778
0
20 أوت رمز لانتصار الإرادة الشعبية والحنكة السياسية في ذاكرة الثورة الجزائرية
بقلم / د. مولود قرين
يشكل تاريخ 20 أوت تاريخا محوياً في الثورة الجزائرية، لأنه يرتبط بمنعرجين حاسمين شهدتها الثورة، 20 أوت 1955م الذي يمكن أن نقول عنه بأنه "النفس الثاني للثورة"، ومؤتمر الصومام 20 أوت 1956م الذي أسس للدور المؤسساتي في الثورة التحريرية.
أما بالنسبة لهجومات الشمال القسنطيني فإنها تعبر عن عمق التفكير للاستراتيجي لمهندسي الثورة، خاصة الشهيد الرّمز، "زيغود يوسف"، لأن هذه العمليات لم تكن مجرد عمليات عسكرية استهدفت مراكز العدو وفقط، بل كان لها جملة من الأبعاد والدلالات وطنياً ودولياً، أما بالنسبة للبعد الوطني لهجومات الشمال القسنطيني فتتمثل بالدرجة الأولى في إجهاض مناورات الحاكم العام "جاك سوستيل" الذي طرح مشروعاً إصلاحياً خطيرة حاول من خلاله عزل الثورة عن الشعب، وهناك من مرضى النفوس من آمن بطرح سوستيل، وبدأ في الدعاية ضد الثورة الجزائرية، وقد اطّلع "زيغود" عن هذا المخطط بعدما بعث له "البشير شيهاني" رسالة في جوان 1955م، فصّل فيها استراتيجية مواجهة مخطط سوستيل، وهذا بعد عثوره على هذا المخطط ضمن وثائق "ديبي" (Dupuy) الحاكم المدني لبلدية "قنتيس" المختلطة بعد القضاء عليه في كمين محكم في ماي 1955م، لذلك وضعت قيادة الشمال القسنطيني قائمة من الشخصيات السياسية والإصلاحية في مدينة "قسنطينة" دخلت في اتصال مع جاك سوستال، وجب القضاء عليها.
ومن أبعاده الوطنية كذلك فك الحصار على منطقة الأوراس التي كانت تعاني من تضييق الخناق لاعتقاد فرنسا أن الثورة في الأوراس دون غيرها من المناطق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فكّر "زيغود" في أن الحل الوحيد لإنعاش العمل الثوري في المنطقة الثانية التي عرفت ركودا وتململا في أوساط الجماهير خاصة بعد استشهاد "ديدوش مراد" هو القيام بعمليات عسكرية في منصف النهار تستهدف مراكز العدو وقد حددت ثلاثة أيام: 20 أوت مهاجمة مراكز العدو، 21 أوت اعدام الخونة الذي وقعوا ضحية لمشروع جاك سوستيل.
أما بالنسبة لأبعاده الدولية فقد كان يفكر زيغود في تدويل القضية الجزائرية وهذا ما أخبر به "بن طوبال"، حيث قال له: " ... يجب أن تتجاوز المشكلة الجزائرية حدود التراب الجزائري ...إذا لم يخرج صوتنا وسمع في الخارج سنختنق وسنخسر المعركة"، لأنه كان مدركاً لجهود وفد جبهة التحرير الوطني الديبلوماسية خاصة بعد مؤتمر "باندونغ"، ومدركا كذلك أن انعقاد دورة جمعية الأمم المتّحدة على الأبواب.
وفعلاً حققت تقريباً جميع الأهداف المسطرة، ومن جملة ما حقق، ارباك العدو ونقل الذعر بين الجنود الفرنسيين، واقتنع كثير المترددين بالثورة ففيما بين صيف 1955 وخريف 1956م انظم الكثير من المركزيين ومن حزب فرحات عباس ومن العلماء إلى جبهة التحرير الوطني.
وقدت هذه الهجومات إلى وحشية فرنسية منقطعة النظير، فانتقمت من المدنيين في منطقة الشمال القسنطيني ووصل عدد الشهداء إلى 12 ألف شهيد حسب ما تذكره المصادر التاريخية.
ولعلّ أكبر نصر حققته الهجمات هو الصدى الدولي الذي حققته، وذلك بفضل الصور الحية التي أوصلها الصحفي الفرنسي الذي كان يعمل لصالح الشركة السينمائية الأمريكية Foxe Movietone "شاسان جورج" (Chassane Georges)عن مجزرة عين عبيد يوم 23 أوت 1955م، فوصلت الصورة إلى مقر هيئة الأمم المتحدة واعترفت فرنسا بحقيقتها وادعت بأنه عملا معزولا من بعض أفراد الدّرك، لذلك عبر "جاك سوستيل" قائلا:" إن ما وقع في نيو_ يورك أثمن من قافلة أسلحة توجه إلى جبهة التحرير الوطني".
