440

0

«زروق موساوي… الرجل الذي مشى بمحبرة العلماء وقلب الثائر وظل واقفاً في ذاكرة لا تنصف أصحابها»

الجزء الأول: في حضرة رجل يطوف به النسيان

بورتريه ضياء الدين سعداوي 

في صباح من صباحات نوفمبر الهادئة، تلك الصباحات التي يتوهج فيها الخريف الأوراسي بصفاء لا يشبه أي فصل آخر، كنت أشق طريقي عبر ممرات محمد بوضياف في وسط مدينة باتنة، حيث تقع الفيلا المتواضعة التي يقيم فيها الشيخ، العلامة، المجاهد وعميد المحامين و آخر النوفمبريين في الأوراس زروق موساوي.

كانت الممرات قد بدأت تكتسي ألوان الموسم؛ أشجار باسقة، هواء عليل، وهدوء يكاد يذكر بزمن آخر، زمن كانت فيه المدن تنصت إلى حكماءها أكثر مما تتكلم.

هذه الزيارة لم تكن الأولى.

لقد تعودت منذ سنوات أن أزوره بانتظام، أجريت معه لقاءات صحفية عديدة قبل أن يشتد عليه المرض ويقعده الفراش. ومع مرور الوقت، تطورت العلاقة بيننا من علاقة صحفي بمصدر مهم، إلى علاقة صداقة تشبه تلك الروابط القديمة التي تبنى على الإحترام، والصدق، وذكريات النقاشات الطويلة.

حين دخلت الفيلا ذلك الصباح، كان الشعور مختلفا وكأن الزمن نفسه توقف لينصت.

قادتني حرمه السيدة موساوي أصيلة أحد العائلات العريقة و المثقفة في تلمسان إلى غرفة مضاءة بنور ناعم يتسلل من نافذة كبيرة. وهناك، على سريره الإستشفائي، كان الشيخ زروق موساوي ينتظرني، بوجهه الأبيض الذي يشع نوراً أقرب ما يكون إلى صفاء طفل وليد. ما إن رآني حتى ابتسم، تلك الإبتسامة الهادئة التي عرفتها في كل لقاء، ابتسامة تقاوم الألم بالمزاح، وتداوي الوحدة بالكلمة اللطيفة.

جلسنا كعادتنا.

رغم المرض الذي أنهكه طيلة السنوات الأخيرة، ظل يحتفظ بخفة ظله، بروحه المرحة التي تطلق النكتة في اللحظة المناسبة، وبقدرته على تحويل ثقل الوجع إلى عبارة ساخرة تخفف الجو. لكن خلف تلك الطرافة، كان يسكنه حزن عميق ، حزن لا يصرخ، لكنه يتسلل إلى صوته كلما ذكر الماضي، أو كلما مر على ذهنه سؤال:

“كيف يمكن لوطن أن ينسى أبناءه؟”

منذ سنوات طويلة، يعاني الشيخ موساوي من تهميش مؤلم؛ تهميش لا يليق برجل لعب أدواراً محورية في تاريخ الجزائر الحديث.

رغم ما قدمه قبيل الثورة و هو في سن صغير جداً، ورغم المهام الكبرى التي أداها أثناءها، ورغم إسهاماته بعد الإستقلال في التعليم، والشؤون الدينية، ثم في سلك المحاماة لأكثر من أربعة عقود…

إلا أنه في السياق الرسمي والإعلامي يظهر كما لو أنه لم يكن هناك.

لا ذكر له في المراسم الوطنية.

لا استدعاء في المناسبات التاريخية.

لا إشارات تذكر الشباب بدوره.

لا إلتفاتة من الجهات المركزية.

ولا حتى تقدير من السلطات المحلية في باتنة، المدينة التي عاش فيها، وخدمها، ودافع عن أبنائها، ورفع فيها لواء العربية في ساحات القضاء.

كان يحدثني دائماً عن هذا الأمر بهدوء الحكماء، لا بغضب المهمشين.

كان يقول لي:

“ليست القضية قضية شهرة… لكنني تمنيت فقط ألا ينكر وطني أني كنت له.”

في كل مرة كانت هذه الجملة تسقط في قلبي سقوطاً ثقيلاً.

لم يكن موساوي رجلاً عادياً.

