307
0
سلامٌ على الشيخ الشهيد
بقلم : نعمان فيصل
نكتبُ هذه الكلمات عن عالم من العلماء العاملين، الذين أفنوا حياتهم من أجل فلسطين ونذروا وقتهم وجهدهم لها، وإذا ما تصفَّحنا سيرة حياة الشيخ الشهيد/ يوسف جمعة سلامة، التي امتدت حوالي تسعة وستين عاماً، وجدنا أنفسنا أمام شخصية خاضت معركة الحياة بإيمان وعصَامية وعُلو همة.
وقصة نضال ونجاح يوسف الطفل والشاب والداعية والعالم ليست غريبة عن جيل من ضحايا الاحتلال، الذين صنعوا من الألم والمعاناة فرصة للانطلاق، وكما قال الحكيم: (الخيبة للضعيف انسحاق وللقوي انطلاق)، فكانت انطلاقة طفل المُخيَّم يوسف إلى آفاق الدعوة والتمسك بالهوية وحماية الذاكرة والصبر والرّباط بمثابة المقدمة التي حققت نجاحاً وإنجازات لم يكن لها شأنها في قطاع غزة فحسب، وإنما كان لها حضورُها في جميع الميادين في فلسطين.
حيث وُلد الشيخ يوسف جمعة سلامة في عام 1954 في مُخيَّم المغازي بقطاع غزة، وهاجرت أسرته في عام نكبة فلسطين (1948) من قرية بيت طيما إلى مخيم المغازي، إذ كانت النكبة هي الحدث الأهم في حياة كل إنسان فلسطيني عاصرها، أو عايشها، وقد صاغت تجربة اللجوء وحياة المخيم وعي الشيخ يوسف سلامة، كباقي أترابه، وتركت تلك المؤثرات آثارها البيّنة في تفكيره. فقد شهد الشيخ الشهيد يوسف سلامة المأساة والنكبة ماثلة أمامه في مخيمات اللجوء وفي عيون الأطفال، وهي تنظر بأمل أن تستعيد أرضها جغرافياً وتاريخياً، وشبَّ مشبعاً بالروح الوطنية، فلم يفكر أن ينطلق من هوامش ضيقة على حساب المكونات الأخرى، فكان - رحمه الله - بعيداً عن الانتماءات القَبَليَّة الضيقة، رغم الظروف القاسية التي عاشها في مُقتبل عمره في المخيم، فقدَّم أنموذج التلاحم والانتماء إلى غزة وإلى ما هو أكبر من غزة.
فكانت بوصلته فلسطين وأمة العرب والمسلمين، وهي بوصلة البشرية للرقي والارتقاء والسمو بالأخلاق والفضيلة، فكان مثالاً حياً للعالم الغيور، وتعبيراً واقعياً عن الحالة الفلسطينية، نكبة ومعاناة، تصميماً وصموداً، وإنجازاً وشموخاً، فالشيخ الشهيد يوسف سلامة تجسيد إنساني للوطن السَّليب المُغتصَب الذي لن يتخلى عنه شعبه.
ونموذج حضاري للشعب المُصمم المُرتقب الذي يخلق من العدم قوة وثقة، ويُشيد من الرُّكام إرادة ومنعة. هذه روعة الشيخ يوسف جمعة سلامة، أنه استطاع أن يجعل من نفسه نموذجاً يُقتدى؛ وأن الإنسان مؤتمن، والحياة رسالة؛ ففي سيرته نموذج رائع للعصامية التي تقفز بصاحبها من الفقر والحرمان إلى النباهة ورفعة الشأن.
بعد كفاح طويل مع الأيام، لتتعلم منه الأجيال الناشئة، وكيف لها أن تعمل للوحدة الوطنية، وتعزيز المسيرة الاتحادية لأبناء الشعب الفلسطيني على اختلاف مشاربهم وأن تواجه الصعاب؟ وكيف لها أن تُضحّي من أجل ذلك بعزيمة لا تلين وبثقة لا تنكسر، تُجابه كل عوامل اليأس والإحباط؟ فعظمته لم تأتِ من فراغ، فهي مرتبطة بالإرث الحضاري وقيم مجتمعنا النبيلة، فكان، بحق، أكرم صورة للتعويض عن معاكسة الحظوظ، ومضايقة الأقدار.