أما بالنسبة لمؤتمر الصومام 20 أوت 1956 رغم الجدل الحاصل حوله، وحول وما انبثق عنه من قرارات ومؤسسات، إلا أنه يعتبر منعرجاً حاسما في تاريخ الثورة الجزائرية، والجدير بالذكر أن الدعوة إلى عقد مؤتمر تقييمي كانت في اجتماع 23 أكتوبر 1954م، إذ قررت مجموعة الستة تنظيم مؤتمر شامل بعد سنة من الإعلان عن تفجير الثورة في جانفي 1955م، غير أن الظروف الصعبة التي عرفتها الثورة عشية الاندلاع أجلت اللقاء إلى غاية أوت 1956م. وظل التفكير في عقد مؤتمر جامع ترواد أذهان قادة الثورة، ومن أشهر من فكّر في ذلك قائد المنطقة الأولى "الشهيد مصطفى بن بولعيد" سنة 1955م حسب بعض الشهادات الحية لمجاهدين من "الأوراس" أن "مصطفى بن بولعيد" بعد فراره من السجن بتاريخ 11 / 11/ 1955م كان قد اتصل بالمنطقتين الثانية والثالثة، فتواصل مع الثانية عن طريق مبعوثين، وهما "اعبيد الحاج لخضر" و "عمّار السيكليست"، وبالمنطقة الثالثة بواسطة "محمد العموري" وذلك لأخذ الرأي في اجتماع الولايات على حد تعبير "بن بولعيد" غير أن استشهاده حال دون تحقيق ذلك.
في حين أكد "علي كافي" في مذكراته أن فكرة عقد مؤتمر وطني جامع اقترحاها قائد المنطقة الثانية "زيغود يوسف" على "عمارة رشيد" الذي قدم مبعوثا من المنطقة الرابعة، فاقترح عليه "زيغود" "ضرورة عقد مؤتمر وطني من أجل التقييم وبلورة الطريق التي حددها أول نوفمبر، وتكوين قيادة موحدة على المستوى الوطني... وكان الاقتراح أن ينعقد المؤتمر في المنطقة الثانية فهي على أتم الاستعداد لذلك". وبعد عودة "عمارة رشيد" إلى مدينة الجزائر، ومعه رسالة مطولة من "زيغود يوسف" إلى "عبّان رمضان" وافق على الفور، وأرسل "سعد دحلب" كمبعوث للمنطقة الثانية، وبعد معاينته للمنطقة الثانية عاد إلى مدينة الجزائر جاءت رسالة من المنطقة الرابعة للموافقة على عقد المؤتمر، اختير مكان "المشروحة" بجبال "بني صالح" غير أن استشهاد "باجي مختار" وما انجر عنها من مشاكل حول القيادة أصبح المكان مناسب لاحتضانه، لذلك اختارت القيادة مكان "بو الزعرور" وهو مكان حصين طبيعيا يصعب على العدو التوغل فيه. ويذكر "بن طوبال" أن زيغود اتصل بمنطقة الأوراس بخصوص التحضير للمؤتمر، غير أنه تفاجأ باستشهاد "شيهاني"، والقيادة في الأوراس لم تقدم حجة مقنعة حول أسباب استشهاده، وبعدها بقليل وصل نبأ استشهاد "مصطفى بن بولعيد"، هذا ما جعل زيغود لا يطلب لقاء القيادة الجديدة ، ولكن يقول بن طوبال: " قد أخبرناهم بانعقاد المؤتمر بتاريخ X وأبدو قبولهم به".
وبعد أن شكت القيادة في اكتشاف تقرر عقده في منطقة الصومام بأزلاقن لحصانتها الطبيعية.
ومؤتمر الصومام لازال إلى غاية يومنا هذا يطرح جملة من الإشكاليات، لعلّ في مقدمتها إشكالية "الشرعية" الناتجة عن غياب ممثلي المنطقة الأولى، والوفد الخارجي في القاهرة، ولكن إذا طالعنا مختلف الشهادات والوثائق المتعلقة بالمؤتمر، سنلاحظ بأن كلاهما أبلغا بانعقاده، بل أن المنطقة الأولى قد أرسلت وفداً يقوده "عمر بن بولعيد" الذي كان قد وصل، حسب شهادة بن طوبال" إلى الصومام قبل وفد المنطقة الثانية رفقة كتيبة تتكون 400 رجل، غير أنه قرر العودة إلى منطقته لإجاد حل للمشاكل القيادة في الأوراس ثم العودة إلى الصومام من جديد، وقد أُبلغ المؤتمرون حسب شهادة "بن طوبال" دائما بعودته وأنه قرب سطيف، فأرسلوا له مجموعة لمقابلته غير أن المجموعتين لم تتقابل.
أما بالنسبة للوفد الخارجي فتوحي المراسلات التي كانت بينهم وبين عبان رمضان أنهم كانوا على علم بالمؤتمر وأنهم لإجراءات أمنية لم يتمكنوا من دخول الجزائر.
ومن بين الإشكاليات التي يطرحها مؤتمر الصومام كذلك أشكالية الأولويات، أولوية الداخل عن الخارج، وأولوية السياسي عن العسكري، فالداخل كان يرى بأن الدور المحوري منوط به بالدرجة الأولى، أما بالنسبة للسياسي والعسكري، فخلال هذه المرحلة كانت تقتضي عملاً سياسيا وديبلومسيا قويا خاصة بعد تدويل القضية الجزائرية.
ولكن رغم هذه الإشكاليات يجب أن نركز على الجوانب الإيجابية بالدرجة الأولى، وذلك لما انبثق عن المؤتمر من مؤسسات وقرارات تنظيمية جعلت من الثورة تسير بخطى ثابتة إلى غاية تحقيق النصر.