266
0
20 أوت التاريخ الذي رسخ خيار الشعب في التحرر من براثن المستعمر الغاشم

يحيي الجزائريون "اليوم الوطني للمجاهد" الذي يحتفى به يوم 20 أوت من كل سنة، ويعد من الأيام الخالدة في الذاكرة التاريخية الوطنية، لارتباطه بالذكرى المزدوجة لهجومات الشمال القسنطيني يوم 20 أوت 1955، ومؤتمر الصومام المنعقد في 20 أوت 1956.
نسرين بوزيان
وقد رسخ هذان الحدثان قناعة راسخة لدى الشعب الجزائري بأن الثورة تمثل خيارا وطنيا لا رجعة فيه، نحو التحرر والاستقلال ودحر الاستعمار الفرنسي الغاشم.
المجاهدون ليسوا قطاع طرق
وحدة الصف واستمرار الثورة حتى النصر

من جانبه، أوضح المؤرخ والأكاديمي ، مولود قرين ، في حديثه لـ " بركة نيوز" أن تاريخ 20 أوت يعد محطة محورية في الثورة الجزائرية، لارتباطه بمنعرجين حاسمين غيّرا مسارها 20 أوت 1955، الذي يعد " النفس الثاني للثورة"، ومؤتمر الصومام في 20 أوت 1956، الذي أسّس لأول مرة لهيكل مؤسساتي منظم داخل الكفاح التحرري.
وأشار قرين إلى أن هجمات الشمال القسنطيني عكست الذكاء الاستراتيجي للثوار، خاصة القائد الشهيد زيغود يوسف، إذ لم تكن مجرد عمليات عسكرية ضد مواقع العدو، بل كانت تحمل أبعادا وطنية ودولية بنيت على تخطيط دقيق.
وبين أن من أبرز الأبعاد الوطنية لهذه الهجمات، إفشال مشروع الحاكم العام الفرنسي جاك سوستيل، الذي حاول تمرير إصلاحات ظاهرية تهدف إلى فصل الثورة عن الشعب، مضيفا أن بعض ضعاف النفوس صدّقوا تلك الدعاية وبدؤوا بالتشكيك في شرعية الثورة.
كما كشف البروفيسور قرين أن الشهيد زيغود يوسف اطلع على هذا المخطط عبر رسالة سرية من البشير شيحاني في جوان 1955، تضمنت تفاصيل خطة مضادة، استنادا إلى وثائق تم الاستيلاء عليها بعد القضاء على الحاكم المدني "ديبي"، وبناء على ذلك، وضعت قيادة الشمال القسنطيني قائمة سوداء تضم شخصيات متعاونة مع سوستيل في قسنطينة، وجب التخلص منها.
أما عن الأبعاد الدولية، أشار المتحدث أن القائد الشهيد زيغود يوسف قد صرح لزميله بن طوبال قائلا:" يجب أن تتجاوز القضية الجزائرية حدود التراب الوطني… إن لم يسمع صوتنا في الخارج، سنخسر المعركة."
واعتبر البروفيسور قرين أن أكبر إنجاز حققته الهجمات هو الصدى الدولي الذي خلفته، بفضل التغطية الإعلامية التي نقلها الصحفي الفرنسي العامل مع شركة سينمائية أمريكية شاسان جورج، خاصة حول مجزرة عين عبيد في 23 أوت 1955، حيث وصلت تلك الصور إلى هيئة الأمم المتحدة.
وقد اضطرت فرنسا للاعتراف بما جرى، زاعمة أنه عمل فردي من بعض عناصر الدرك، وهو ما دفع جاك سوستيل إلى القول: ما حدث في نيويورك أثمن من قافلة أسلحة متجهة نحو جبهة التحرير."
وبخصوص مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956، أبرز المؤرخ قرين أن المؤتمر شكل تحولا كبيرا في مسار الثورة، من خلال ترسيخ مبدأ التنظيم المركزي والمؤسسات.
كما أشار إلى أن فكرة عقد مؤتمر تقييمي كانت مطروحة منذ اجتماع مجموعة الستة في 23 أكتوبر 1954، وتم اقتراح عقده بعد عام من اندلاع الثورة، إلا أن الأوضاع الأمنية أجلته إلى غاية أوت 1956.
وأفاد أن الشهيد مصطفى بن بولعيد كان من أوائل من فكروا في توحيد القيادة عبر مؤتمر وطني، حيث تواصل مع المنطقتين الثانية والثالثة قبل استشهاده، لكن استشهاده المفاجئ أوقف المسعى.
في المقابل، اقترح القائد الشهيد زيغود يوسف فكرة المؤتمر على عمارة رشيد، ممثل المنطقة الرابعة، الذي نقل المقترح إلى عبان رمضان مرفوقا برسالة مطولة، فوافق الأخير، وأرسل سعد دحلب لمعاينة المكان، وبعد الموافقة تم الاتفاق مع المناطق الأخرى ، وبعد استبعاد منطقة "المشروحة" بسبب استشهاد باجي مختار، تم اختيار منطقة الصومام لما تتمتع به من حصانة طبيعية.
وختم المؤرخ و الأكاديمي قرين بالتأكيد على أن ما انبثق عن المؤتمر من قرارات وهيئات ساهم في ضمان وحدة الصف واستمرار الثورة حتى النصر المحقق في 5 جويلية 1962.
شرعية الثورة ووطنية مسيرتها