نعم! هذا هو سبيل العصاميين الذين لا يُعوّلون في الدنيا على أحد ولا يعتمدون على أب وجد، ولكنهم يعولون على الأسباب والأخذ بها، وهي لا شك مُفضية بهم إلى ما يريدون.
رأى الشيخ يوسف جمعة سلامة منذ نعومة أظفاره أن المرء لا يتم قدره، ولا تتحقق له مكانة بين قومه إلا بعلم يُحصّلُه، لإيمانه الراسخ بالعلم النافع الذي هو عُدّة هذا الزمن، فهو السبيل إلى التقدم والعيش الكريم، وهو السبيل إلى النصر، وبه شرف النفس ونفس الشرف، واستطاع بعد تصميم وعزم، وإرادة قوية أن يحوزَ على شهادة ليسانس في أصول الدين بجامعة الأزهر، وكان اختياره لموضوع الوقف الإسلامي لدراسة الماجستير، ثم الدكتوراه استجابة لضرورة معرفة الفلسطينيين بأثر هذا النظام الإنساني الرائد الذي تميّزت به الحضارة الإسلامية على مر التاريخ، كأعظم أداة في التمويل المعاصر؛ لما يُحققه من ترابط وتكافل اجتماعي.
والحق، أن الشيخ قد جد في الطلب، وتعب في التحصيل، وتزود من العلم والمعرفة بزاد كان ذخره للمستقبل الذي ينتظره، وشق طريقه في الحياة أخذاً بالأسباب التي قلّ أن تخيب نتائجها، وتضيع ثمراتها، فظل نجمه يلمع، وعمله يظهر في كل وظيفة شغلها منذ أن عمل في المعهد الديني "الأزهر"، ثم مُحاضِراً وأستاذ الحديث وعلومه بقسم الدراسات العليا بجامعة الأزهر في مدينة غزة.
ومنذ عودة السلطة الوطنية الفلسطينية لأرض الوطن عام 1994م، أسهم الشيخ سلامة في تأسيس وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، يبني مع البنّائين قواعد الوطن، بتاريخه ومقوماته ومؤسساته، الذي كان، ولا زال، هو الأمل، ودفع مسيرة الإعمار والبناء والتطوير في العديد من الإدارات الحيوية بالوزارة، من خلال المواقع القيادية التي كُلّف بها من الرئيس الراحل ياسر عرفات - رحمه الله - على مدار اثني عشر عاماً خلال فترة عمله بالوزارة (1994 - 2006م)، كوكيل مساعد ومسؤول الأوقاف خلال الفترة (1994 – 1996)، فوكيل الوزارة (1996 – 1998) ثم وزير الأوقاف المُكلَّف (1998 – 2005)، ثم وزيراً للأوقاف في عهد الرئيس محمود عباس خلال الفترة (2005 – 2006). وكانت هذه السنوات فارقة بالمعنى الحقيقي للكلمة، حتى لا تتشتت رؤية الأجيال القادمة لحقيقة ما حدث في هذه الفترة أو يجري تزييف التاريخ لمصلحة طرف أو آخر ممّن شاركوا في صُنع تلك الأحداث.
فإنّ إحساس الشيخ يوسف جمعة سلامة بما فرض الله من مسئوليات – باعتباره عالماً من علماء الدين، والعلماء ورثة الأنبياء – في بيان الدين والحفاظ عليه، ألقى على كتفيه أمانة ثقيلة قام بها خير قيام على ما رأينا. ولعل ما يسترعي انتباهنا، ونحن نتحدث عن دور الشيخ الشهيد يوسف جمعة سلامة أنه تصدّى لأي بادرة تهدف إلى إثارة الفتن والاضطرابات داخل المجتمع الفلسطيني من باب المسئولية الدينية والوطنية والإنسانية، وعمل جاهداً دون كلل أو ملل على عدم توظيف الدين لتحقيق أغراض فئوية، وقاد وزارة الأوقاف في فلسطين، ولم يفكر أو يحاول تسخير خطاب المنابر وصوت المساجد لمصلحة طيف واحد من أطياف الشعب الفلسطيني، حتى الطيف الذي إليه انتمى وأحب؛ لإيمانه الراسخ أن الدين للناس كافة، والوطن لهم جميعاً دون إقصاء أو تهميش.
