1518

0

أسرار تتعرف عليها لأول مرة عن حياة العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس

 لم يعمر أكثر من خمسين سنة وأربعة أشهر، وهي مدة قصيرة جدًا في حياة عالم ومفكر ورائد نهضة، وهب حياته لأمته، وخلف وراءه إرثا لا يندثر وبصمة لا تمحى.

نسرين بوزيان 

عاش  الشيخ عبد الحميد بن باديس حياة مليئة بالعطاء والتفاني، وكرّس سنواته القليلة لنشر العلم وإحياء الوعي الوطني، وعلى الرغم من جديته التي كانت تطغى على معظم مواقفه، إلا أن تلك الشخصية القوية كانت تتناغم مع لحظات من المرح والود مع أسرته، مما أضاف بعدًا إنسانيًا لشخصيته الفذة.

أمَّ الناس في سن مبكر

تمكن الشيخ عبد الحميد بن باديس من حفظ القرآن الكريم وتلاوته، ما جعله مؤهلًا ليقدمه الشيخ المرداسي للصلاة بالصائمين في تراويح رمضان عام 1901.

ومنذ ذلك الحين، قرر والده المصطفى أن يناديه “الشيخ حامد”، بينما ناداه أشقاؤه السبعة بـ”سيدي حامد”. 
الغريب أن الشيخ ابن باديس، الذي ظل حافظًا للقرآن الكريم، لم يُصلِّ بالناس في التراويح إلا في ثلاث مناسبات رمضانية فقط، منذ أن بلغ الحادية عشرة. 
ورغم أن الشيخ ابن باديس قدم دروسًا في المسجد النبوي والحرم المكي وفي تونس وخاصة في القاهرة وكل مدن الجزائر، إلا أنه لم يُطلق عليه لقب “إمام” لأنَّه أمَّ الناس في الصلاة، بل لأنَّه كان عالِمًا ومربيًا. 
لم يحدث أن خطب في الناس أو صلَّى بهم إلا في مسجد العائلة الصغير بحي القصبة، وهو مسجد سيدي قموش الصغير الذي لا تقام فيه صلاة الجمعة، ويتسع لنحو عشرين مصليًا فقط.

كانت قسنطينة في عهد الشيخ تحتوي على مفتٍ للديار القسنطينية تابع للحكومة الفرنسية، رغم أن كل القسنطينيين كانوا يلجؤون للفتاوى من الشيخ ابن باديس، والتي كان ينشر بعضها في الصحف التي أصدرها.

سيرك عمار

دعى مسؤولو مدينة قسنطينة الفرنسيون الشيخ عبد الحميد لحضور حفلة سيرك عمار، الذي كان يقدم عرضين: الأول يتعلق بترويض الحيوانات المفترسة، والثاني بالألعاب البهلوانية والتهريج. 
فقبل الدعوة، وطلب من رفاقه حجز صف كامل للمدرسين، ثم تابع الشيخ عرض ترويض الأسود والنمور والأحصنة والثعابين، ثم غادر المسرح، فقال لرفاقه: “هل رأيتم كيف يروّض رجل واحد مجموعة من الأسود المتوحشة، بينما يعجز مدرسون عن ترويض وتعليم تلاميذ أبرياء؟”.

وكان الشيخ من محبي الطبيعة، إذ كان يتنقل باستمرار إلى منطقة جبل الوحش ومنتزه المريج في قسنطينة، وكان يحمل معه رغيف معجون التمر واللبن، ليقضي يومًا بعيدًا عن المدينة.

 

مؤسس فريق مولودية قسنطينة

وكان دائمًا ينصح تلاميذه بممارسة الرياضة، فعندما علم ابن باديس بأن بعض شباب المدينة قرروا تأسيس نادي رياضي، قدم لهم مبلغًا ماليًا قدره 5 سنتيم عام 1939، ونصحهم بتسمية النادي “المولودية” واختيار الألوان البيضاء. لكنه توفي في السنة الموالية لتأسيس هذا الفريق الكروي، بينما أصبح من مشجعي هذا الفريق جميع تلامذة الشيخ، ومنهم الراحل أحمد حماني، الذي ظل إلى غاية الستينات من القرن الماضي يضع كرسيا على هامش الملعب البلدي الذي يسمى حاليًا عبد المالك، ليشجع فريق مولودية قسنطينة الذي أسسه أستاذه.

