299

0

تجديد لا مزج أيديولوجي

د. محمد مراح

سنعمل في مطلع هذا المقال على أن نكثف في نقاط ما الذي ينبغي أن ينتهي إليه العمل على تجديد الفكر الإسلامي ، وهو ما يمكن عده . في الآن ذاته - معالم كبرى لهذا التجديد المنشود، فنجد ما يأتي ذكره :

أولا: أن التجديد الفكري مقدمة للتجديد الحضاري الشامل نزولا عند منطق الأشياء، ومنطق البناء الحضاري السليم؛ إذ أن العمل الفكري والعلمي المبني على أسس منهجية يرسم التصورات ويضع المخططات التي توضع موضع التطبيق والعمل : لتسهم في البناء المبتغى تشييده . وهذا الأمر لا ينفي العلاقة الجدلية بين الفكر والتطبيق؛ إذ أن كلا منهما يمد الآخر بما يساعده على العمل والتقويم .

ثانيا : إن التجديد ضرورة وحتمية، وأن محاولات إثباته والاستدلال عليهه من قبيل إثبات المسلمات والاستدلال عليها . 

ثالثا : إن التجديد المزوم يشمل ميادين الفكر والمعرفة والفنون والآداب في سياق المتغيرات والمقتضيات والمتطلبات .

رابعا : يحتاج تجسيد هذا التجديد في مشروعات معرفية واتساق فكرية، إلى التوفر على أدوات البحث العلمي ومنطلقاته فينطلق من رؤية إسلامية محكمة لا يطولها البلى : لاستنادها إلى مصادر معصومة من الخطأ والهوى، فتستهلم التراث في عناصره الحية القابلة للاستمرار والاستدامة وتستقرئ مناهج وأدوات البحث العلمي المعاصر لتطويعها لما يحقق غايات و أهداف المعرفة العلمية في الرؤية الإسلامية ..

وبعد هذا تجدر الإشارة إلى أن مسألة التجديد الفكري ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب إنما هي الموضوع الرئيس الذي دار حوله النتاج الفكري العربي والإسلامي في العصر الحديث تحت عناوين ومصطلحات عدة مثل " النهوض " و " التنوير" و"التغيير" و" التحديث" و"التقدم " .

وفي رصيدنا الفكري الآن كم هائل من الطروحات ، والإجابات المختلفة والمتضادة، اختلاف وتضاد المشارب الفكرية والأيديولوجية التي شكلت بفعل عوامل كثيرة المقام مقام ذكرها . ليس رؤى أصحابها فصدر نتاجهم عنها بالضرورة ...

وقد شهدت كثير من الإجابات طيلة العقود القرن العشرين محاولات التطبيق في واقع الأمة وحياتها بمقادير متفاوتة . لكنها عجزت عن تحقيق الشعارات التي جاءت لتجسيدها، ليس بسبب المعوقات الكثيرة التي حالت دون تطابق تلك الإجابات مع واقع المستقبل للتجسيد، والممارسات العملية فحسب . بل بسبب الخلل الخطير الذي تضمنته الإجابات نفسها التي أرادت في كثير من الحالات . وهذا في حالة افتراض حسن النية - تحقيق شعار " الاستقلال الحضاري" والقضاء على " التخلف والتبعية" لكن النتائج كانت عكس ذلك، إذ أنتجت في غالبها نتاجا فكريا أثمر ممارسات عملية أثرت رصيد التخلف والتبعية بنماذج أخرى مثل "النموذج التابع للرأسمالية" أو " البنموذج التابع للاشتراكية " كما يذهب إليه المفكر العربي الإسلامي منير شفيق في بعض مؤلفاته أي ان أصحاب هذين النموذجين يخيل إليهم أنهم حققوا فكريا وعمليا شعار التحرر ، لكن واقع المجتمع والأمة والمعطيات المتمخضة عنه ينطق بغير ذلك .

سبب هذا الإخفاق يعود إلى جهل أو تجاهل بإصرار أحيانا كثيرة حقيقة بسيطة وخطيرة هي أن الاستقلال الحضاري نتيجة مشروع منطلقاته هي :

أولا : العناصر المكونة لذاتية الأمة المتناسبة في أصولها مع فطرة الإنسان بوصفه إنسانا ، ثم ما تشكله هذه العناصر من كيان عتيد عريق تكون عبر التجارب والمراحل التاريخية التي مرت بها الأمة أعطى للاستقلال الحضاري مدلولا خاصا يميز شخصيتها بخصائص تفردت بها، شأنها في هذا شأن الأمم الكبرى و الحضارات الرئيسة في التاريخ .