لقد أدرك شيخنا الشهيد يوسف جمعة سلامة أن الدعوة لترويج خطاب ديني ليخدم طيفاً لا ينبغي لرسالة أرادها الله أن تكون رحمة للعالمين، وأن توظيف الخطاب الديني ومنابر المساجد لمصلحة طيف من أطياف المسلمين إنما هو انحراف خطير عمّا لا ينبغي أن يحيد عنه المؤمن التقي، والداعية الناصح البصير.
وبفضل الرؤية الثاقبة الواضحة المستنيرة للشيخ الشهيد يوسف جمعة سلامة كان خطابه الديني الذي دعا إليه على كل المنابر في فلسطين، وأهمها منبر المسجد الأقصى المبارك، خطاب يجمعُ ولا يُفرّق، ويُوفّق ولا يُنفّر، ليكون منارة الوسطية وصحيح الإسلام، وجسَّد - رحمه الله - بأعماله ومواقفه، بوتقة فعلٍ متنامٍ، انصهرت داخلها كل ألوان الطيف الفلسطيني، بإعلاء صوت المنابر بأفق ومسئولية أوسع من توظيفها لطيف ولو على حساب الأفق الوطني العام. وهذا يدل على وعي الشيخ سلامة، وعلى حكمته وحرصه أن يؤدي دوره بأمانة واستقامة؛ لإدراكه أن المحراب أبقى من الإمام، وأن المنبر أبقى من الخطيب، وأن المسجد أبقى من وزير الأوقاف، فكان الشيخ – رحمه الله – منسجماً ومتناغماً مع قوله تعالى: (يا أبتِ استأجرهُ إنّ خيرَ مَن استأجرتَ القويُّ الأمينُ).
فلا شيء يسيء إلى الدين، ويُنفّر الناس منه، مثل ادّعاء بعضهم أنهم حفظته والأوصياء عليه، بينما هم أسوأ الناس خُلقاً.
وانطلاقاً من مسئولية وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في العديد من المجالات، ومنها نشر العلم الشرعي في فلسطين، فقد وضع الشيخ يوسف جمعة سلامة لبنة جديدة في صرح العطاء الفكري الإسلامي، تجسّدت في إنشاء عدد من مدارس الأوقاف الشرعية في كل من غزة، وخان يونس، وطولكرم، وقلقيلية، وجنين، والبيرة، وبيت لحم، ودار الأيتام الإسلامية الصناعية بالقدس. وقد كان لهذه المدارس دورٌ مهمٌ في تنشئة الطلاب وصقلهم في بيئة إسلامية سليمة من خلال تزويدهم بالعلم الشرعي، ولعلَّ من الوفاء أن أشير إلى جهود الأستاذ (جرار نعمان القدوة) رئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية الأسبق، والمتمثلة في تكرمه بالتبرع لبناء مدرستين نموذجتين على نفقته الخاصة، الأولى مدرسة الأوقاف الشرعية للبنين شرق مدينة غزة، والثانية مدرسة الأوقاف الشرعية للبنات في منطقة مَعَن بخان يونس.
كما عمل الشيخ يوسف جمعة سلامة على تأسيس كلية الدعوة الإسلامية بفرعيها في كل من غزة وقلقيلية، وقد جاءت هذه الكلية امتداداً طبيعياً لمدارس الأوقاف الشرعية من أجل تخريج الدعاة المؤهلين بالعلم والإيمان، والذين تحتاج إليهم وزارة الأوقاف في جميع المجالات الدينية: كالخطابة والإمامة والوعظ والإرشاد، وتدريس المواد الشرعية في المدارس والجامعات.
وحرص الشيخ يوسف سلامة على تنفيذ سياسة الوقف الإسلامي وفلسفته في فلسطين، وعمل جاهداً على إنفاق أموال الوقف الإسلامي في وجوه الخير المتعددة، تنفيذاً لرغبة الواقفين الذين تبرعوا وأوقفوا ممتلكاتهم وأموالهم لهذا الغرض النبيل، كما عمل على استثمارها وتنميتها من خلال إقامة العديد من المشاريع التجارية والاقتصادية والخيرية والتعليمية، ومنها مشروع إقامة منطقة صناعية وموقف للشاحنات بمدينة غزة، ومشروع تطوير منطقة ميدان فلسطين المشهورة باسم "الساحة".
