المجاهد الكبير، جِبِّلَتُهُ : الإنسان الذي ادخره الدهر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، نسخة صفاء فطري  من أبيه آدم قريبة عهد بالجنة ، رحمه الله وأثابه الجنان يتخيرها له رب فراديسها .

ممّا نشعر أن المولى تعالى أكرمنا به في تلك الرحلة المباركة الجليلة، أنّنا  {أنا والدكتور إبراهيم نويري} كنا بطبيعة الحال لانزال في العقد الثالث من عمرينا نتدرج  في مرحلة  التعليم العالى مع مزاولة التدريس في الثانوي ، لكنّا بسطنا أناملنا للمجلات العربية بمقالات تزهر أيامنا ببهاء إشراقاتها الفنية و فضل الكريم المنان بعطف القبول والإكبار الذي يتجاوز أسنانا بمعايير العصر؛ من تلك المنابر الزاهرة مجلة المنهل لمؤسسها الأستاذ عبد القدوس الأنصاري (1324 هـ / 1906م - 22 جمادى الآخرة 1403 هـ 1983م) الأنصاري الخزرجي،  رضي الله عنهم، اللغوي وعالم الأثار والأديب الحجازي، صاحب رواية "التوأمان" أول رواية  سعودية. بعث في أرض طيبة المنورة "المنهل" عام 1355 هـ 1936 و1937، التي أصبحت من أبرز المجلات الثقافية الفكرية السعودية والعربية؛ كتب فيها الأديب الشهيد رضا حوحو رحمه والدكتور الكبير أبو القاسم سعدالله أجزل الله له وافر المثوبة، والأستاذ الدكتور عمر بن قينة  أطال الله في عمره وبارك فيه ، الذي بعث عبر مقالاته تراجم أعلام الفكر والثقافة والأدب الجزائري باقتدار الأكاديمي الجليل والأديب الناقد الرشيق الأسلوب الثاقب النظر، والإصلاحي الثائر على هَوَامِ الظلام الساعية لبسط أردية الكراهية والتغريب والتفرنس على تاريخنا الثقافي .

إذن زرنا مقر " المنهل" بدعوة من الأستاذ زهير نبيه الأنصاري حفيد الأستاذ الكبير عبد القدورس الأنصاري مدير التحرير، وجرى في حديثنا ذكر الدكتور محمد عمارة، وصحبتنا له في الرحلة المباركة، فلاحظنا اهتمام  الشاب الحيوي نبيه الكبير  بالخبر، اقترحنا عليه استكتاب الدكتور في " المنهل"، فما انقضت جلستنا معه حتى سلّمنا خطاب استكتاب نبلّغه نيابة عنه للدكتور عمارة، والحمدد لله وحده ، فقد فتحت تلك الإشارة الجريئة من شابين لا راحا ولا غديا في عالم الفكر والثقافة، منبع ماء نمير من إبداعات الدكتور عمارة نحو عقدين من الزمان، كانت "المنهل" فيما يبدو المصدر الأصيل الأول لسلسلات  متواليات لدراسات رائدة في نقدأ التيار الحداثي في ذروة الصدمات الهائلة التي أحدثتها أعمال نصر حامد أبو النصر وأضرابه ، فحازت المنهل بهذا القيمة العلمية والفكرية المستحقة بالسبق والاحتضان ، بمستوى راقي فنيا وإعلاميا ، وضرورة تاريخيا .

إذن أثناء المأدبة وسير الحوار الممتع تكلم شيخ  عليه وقار الشيوخ الكبار ، مع عاميته البادية من حديثه، قال موجها كلامه للدكتور عمارة :" يا دكتور لماذا لا تتوجهون للأمريكيين بالدعوة والفكر ، ودعكم من شعوبنا [ يقصد أنها  بمستواه الحضاري لا تتجاوب مع هذا المستوى الفكري الراقي من الخطاب  فضحك الجميع. لماذا سُقْتُ هذا الموقف الذكرى بين يدي المأساة؟ لقد أجابت التحركات الطلابية في الجامعات الأمريكية جوابا عمليا على السؤال : المسألة مسألة "تُشَبُّع حَضَارِي".   

الفكرة

               يحتاج "التشبع الحضاري " للتفاعل في شتى الاتجاهات إلى بواعث، باعث "الفطرة" أقواها وأبعدها غورا في النفس البشرية التي قد لا تدرك لكنها تدفع بقوة وثبات واستقبال لا يضاهيها فيه باعث غيرها . و الأمر منطقيا إذا ما نظرنا إليه من زاوية سياسية وحقوقية وفلسفية ، أثمرته ثقافة العصر الحقوقية ، والتحررية من مواثيق دولية لحقوق الإنسان، وفلسفات تُعْلِى من حق الفرد، وحريته، و  تثمين قيمة الحياة الإنسانية ، وحقّه في العيش الكريم ؛ خبرها المواطن في الدول الغربية التي حققت منظومتها الحضارية مستوى رفيعا من تلك الحقوق في غمرة تمددها الحضاري المذهل .

في الهجوم الإجرامي على غزة عام 2014،  كتبت مقالا  عنوانه"غزة نواة لتكتل الفطرة الإنسانية" إنطلاقا من إطلاق ناشطين أحرارا في الغرب  مبادرة  موسومة بـ"العالم ينتفض نصرة لغزة"، وقرّر هؤلاء الخروج في وقفة سلمية في  موعد محدد في كل عواصم العالم، على وقع شعار "لا للعدوان على غزة".، وستتضمن هذه المبادرة   إنشاء صندوق شعبي دولي للإعمار بعد أن تم تدمير غزة . وأنهم: "قد لا يكون بيدهم شيء ولكن بيدهم أن يخرجوا و يساهموا".

كانت إحدى مبادرات عالمية إنسانية من شعوب لا تقاسمنا الدين والحضارة لكنها تشاركنا الشعور الإنساني ، والعاطفة الآدمية . أليس جديرا بالمسلمين ونخبهم الدينية والثقافية والسياسية مع شعوبهم أن يتحدوا مع هذه الحيوية الإنسانية في زمنها الذهبي ، كي يسعوا مع أصحابها إلى بناء تكتل قيمي إنساني يُحيي بفطرة الإنسان رسالتها الربانية في هذا العالم المُمهد للتجاوب معها ؟

على المستوى الثقافي والحضاري ، تمثل لنا نحن العرب والمسلمين هذه السانحة خيطا رفيعا متينا  .فنطمح لنشأة تكتل قد نسمه بـ ( تكتل الفطرة الإنسانية )  فأشواق هذه الفطرة لطالما عبرت عن نفسها في أكثر من مجال ومقام ، تمنحنا فرصة القرب منها، والتفاعل الحي معها ، كي ننجذب سويا إلى علو القيم، و محاولة تخفف الإنسان من نقيضاتها حتى إن كان ذلك جزئيا وآنيا ، طموح  إنشاء ( تكتل الفطرة الإنسانية ) من خلال نواته الغزية ، رصيدا من الحلم المشروع لتجسيده، دفعا لقوى الأبلسة التي تريدإلتهام العالم ببوائقهاأما وسائل تجسيد هذا التكتل من أقواهاوأسرعها أثرا وسائل التواصل والاتصال التكنولوجي المعاصر ، فضلا عن الهيئات الثقافية ، والشعبية ، وغيرها مما يمكن أن يشكل الأرضية المنصة والمناخ الملائم لها". هذا جوهر فكرة ذاك المقال .فهاهي الفطرة عملت في غيابنا، وأثمرت. فهل من مُدَّكِر ؟!

 

 

 

 

 

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services