أدى الشيخ فريضة الحج مرة واحدة

أدى الشيخ العلامة فريضة الحج مرة واحدة في عام 1912، وكان عمره 23 سنة،توجه برا إلى الحجاز من مدينة قسنطينة قبل شهر رمضان، وظل في تجواله وتعلمه حتى أتم مناسك الحج.

من عائلة اشتهرت بالأكلات التقليدية

كان مسكن الشيخ ابن باديس يقع في ممر أو نهج المكي بن باديس، الذي يحمل اسم جده، وكان إخوته الصغار يجتمعون ساعة الإفطار في رمضان حول طاولة كانت عادة تحتوي على صينية من النحاس، كما هي عادة العائلات القسنطينية العريقة. 
وكان الشيخ يأكل بملعقة من الحطب، خلافًا لبقية أفراد أسرته، و يفضل الافطار على الشربة مع الكسرة أو خبز الدار، إلى جانب أطباق أخرى قسنطينية تحضرها والدته من أسرة ابن جلول، وهي إحدى الأسر المشهورة في الجزائر في تحضير الأطباق العريقة.

امتلك والده ثلاث سيارات.. لكنه لم يقد في حياته
 كان والد الشيخ عبد الحميد بن باديس يمتلك ثلاث سيارات خلال حياته،كان رجلًا معروفًا ويمتلك مزرعة ويحقق نجاحًا في الأعمال الفلاحية، لكن عبد الحميد لم يكن يحتاج سائق  السيارة إلا للتنزه في جبل الوحش والمريج و ينشغل بقراءة الكتب، مثل كتاب “العروة الوثقى” لجمال الدين الأفغاني، أثناء مرافقة إخوته للعب الكرة.

روح الدعابة كانت موجودة عنده

كان الشيخ معروفًا بروح الدعابة، خاصة مع والده الشيخ المصطفى،في إحدى المرات، غضب والده من أحد أبنائه وقال له: “إنما أموالكم وأولادكم فتنة”، فنهض عبد الحميد وقال له: “أكمل يا والدي، فالآية لا تتوقف هنا، أنسيت؟… “والله عنده أجر عظيم”،فرد والده بغضب ممزوج بالدعابة: “الأجر خذوه أنتم”، مما جعل الشيخ ابن باديس يضحك ويعيد رواية الطرفة أمام تلاميذه.

لم يشتكِ من مرض طوال حياته

على مدار نصف قرن، لم يشتكِ الشيخ من أي مرض أو ألم، وحتى في وهنه الأخير، كان التعب ظاهرًا عليه. في عام 1939، قدم الشيخ 14 درسًا في اليوم من الفجر حتى العشاء.

 

خصال حميدة وعلاقات إنسانية

أحد الجوانب التي لا يعرفها الكثيرون عن الشيخ عبد الحميد بن باديس هي خصاله الحميدة وحسّه الإنساني. 
وحسب شهادة السيد عمار بن السقني، الذي كان لا يفارق الشيخ ابن باديس، حتى اعتبره ظله الذي يمشي معه، كان الشيخ عبد الحميد من أشد الناس كرهًا لتقبل الهدايا المجانية، وقد وبخ مرارًا أعز أصدقائه على مثل هذه التصرفات التي يراها سخيفة، وحثهم على تجنبها في جميع المواقف. 
ومن هؤلاء الأصدقاء ابن السقني نفسه، الذي بقي يتذكر درسًا لقنه إياه الشيخ لن ينساه أبدًا رغم مرور الأعوام. يقول:"صنعتُ مرة حذاءً للشيخ ابن باديس، وناولته إياه، فسألني عن ثمنه، فقلت له: إنه هدية مني إليك،فغضب ووبخني على هذا الموقف، ثم قال: يجب أن تعرف أن هذا الحذاء الذي صنعته بيديك ليس من حقك التصرف فيه وحدك، فهو أيضًا حق من حقوق عائلتك، وكل فرد من أسرتك يقتات من حرفتك.٠
ونفس الموقف ذكره الأستاذ محمد الصالح الصديق في كتابه “الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس: من آرائه ومواقفه”، حيث روى أن شخصًا من سكان قسنطينة، كان معجبًا بالإمام، سافر إلى تونس سنة 1935، واشترى عمامة من الطراز الرفيع بهدف إهدائها للشيخ، وتركها عند السيد مولود الزواوي لتقديمها له. 
لكن عندما سلمها إليه الشيخ نظر فيها طويلا وقال له: "بعها يا مولود، وابعث بثمنها إلى حساب الطلبة."