وأشرف الشيخ يوسف سلامة على إعمار المساجد وترميمها بصفة عامة، والمسجد العُمَريّ الكبير في مدينة غزة بصفة خاصة، نظراً لمكانته الخاصة، إذ يُعد المسجد العمري من أكبر المساجد الجامعة في فلسطين وأهمها، ويمتد تاريخه إلى العصر الإسلامي الأول، وتحديداً منذ بداية الفتح الإسلامي لبلاد الشام وفلسطين، ويتميز هذا المسجد بضخامته ومتانة بنائه ونقوشه الكتابية وعناصره المعمارية والزخرفية. وتبرع الأمير الوليد بن طلال بن عبد العزيز آل سعود بمبلغ مليون دولار أمريكي لمشروع ترميم المسجد العمري، وقد زار الأمير مدينة غزة في (مايو 2000)، للمشاركة في إزاحة الستار والإعلان عن البدء بتنفيذ مشروع ترميم المسجد، بحضور الرئيس الراحل ياسر عرفات – رحمه الله - وقد أشرف الأستاذ الدكتور صالح لمعي من جمهورية مصر العربية – الخبير العالمي في هذا المجال على المستويين العربي والإسلامي على تنفيذ ترميم المسجد العمري، وفق برنامج زمني، كُلّل بالنجاح. كما شغل الشيخ يوسف جمعة سلامة منصب النائب الأول المنتخب لرئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس، وكان حاضراً بقوة في نُصرة المقدسات الدينية، والدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية، وسجَّل مواقف جليلة في نصرة الأقصى والدفاع عنه.
وأذكر أنه قال لي في أحَدِ اللقاءات: (يكفيني فخراً أن اسمي يلتصق بالمسجد الأقصى المبارك وخطابته، حتى صار لقبُ خطيب المسجد الأقصى رديفاً لاسم يوسف جمعة سلامة، وهذه وحدها تكفيني حياً وميتاً)، وباختصار، فإن القدس هي المِنظَار الذي كان يرى الشيخ سلامة من خلاله العَالم والناس من حوله، وكان كثيراً ما يُردد: (لا قيمة لفلسطين بدون القدس، التي هي لؤلؤة فلسطين، ولا قيمة للقدس بدون الأقصى، لأن الأقصى هو قلب فلسطين النابض، وهو جزء من عقيدتنا ونحافظ عليه بقدر ما نحافظ عليها، وتبقى القدس عاصمة الدولة الفلسطينية إن شاء الله تعالى).
وهو ما يترجمه دوماً إلى أفكار مُتدفّقة وبرامج مُتلاحقة ونشاط دؤوب، فكان الشيخ يوسف صاحب فكرة طباعة مصحف بيت المقدس وتنفيذها، كما أطلق مسابقة الأقصى الدولية والمحلية في حفظ القرآن الكريم وتفسيره، وترأس العديد من الوفود الرسمية في زيارة العديد من الدول العربية والإسلامية التي تدعو إلى حماية المقدسات الدينية، تلك الزيارات والجهود والاتصالات كان لها تأثير إيجابي على حشد الدعم المادي والمعنوي.
امتد نشاط الشيخ الشهيد يوسف جمعة سلامة إلى ميادين شتّى، فقد مارس دوراً تنويرياً في مواجهة القيم المغلوطة والكراهية الفكرية التي تمزق المجتمعات وتهدم بنيانها وتماسكها من خلال الكتابة في "جريدة القدس"، بصورة دورية، وهي ثمرة جهد طويل دام لأكثر من ثلاثين سنة، والتي كنت أتابعها باهتمام شديد بأسلوبه الرزين الذي تميزت به تلك المقالات، كما كان - رحمه الله - مُعدّاً ومُقدّماً للعديد من البرامج الدينية في إذاعة القرآن الكريم بوزارة الأوقاف، وفي فضائية فلسطين وغيرها، وقدّم صورة ناصعة للإسلام الصحيح كعقيدة تحترم العقل وترفض الوصاية على العباد في علاقتهم بالخالق المعبود تفارق تماماً صور التسييس والتحزب، وهو ما انعكس صداه في عقل ووجدان كل المتابعين.