وأشار إلى أن جبهة التحرير الوطني كانت قد تبنت منذ اندلاع الثورة استراتيجية دقيقة تهدف إلى إقناع الشعب الجزائري، وتيارات الحركة الوطنية، بالانضمام إلى الكفاح المسلح، وهي الاستراتيجية التي طبقت عمليا في هجومات الشمال القسنطيني، ثم تم تثبيتها وتنظيمها من خلال انعقاد مؤتمر الصومام.
وفي حديثه عن تشابه المقاربات بين الحدثين، أوضح الباحث أن هجومات الشمال القسنطيني كانت مرحلة حاسمة، إذ أدت إلى انضمام عدد كبير من الجزائريين إلى الثورة التحريرية، وساهمت بشكل مباشر في فك الحصار عن منطقة الأوراس، بفضل حنكة قائدها زيغود يوسف.
كما أشار إلى أن تلك الهجومات جاءت ردا على تصريحات المسؤولين الفرنسيين، الذين وصفوا الثورة بأنها مجرد "حركة جياع" و"قطاع طرق"، لكن القائد الشهيد زيغود يوسف، خاصة بعد استشهاد ديدوش مراد في جانفي 1955، واعتقال رابح بيطاط في مارس، ومصطفى بن بولعيد في فيفري من نفس العام، تمكن من إنقاذ الثورة وإعادة بعثها في المنطقة الثانية، وكان هدفه الرئيسي فك الحصار عن الأوراس، إضافة إلى إقناع الشعب والتيارات الوطنية المترددة بشرعية الثورة.
وفي سياق متصل، أشار إلى أن مؤتمر الصومام، المنعقد في 20 أوت 1956، جاء تتويجا لتلك التحضيرات، وكان من المقرر عقد اجتماع تنظيمي منذ الأشهر الأولى للثورة، لكن الظروف حالت دون ذلك، ليأتي مؤتمر الصومام في التوقيت المناسب، بعد تأكد الجميع من شرعية الثورة ووطنية مسيرتها.
وأكد الباحث بن معمر أن المؤتمر نظم الثورة وهيكلها سياسيا وعسكريا، حيث تم إنشاء المجلس الوطني للثورة التحريرية كمؤسسة تشريعية، ولجنة التنسيق والتنفيذ كهيئة تنفيذية، كما تم إعادة هيكلة جيش التحرير الوطني إلى وحدات نظامية، وإرساء قواعد تنظيمية حديثة من خلال استحداث جهاز أمني "المحافظ السياسي"، الذي لعب دورا استخباراتيا مهما في الميدان.
مجزرة ملعب 20 أوت 1955