كان ابن مشونش و مدرسة جمعية العلماء المسلمين، حامل راية الإصلاح، تلميذ معهد ابن باديس، ثم رفيق كبار العلماء والمصلحين في المشرق. عايش أحداثاً تاريخية كبرى، رافق شخصيات وطنية وسياسية لا تزال أسماءها تدرس في الجامعات، وشهد لحظات حساسة في تاريخ الثورة والدولة. وكان شاهداً على منعطفات مفصلية نادراً ما نقلت بدقة.

كل ذلك مسجل في ذاكرته، وفي مذكراته مسيرة مقاوم من ابناء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وفي شهاداته التي أدلى ببعضها في لقاءاتنا السابقة.

لكن المفارقة المؤلمة هي:

أن رجلاً يحمل هذا الرصيد، يعيش اليوم على هامش الذاكرة الرسمية، خارج نطاق الأضواء، بعيداً عن كاميرات التلفزيون التي تحتفي بأسماء كثيرة، بعضها لم يكن في حجم دوره ولا أثره.

جلست قربه في ذلك الصباح، أتأمله، وأتأمل الزمن الذي دار به.

كان المرض قد أخذ الكثير، لكنه لم يستطع أن ينتزع من وجهه ذلك النور، ولا من صوته تلك العزيمة الهادئة، ولا من عقله ذلك الصفاء الذي يدهشك في كل مرة. تحدثنا عن بعض الذكريات العامة، دون الدخول في تفاصيل الأحداث الكبرى التي سنفرد لها أجزاء لاحقة من هذا البورتريه.

كان واضحاً أن في حياته محطات تستحق أن تروى بتأن، وبمنهجية الباحثين، لا بمنطق المقالات العابرة:

تجربته مع جمعية العلماء،

سفره مع رموز الإصلاح،

اتصالاته مع قادة الثورة في سن مبكرة على غرار :مصطفى بن بولعيد، العربي بن مهيدي،سي الحواس و حمله رسالة القادة في القاهرة التي سلمه اياه محمد خيذر الى مصطفى بن بولعيد.

مواقفه خلال الثورة،

مهامه في الخارج و علاقته بالعقيد بوصوف 

علاقاته بشخصيات وطنية بارزة،

أدواره بعد الإستقلال،

وطريقة حضوره في الدولة ثم خروجه من الهامش إلى الهامش الأعمق.

لكنني التزمت ألا نتناول التفاصيل الآن، لأنها تحتاج فصولاً كاملة.

أما هذا الجزء الأول، فهو فقط مقدمة للإنسان…

للظل الذي كان ينبغي أن يكون ضوءاً،

ولصوت كان ينبغي أن يسمع أكثر،

ولرجل تحاول الذاكرة أن تطويه، رغم أنه

يستحق أن يروى.

كان الشيخ يدرك هذا التهميش جيداً.

لكنه لم يدعه يتحول إلى مرارة.

قال لي مرة — وقد أعاد ذكرها ذاك الصباح —:

“يا ولدي… نحن جيل قدم ما استطاع. لا نطلب مقابلاً، فقط نطلب أن يكتب التاريخ كما وقع، لا كما يحب البعض.”

كانت هذه العبارة مفتاحاً لكل ما سيأتي لاحقاً.

فزروق موساوي ليس مجرد سيرة، بل هو شاهد على تاريخ غير مكتوب، تاريخ ما يزال ينتظر من يعيده إلى مكانه الصحيح: بين الصفحات، لا في الهوامش.

حين هممت بالمغادرة، بقي ينظر إلي بنظرة هادئة، ممتنة، لا لأنني زرته — فقد اعتدت زيارته — بل لأنني جئت اليوم صحيفة وقلباً معاً. قال لي وهو يودعني:

“اكتب… اكتب ما تراه حقاً. ليس لي، بل للجزائر… فالتاريخ دين لا يؤدى إلا بالصدق.”

خرجت من فيلته وأنا أشعر أن هذا الجزء الأول لم يكن فقط بداية كتابة، بل بداية مسؤولية.

فالكتابة عن زروق موساوي ليست كتابة عن رجل…

بل كتابة عن ذاكرة أوشكت أن تضيع،

وعن رحلة رجل عاش القمم ثم ترك في السفوح،

وعن وطن يحب أبناءه لكنه ينسى أن يلتفت إليهم.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services