لقد برز الشيخ يوسف سلامة كمصلح اجتماعي في قطاع غزة؛ من شعور بالغ المدى بالمسئولية التي ألقاها الله على عاتقه باعتباره رجلاً مسلماً عربياً، وباعتباره من العلماء بدين الله وشريعته، الذين يراهم الناس موضع الأسوة والقُدوة، إذ جعل من منزله في مخيم المغازي مَجلساً عامراً يتردد عليه كبار الشيوخ والباحثين والأصدقاء والجيران، واتسم بالعلم والأدب، وإحياء المعاني الدينية، وإصلاح ذات البين، فالفلسطيني بطبعه اجتماعي من ناحية انتظام العادات والتقاليد منذ أجيال مديدة على نظام الأسر والبيوت والمجالس، وذلك هو قوام العُرف الاجتماعي في أخلاقه وعلاقاته التي تحب الألفة، وتعرض عن البدع والخوارق.
وهذا أقوى ما يربطه بالمجتمع، إن هذا الشعور القوي بما عليه من مسئوليات هو مفتاح شخصية الشيخ يوسف سلامة في رأينا. وكان الشيخ الشهيد يوسف سلامة - رحمه الله - من عقلاء الشعب الفلسطيني ومخلصيه، وكان على صلة بالحياة ودراية بالمجتمع، وفي إحدى المكالمات الهاتفية بيننا أخبرني أن الأخ المحامي/ راجي الصوراني وصفه بـ (الصندوق الأسود) بالمعنى المجازي للصندوق الموجود دائماً في الطائرة لما يمثّله الشيخ سلامة من ذاكرة وخزينة أسرار وشاهد على أبرز الأحداث والتفاصيل التي مرت على المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة، فلا عجب أن يحتل الشيخ سلامة مكان الروّاد في تاريخ فلسطين، فهو فصل مهم من فصول الرواية الفلسطينية.
وكان الشيخ يوسف جمعة سلامة القوة الدافعة وراء إنشاء جمعية دار البر للأعمال الخيرية في قطاع غزة، وتحمّل مسؤولية رئاستها رغم أعبائه الكبيرة من أجل ضمان دوامها، وتحقيق رسالتها النبيلة، والتي في جوهرها مساعدة المحتاجين أفراداً وعائلات، والتي تلخصها كلمة (النخوة)، فالإحسان إلى ذوي الحاجات فضيلة من أشرف فضائل العظمة الإنسانية، واستطاعت الجمعية بفضل القائمين عليها والمنتسبين إليها أن توفر للعديد من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة حياة كريمة، ومعيشة هانئة. ولعل من أبرز نشاطات الجمعية الثقافية إصدار سلسلة من الكتب حملت اسم: (علماء من أرض الإسراء)، ومنها كتاب عن الشيخ المرحوم حمدي مدوخ، شيخ المقارئ الفلسطينية، صدر عام 2013، وكتاب عن الشيخ العلّامة المرحوم عبد الكريم الكحلوت، مُفتي محافظة غزة صدر عام 2018، أعدهما الشيخ يوسف جمعة سلامة، فليس بدعاً أن نراه يعبّر عن وفائه للعلماء العاملين، بفضل ما قاموا به من جلائل الأعمال وما خلفوه لنا من عظيم الآثار بهذه الإصدارات المتتالية، أضف إلى ذلك، أنّ الشيخ سلامة عندما كان عميداً للمعاهد الأزهرية في فلسطين.
افتتح قاعة دراسية تحمل اسم الشيخ عبد الكريم الكحلوت في المعهد الديني (الأزهر) في حفل مهيب عام 2018 تقديراً لجهوده، فقد ظلّ الشيخ سلامة وفياً لنفسه وللناس الذين اتصل بهم وتعرّف عليهم، وارتبط معهم بأحاسيسه ومشاعره وآلامه وأماله، لم يتبدل ولم يتغير، فكان خير أمين على التراث، وأعرف الناس بالجميل، وأحفظهم للعهد، وأذكرهم للمعروف.