وهذه العناصر والمكونات المكونة للمنطلق الأول هي الحاجز المنيع الذي تكسرت عليه كل محاولات الفاشلة التي بعد أن فشلت في تجاهله كليا، أو حاولت الاحتيال عليه؛ أي على تموقعه الطبيعي في أي مشروع تغييري مكين الأمتنا.

ثانا : القراءة العلمية الواعية للتجربة الحضارية المعاصرة، وأشير في هذا المقام إلى صيحة جديدة نسبيا في العقود الثلاثة الماضية ، في عالم الإجابات الفكرية عن ملامح مشروع التجديد والاستقلال الحضاري انتهجت ما نصفه بالتحايل على العناصر المكونة لذاتية الأمة ، المشكلة لرؤيتها الشاملة المميزة لها التي تصدر عنها كل محاولة تغيير ..

فهذه " الصيحة الجديدة دخلت بنا - بقدر من الذكاء الأو الدهاء - إلى صياغة مشروع تلفيقي " التحقيق الاستقلال الحضاري ، ومن ثمة البناء الحضاري .

وعند التمعن ترى أن هذا الأسلوب الأوفق نسبته إلى طريقة قد " المزج يليق . حسب معطياتها وممارساتها وملامحها الأيديولوجي " : أي محاولة استخلاص واعتماد ما يظهر لمن يتبنى هذا التوجه أنه إيجابي في أيديولوجية أو مذهب من المذاهب الفكرية التي عرفتها الساحة العربية والإسلامية بفعل شروط والانتقال والنقل الحضاري بين البيئات والمجتمعات، بغض النظر عن الكيفيات والوسائل والقيم والأهداف والقصد والعفو ثم صياغة مشروع أو مشروعات من " إيجابيات" ومحاسن هذه  المذاهب اليسارية والحرة والقومية والإسلامية.

وتضاف لها العولمة كونها رؤية أمريكية للقيم والحياة تفلتت من كثير من قيم "أصيلة" في المذاهب الفكرية والفلسفية الكبرى التي إن لم يكن فيها نظرية أخلاقية، فنزعة أو ملمح أخلاقي. فيقدم للأمة على أنه مشروعها الحضاري المحقق لاستقلالها الحضاري ، وسيادتها، وإعادة بنائها حضاريا .

الحق أن السير في هذا الطريق مخاطرة ومغامرة غير مأمونة العواقب، بل هو جهد آخر لزيادة حظوظ الفشل ، وتعميق الهوة بين تطلعات الأمة وأشواقها، ورغباتها في تحقيق ذاتها انطلاقا من الخصائص والمميزات المتناغمة مع الذات، وبين المشروع المستقبلي المنطلق من خصائص هذه الذات من جهة، ومن موقعها الحضاري في الدورة الحضارية التي تمر بها ، مستلهما التجارب والماسى التي مرت بها منذ أضاعت و ضرع منها موقعها الحضاري الفعال .

فضلا عما فيه من مجانبة السير في الاتجاه المعاكس لحركة الأمة نحو المستقبل، وإن يكون على مستوى الأشواق والعواطف وإيمان بوعد الله لأمة الإسلام بالاستخلاف متى نهضت لتحقيق شروطه .

فالتيار العام - عدا بعض النخب التي تحاول التحايل على هذا الأمل يتجه بأعماق عواطفه وأماله وحنينه نحو التطلع لتجسيد المشروع الحضاري المستقبلي المنبثق من مميزات ذاتيتها الحضارية، دون إغفال مقتضيات قانون التفاعل الحضاري بعد أن أرهقها قانون " الغلوب مولع بتقليد الغالب" ..

قد يكون طوفان الأقصى" المنعطف الأعظم المنتظر لنقل الأمةمن انفحاج قدميها بين أرض التردد وأرض الإقدام إلى قراءة ذكية صادقة واعية في تحقيق شروط نهضتها في عزة وكرامة واستقلال .

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services