استغرب مولود وقال له: "إنما أهدى إليك العمامة لتلبسها، لا لتعطي ثمنها للطلبة ولو أردت أن تعطي ثمنها للطلبة لبعثته إلى حسابهم وهو يعرفه جيدًا."

فرد الشيخ في لهجة أقوى: "قلت لك بعها وابعث بثمنها إلى حساب الطلبة."

ثم أضاف قائلاً: "مولود، كم عدد الطلبة والشيوخ الذين يلبسون هذا النوع من القماش في الجامع الأخضر؟… الثلث؟… أو الربع؟… أو الثلثان؟” فأجاب مولود الزواوي:"قد يكون الثلث"،فرد الشيخ في جد وصرامة:"ثق جازمًا أنني لا ألبسها وأضعها على رأسي حتى يلبسها الثلثان."

نقل الأستاذ بوعاب لجريدة النصر في 21 أفريل 1981 عن الشيخ، حين كان تلميذًا في تونس، أن كل ملاحظاته ونقاطه كانت تدل على نبوغه في مختلف العلوم. ومن هذه الجوانب التي لا يعرفها الكثير من الجزائريين، خصال حميدة في حياته الخاصة وبعض علاقاته وإنسانيته، التي استقاها الكثيرون من أفواه الذين عاشوا معه ولازموه طوال حياته وتعلموا على يديه.
انتصار باهر على العدو الفرنسي

حدث آخر سجل فيه الشيخ ابن باديس انتصارًا باهرًا على حساب العدو الفرنسي وأعوانه، ويرويه رفقاء الشيخ، منهم أحمد الجموعي الذي كان مديرًا لمدرسة التربية والتعليم فرع باردو.

يتعلق هذا الحدث بمدرسة التربية والتعليم الواقعة بنهج الأربعين شريفا بقسنطينة التي أسسها الإمام. كانت هذه المدرسة عبارة عن دار كبيرة تابعة للأموال العامة، وأرادت الإدارة الفرنسية بيعها عن طريق المزاد العلني، فاتفق الشيخ مع مساعديه على شرائها واستغلالها لنشر التربية والتعليم لأبناء الجزائر دون أن تعلم فرنسا بالخط.

في يوم موعد البيع، تقدم الشيخ مع بعض أصحابه، وبدأت عملية المزايدة، كانت المنافسة شديدة من بعض الأشخاص الذين أرادوا شراء البناية لاستخدامها لأغراض تجارية أو سكنية، لكن الشيخ ابن باديس كان من أشد المتحمسين. كان يضيف لكل مبلغ يُقدم في المزايدة، رغم أن الشيخ وأصحابه لم يكن لديهم ميزانية خاصة لهذا المشروع.

لكن ثقة ابن باديس بالله جعلته أكثر شجاعة وإقدامًا ، وفي النهاية، كانت البناية من نصيب الجماعة، بعد أن عجز الآخرون عن تقديم مبالغ أعلى.

بعدها بدأ الشيخ ابن باديس وأعوانه في جمع المال من خلال تبرعات المحسنين، حيث تم جمع المبلغ في ليلة واحدة فقط، وقدره 5000 فرنك، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت. أثار هذا المبلغ قلق الإدارة الفرنسية، التي كانت تخشى من تأييد الشعب الجزائري لابن باديس.