وهكذا، فإن جوهر قوة هؤلاء العلماء والفقهاء وكبار رجال الدين هو الدين نفسه، هذا الدين الجيّاش بالقوة، والذي يقوى به صاحبُهُ، وهكذا كانوا جميعاً رحمهم الله. وليس غريباً على إنسان مثل الشيخ الشهيد يوسف جمعة سلامة اتخذ العلم رسالته، أن يجيء انتاجه القلمي خصباً وافراً، خصوصاً وأن شيخنا كان شخصية مثقفة واسعة الاطلاع، بدليل أننا نجده يجيب على الكثير من المسائل الشرعية المعروضة على بساط البحث.
وقد التزم الشيخ في كل ما قدَّمه من أبحاث ومؤلفات وقراءات أسلوباً واحداً ألا وهو أسلوب الشرح والتفسير، فجاءت كتبه سهلة المأخذ، بعيدة عن التكلف، ومن مؤلفاته: (الحوار في الإسلام، والتسامح في الإسلام، والبعد الإسلامي للقضية الفلسطينية، ومعالجات إسلامية، ودليل المسجد الأقصى المبارك، وإرشادات دينية في بدع المآتم، والمعجزات والحقائق الكونية في القرآن الكريم، وحقوق الإنسان في الإسلام، وحقوق المرأة في الإسلام، وغيرها).
ولا تنحصر قيمة هذه المؤلفات المتنوعة فيما احتوت عليها من شرح وما إلى ذلك فحسب، وإنما تتجلى قيمتها بصفة خاصة فيما انطوت عليها من الدعوة إلى الحوار والتسامح، وحماية المقدسات الدينية، والعمل من أجل الآخرة، والسعي في طلب المنزلة عند الله. كان الشيخ الشهيد يوسف جمعة سلامة إنساناً، مُرهف الحس، مُشتعل الوجدان، مُنحازاً للفقير والمحتاج، أحب الناس واحترمه الجميع، ومن هنا، جاءت معظم مواقفه حارة دافئة، تمزج الفكرة بالعاطفة، وفي هذا السياق لن نستطيع أن نفصل (سلامة الشيخ) عن (سلامة الإنسان)، فكلما بحثنا عن (سلامة الشيخ) فلا نكاد نلتقي إلا (بسلامة الإنسان).
وهذه الدنيا رحلة قصيرة، ولا يبقى فيها إلا الذكر الحسن والمعنى الطيب، وفي تاريخنا الحديث، صفحات لا يحصى عددها، سُجّلت فيها مواقف للعلماء، تعد مثلاً في الإنسانية وقوة الوطنية وصدق التضحية والعمل بحماسة لإعلاء كلمة الحق، وإنقاذ الشعب من سالبي حريته ومستغليه، وفاقاً مع قول شوقي: قفْ دُونَ رأيكَ في الحياة إن الحياةَ عقيدةٌ وجهادُ وشاء الله أمراً قد قضاه، أن تتوج حياة الشيخ يوسف جمعة سلامة بالشهادة، بعد حياة حافلة بالعطاء والدعوة إلى الله، ليلتحق في مواكب الشهداء الخالدين.
وفي الختام، كان طبيعياً أن يشعر الفلسطينيون عامة، وأصحابه ومريدوه بالحزن واللوعة على فقده، وأن تترجم ألسنتهم نثراً وشعراً عن هذا الألم والأسى، فإنّه يعبّر عن العاطفة الصادقة والتقدير العظيم للشيخ الجليل. ندعو الله – جلت قدرته - أن تكون جميعُ أقوالنا شاهدةً له بالخير، وأن يكرمه في دار مثواه، وأن ينزله منازل الذين أحسنوا عملاً.