قال المجاهد الراحل رابح مشحود أن الملحمة بدأت بعد سلسلة من الاجتماعات المتواصلة في مكان يسمى "بوساطور"، بمقر زاوية سيدي الهادي، التي تتوسط منطقة الحروش وسيدي مزغيش، والتي لاقى أفرادها الويل من الاستعمار الفرنسي.
مضيفا أن الاجتماع استغرق شهرًا كاملًا، ثم انتقل زيغود يوسف إلى مكان يسمى "الزّمان"، نسبة إلى شجر الزّمان، وكان الاجتماع في بيت رمضان يونسي.
وأردف عمي رابح أن زيغود يوسف كان يريد أن يكون الهجوم من ولاية بجاية إلى حدود سوق أهراس، إلا أن الظروف لم تمكن بعض المناطق من المشاركة والالتحاق بالهجوم.
وذكر المتحدث أن القائد الشهيد زيغود يوسف أراد أن يبعث رسالة إلى المستعمر الفرنسي، مفادها: "بدأنا الثورة في منتصف الليل، وها نحن نعيد بدايتها في منتصف النهار".
وأكد المجاهد مشحود أن المعجزة في الهجوم، أنه بالرغم من عيون المخابرات الفرنسية، وبالرغم من كثافته وقوته، إلا أنه لم يستطع كشف خيوطه، مبرزا أن الهجوم استمر ثلاثة أيام كاملة، وأسفر عن استرجاع مدينة القل، وبقائها في أيدي المجاهدين ما يقارب الست ساعات، وكذلك منطقة الحروش.
وقال عمي رابح إن رد الاستعمار الفرنسي كان بوحشية لا نظير لها، حيث بدأ بالقصف العشوائي للقرى والمداشر، كما أشار إلى أن الاحتلال ارتكب أبشع انتقام في مجزرة كبيرة، في اليوم الموالي، بـملعب فيليب فيل سابقا، والمسمى حاليا ملعب 20 أوت 1955 بمدينة سكيكدة ،حيث تم حشر الآلاف من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ وتمّت إبادتهم، مشيرا إلى أن الجرّار الذي كان يدفن به الجزائريون ما زال موجودا إلى يومنا هذا داخل الملعب.
وذهب ضحية الحملة الانتقامية - حسب المتحدث - للسلطات الاستعمارية والمليشيات الفاشية ما يقارب 12 ألف جزائري.
وأكد المجاهد الراحل أن هذه العملية جعلت كل جزائري مشبوها في نظر الاستعمار الفرنسي، وبالتالي أصبح الجزائريون سواسية في أعين الفرنسيين، والتحقوا بالثورة.
مبرزا أنه نظرا لهذه الملحمة، فقد كان من المنتظر أن يتم عقد مؤتمر الصومام بمدينة القل، وبالتحديد في مكان يسمى "أولاد عطية"، ولكن بعد مشاورات من طرف القادة ارتأوا أن يكون بجبل صومام نظرا لتوسطه البلاد.
منعرج الثورة نحو النصر

وأوضح عمي لخضز أن هذا المؤتمر جاء في وقت عصيب، بعد سلسلة من التحديات التي واجهت الثورة، من بينها استشهاد عدد من قادتها الأوائل، واعتقال مفجر الثورة مصطفى بن بولعيد على الحدود التونسية الليبية، وهو ما اعتبرته فرنسا نقطة ضعف كانت تعتقد أنها كافية لإخماد الثورة في مهدها، لكن عكس ما كانت تتوقعه سلطات الاحتلال، فإن المؤتمر شكل ردا حاسما ومفاجئا، سواء من حيث التنظيم أو المخرجات التي أرست قواعد العمل الثوري على أسس واضحة ودقيقة.
وقد تم خلال مؤتمر الصومام- يضيف المتحدث- تقسيم الجزائر إلى ست ولايات تاريخية، إضافة إلى ولاية سابعة بالخارج ، وكل ولاية قسمت إلى مناطق، ثم إلى نواحي، وكل ناحية إلى فروع، مما سمح بإرساء هيكل تنظيمي محكم للثورة، سهل التنسيق بين مختلف القيادات في الداخل والخارج.
وأشار عمي لخضر إلى أن المؤتمر لم يكن فقط تنظيميا، بل كان ايضا ردا سياسيا قويا على محاولات فرنسا تشويه صورة الثورة وتقزيمها، حيث كانت السلطات الاستعمارية تروج في إعلامها بأن ما يحدث هو مجرد "أعمال شغب"، فجاء المؤتمر ليؤكد أمام الداخل والخارج أن الثورة الجزائرية تمتلك قيادة واعية ومشروعا تحرريا متكاملا.
كما أضاف أن اختيار يوم 20 أوت ليكون "يوم المجاهد"لم يكن اعتباطيا، بل جاء تخليداً لحدثين مفصليين هما هجومات الشمال القسنطيني بقيادة زيغود يوسف سنة 1955، ومؤتمر الصومام سنة 1956، وكلاهما شكّلا نقلة نوعية في مجرى الثورة الجزائرية، من حيث الأثر العسكري والسياسي والدبلوماسي.
وأكد أن هذا المؤتمر نجح بامتياز في توحيد الرؤية، وتنظيم الصفوف، وترسيخ الروح النضالية لدى الشعب الجزائري.

ويبقى الاحتفاء بهذين الحدثين الهامين في مسيرة التحرر الوطني عرفانت بكفاح وتضحيات الرعيل الأول من المجاهدين، وعلى جيل اليوم الحفاظ على الذاكرة الوطنية وصون أمانة الشهداء.