الوطنية وحب الوطن

نقل عن شقيق الإمام، السيد عبد الحق بن باديس، في إحدى الصحف، قوله: "إن درجة وطنية ابن باديس بلغت حدًا لا نهاية له، ومن كثرة حبه لوطنه وإخلاصه للشعب الجزائري وحقده على الاستعمار، كان يرفض كل ما هو فرنسي، حتى اللباس والطعام. كان لا يرتدي إلا اللباس المحلي، وكان في منزله يستخدم أواني مصنوعة من الفخار لتناول الطعام."

تمسكه بهويته الوطنية

كان  الشيخ دائم التنقل بين المدن الجزائرية لتقديم الخطب والدروس، وكان يهتم بمعرفة أحوال الناس عن كثب، وقد اضطر  في إحدى المرات للاشتراك في بطاقة سفر قطار، وكان يتعين عليه توقيعها باللغة الفرنسية، إلا أنه كان يصر على توقيعها بالعربية، مما يعكس تمسكه بهويته الوطنية ورفضه للغزو الثقافي الفرنسي.

علاقة الشيخ ابن باديس بتلاميذه

كانت علاقة الشيخ ابن باديس بتلاميذه علاقة مميزة، فقد كان يعاملهم بحنان وعطف شديدين.، و يولي اهتمامًا خاصًا للطلاب الفقراء الذين كانوا يأتون من مختلف مناطق الجزائر، حيث كان يساعدهم في تحمل الصعوبات المادية والاجتماعية.
وقد أنشأ صندوقًا للطلاب الذي تم تمويله من التبرعات الشعبية، وكان العديد من أصحاب المطاعم والمخابز يقدمون وجبات مجانية لبعض الطلاب. 
كما كان يتكفل بإيجار غرف لهم في الفنادق عند الحاجة، ويقوم الطبيب الفرنسي “كاطوار” بالكشف الطبي على الطلاب وتقديم العلاج لهم بشكل مجاني.

كان يدعوهم في الأعياد لتخفيف شعورهم بالغربة

وكان الشيخ ابن باديس يحرص على توفير الراحة النفسية والجسدية لتلاميذه، وكان يعتني بهم في المناسبات الدينية والاجتماعية، فقد كان يدعوهم إلى منزله في الأعياد والمناسبات، حتى لا يشعروا بالغربة.
إلى جانب ذلك، كان الشيخ ابن باديس لا يتردد في تقديم النصائح لطلاب العلم، فقد كان يشجع الطلاب الذين لم يظهروا استعدادًا للدراسة على العمل في الفلاحة أو حرف أخرى لتأمين لقمة العيش، أما النابهين منهم، فكان يشجعهم على مواصلة الدراسة في الجامعات الكبرى مثل جامع الزيتونة في تونس.

حماية والده له من مضايقات الاستعمار

وبالنسبة لعلاقته بالحماية من السلطات الاستعمارية، فإن والده كان يلعب دورًا محوريًا في حماية الشيخ عبد الحميد من المضايقات التي كان يتعرض لها من قبل السلطات الفرنسية. 
حيث كان يستخدم الحيل معهم لتجنب عرقلة اعماله، وكان لهذه المواقف دور كبير في حماية الشيخ ابن باديس من المتاعب التي كان من الممكن أن تعيق عمله الإصلاحي.

مشاركة  النساء لأول مرة في جنازته

شيع الشيخ عبد الحميد  بن باديس في جنازة هادئة، حيث حمل نعشه تلاميذه فقط، وقد خلت جنازته من الطقوس البدعية التي كان قد حاربها طوال حياته، وكانت هذه الجنازة بمثابة نموذج للالتزام بالضابط الديني الذي رسخه في تلاميذه، وقد شاركت النساء لأول مرة في تشييع جنازته، وهو أمر غير مألوف في مدينة قسنطينة آنذاك.

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services