بقلم الأخصائية النفسانية:إكرام عبد الرحماني
في كل عام، يعود أكتوبر الوردي ليذكرنا بأن سرطان الثدي ليس مجرد مرض جسدي، بل تجربة إنسانية عميقة تمس الجسد والنفس معا.
ورغم التطور الكبير في الطب الحديث الذي كشف الكثير من العوامل الوراثية والهرمونية وراء المرض، إلا أن هناك جانبا لا يزال يحتاج إلى وعي أكبر: العوامل النفسية والسلوكية التي قد تسهم في نشأة المرض أو في تسريع ظهوره لدى من لديهن استعداد بيولوجي.
أولا: تعددية الأسباب لا تعني الغموض
سرطان الثدي لا ينتج عن سبب واحد، بل هو حصيلة تفاعل بين الوراثة، والهرمونات، ونمط الحياة، والحالة النفسية.
ومن أبرز العوامل البيولوجية المعروفة: الوراثة: وجود طفرة في جينات مثل BRCA1 و BRCA2 أو إصابة قريبة من الدرجة الأولى.
العمر: يزداد خطر الإصابة بعد سن الأربعين. العوامل الهرمونية: بدء الدورة الشهرية مبكرا، تأخر انقطاعها، أو استخدام الهرمونات لفترات طويلة.
قلة الإنجاب أو تأخر الحمل: وهي عوامل تطيل فترة تعرض خلايا الثدي لهرمون الإستروجين.
لكن إلى جانب هذه العوامل البيولوجية، تلعب العوامل السلوكية والنفسية دورا لا يقل أهمية في زيادة القابلية للإصابة.
ثانيا: نمط الحياة… الوقود الخفي
تشير الدراسات إلى أن التغذية الغنية بالدهون المشبعة وقلة الألياف، إضافة إلى السمنة وقلة النشاط البدني والسهر المستمر، كلها عوامل تضعف الجهاز المناعي وتؤثر في توازن الهرمونات. أسلوب الحياة لا يحدد فقط خطر الإصابة، بل ينعكس أيضا على قدرة الجسم على الاستجابة للعلاج والتعافي بعده.
ثالثا: النفس والجسد... علاقة لا تنفصل
يؤكد علم النفس الصحي أن التوتر المزمن، الصدمات غير المعالجة، والكبت العاطفي المستمر تؤثر في الجهاز العصبي والغدد الصماء والمناعة. فالمرأة التي تعيش طويلا تحت ضغط نفسي، أو تميل إلى كتمان مشاعرها خوفا من الصدام، تُضعف تدريجيا طاقتها الداخلية. وحين تصمت النفس، قد يتحدث الجسد بلغة المرض — فيتحول الألم النفسي إلى إشارة بيولوجية تبحث عن انتباه.
رابعا: سمات الشخصية وأنماط السلوك
لقد صنف علم النفس أنماط السلوك إلى فئات توضح كيف يتعامل الإنسان مع الضغوط:
1. النمط A: سريع الإيقاع، تنافسي، يسعى للسيطرة، ويعيش غالبا في توتر دائم.
ارتبط بأمراض القلب
2. النمط B: متوازن، هادئ، يتعامل بمرونة مع الصعوبات، ويعد الأكثر حماية صحيا.
3. النمط C: يميل إلى إرضاء الآخرين، يتجنب المواجهة، ويكبت غضبه أو حزنه. يعد هذا النمط الأكثر ارتباطا في الأبحاث بضعف المناعة وزيادة القابلية للإصابة بالأمراض السرطانية.
4. النمط D: يميل إلى القلق والانطواء والتفكير السلبي، ويرتبط ببعض الأمراض المزمنة وضعف التعافي. ولا يعني ذلك أن الشخصية "تسبب" السرطان، بل إن طريقة تعامل الفرد مع الضغوط يمكن أن تؤثر على توازن جسده ومناعته.
خامسا: العوامل النفسية المهيئة للإصابة
الضغوط المستمرة دون راحة أو تفريغ عاطفي، الكبت وعدم التعبير عن المشاعر المؤلمة، الإحساس بالعجز أو فقدان السيطرة على مجريات الحياة، غياب الدعم الاجتماعي والعاطفي، هذه العوامل ترفع هرمون الكورتيزول بشكل مزمن، ما يؤدي إلى إنهاك الجهاز المناعي الذي يمثل خط الدفاع الأول ضد الخلايا غير الطبيعية.
سادسا: العوامل الوقائية النفسية والسلوكية
الوقاية تبدأ من الداخل، من طريقة تعاملنا مع أنفسنا وحياتنا اليومية. ومن أهم وسائل الوقاية: التعبير الصادق عن المشاعر وعدم كبتها. تعلم قول “لا” دون شعور بالذنب.
تنظيم النوم والتغذية والنشاط البدني. بناء شبكة دعم اجتماعي إيجابية. ممارسة التأمل، الصلاة، أو الكتابة كوسائل للهدوء الذاتي.
إجراء الفحص الذاتي والدوري للثدي بانتظام.
هذه السلوكيات البسيطة تعزز مناعة الجسد وتزيد قدرته على مقاومة المرض.
سابعا: التدخل النفسي… ركيزة في العلاج
عند تلقي تشخيص سرطان الثدي، تمر المرأة غالبا بمشاعر الخوف والإنكار والقلق من المستقبل. هنا يأتي دور الدعم النفسي في مرافقتها عبر مراحل المرض المختلفة:
المساعدة في استيعاب الصدمة والتعبير عن المشاعر.
-تنمية مهارات التكيف والمرونة النفسية.
-مساعدة في تقبل التغيرات الجسدية بعد العلاج.
-إعادة بناء الثقة بالنفس وصورة الجسد.
الدعم النفسي لا يخفف الألم فقط، بل يعزز المناعة ويحسن جودة الحياة، كما تثبت دراسات عديدة في الطب النفسي الجسدي. -نحو وعي متكامل سرطان الثدي لا يختبر الجسد فقط، بل يختبر العلاقة بين المرأة ونفسها.
العلاج لا يقتصر على الدواء والجراحة، بل يبدأ من المصالحة مع الذات، والتعبير عن المشاعر، والاهتمام بالصحة النفسية.
المرأة التي تصغي إلى جسدها، وتعتني بروحها كما تعتني بجمالها، تبني بداخلها مناعة صلبة وقوة داخلية قادرة على مواجهة المرض والعبور إلى التعافي.