خالدة جرار: تُمزق أوراق ميشيل فوكو في كتابه "المراقَبة والمعاقَبة: ولادة السجن"
بقلم : ثائر أبو عياش
في كتابة "المراقَبة والمعاقَبة: ولادة السجن"، يفتتح المفكّر الفرنسي "ميشيل فوكو" صفحاته بمشهد تعذيب دمويّ لرجل فرنسي يُدعى روبرت في عام 1757، بتهمة محاولة اغتيال الملك لويس الخامس عشر "1710-1774"، ويؤكد فوكو أن ما بعد اعدام روبرت، تم التنكيل بالجثة في ساحة عامّة، وأمام حشد من الناس يراقب جسد روبرت في مركز المدينة وهو يتمزّق أمام أعينهم في مشهد يُلخص انتقام الملك برمزيّته، وأذرعه، ومؤسّساته، وفرض سلطة الملك على جسد من حاول المساس به. بعد عرض هذا المشهد الوحشي، ينتقل فوكو إلى عرض فكرة اختفاء فكرة العقاب العلنّي للجسد، حيثُ تناول فوكو السياق التاريخي للعذاب الجسدي على طوال مقدمة الكتاب، ولكن يؤكد فوكو أن مؤسسة العقاب ذهبت نحو التحكّم والسيطرة على روح السجين بدلًا من الجسد، وذلك من خلال السيطرة لا على الجسد مباشرة، بل على تفاصيل حياة ذلك الجسد اليوميّة، وفرض سلطة المؤسّسة الحاكمة عليه، وإعادة صياغتها وتعرفيها.
يتجلّى معنى التحكّم بروح السجين مقابل التحكّم بجسده، بحسب قراءة عالِم الاجتماع توماس ماثيسيِن لكتاب فوكو، في "خلق أشخاص يسيطرون على أنفسهم عبر ضبط أنفسهم بأنفسهم؛ ليتناسبوا تمامًا مع ما يُدْعى بالمجتمع الرأسماليّ الديمقراطيّ، بكلمات أخرى؛ ينتقل مفهوم العقاب من المسّ المباشر بجسد السجين عبر التعذيب العلنيّ، إلى المسّ بشخصه، أفكاره، دوافعه، أهدافه، وإعادة إنتاج تلك الروح لاستثمارها بما يعود بالفائدة على السلطة نفسها؛ ليتحوّل الجسد الأصليّ إلى "جسد طيّع"، بحسب تعبير فوكو، يمكن السيطرة عليه، وضبط سلوكه، ومعرفته، وتحسينه بما يخدم السلطة في سبيل تحقيق ذلك.
كان لا بدّ من تصميم سجن يمكن من خلاله إنتاج جسد طيّع، وهندسة سلوكيّات السجين وتصرّفاته فيه¹ في خضمّ ما سبق، لم تكن رسالة الأسيرة خالدة جرار²، من زنزانة العزل الانفرادي إلا دليلًا على السيطرة على الروح التي يحاول الاحتلال ممارستها على جسد الأسرى الفلسطينيون حتى ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023، ومن أجل أن نتشرب سياسة الإعدام المعنوي في فكر فوكو، والتي يًمارسها الاحتلال بطبيعة الحال على الأسرى لنقرأ ما تقول جرار.
إذ تقول: " أنا أموت يوميًا، فالزنزانة أشبه بعلبة صغيرة مغلقة لا يدخلها الهواء، فقط يوجد مرحاض وأعلاه شباك صغير، الذي تم إغلاقه لاحقا، وحتى ما تسمى بالأشناف في باب الزنزانة أُغلقت، وهناك فقط فتحة صغيرة أجلس بجانبها معظم الوقت لأتنفس، أنا أختنق وأنتظر أن تمر الساعات لعلي أجد جزيئات أوكسجين لأتنفس وأبقى على قيد الحياة".
إذن، تحمل رسالة جرار في عباءتها تحليل فوكو، ولكن في الصندوق الخاص لخالدة رسائل باطنة تتحدث فيها عن قدرتها على تمزيق أوراق فوكو، والسعي الدؤوب لتفتيت كل محاولات الاحتلال لتحطيم روحها، خصوصًا أن خالدة في اعتقالها ما قبل الأخير قالت لحظة تحررها على قبر أبنتها "سهى"، والتي فقدتها وهي داخل أسوار السجن:"
الأسرى يفقدون الأحبة لكن لا يفقدون الأمل"، ولكن الأهم أنها قالت أيضًا:" الاحتلال يحاول السيطرة على الروح من خلال اعتقال الجسد، ولكن الأسرى دائمًا ينتصرون في ذلك"، وفي طيات هذه الكلمات تُلخص خالدة والتي تقبع الآن في زنزانة العزل الانفرادي، كيفية تحويل السجن إلى مدرسة، وعدم الوقوع في سياسية كي الوعي التي تحدث عنها سابقًا الشهيد "وليد دقة"، إذ يقول دقة في ذات سياق فوكو: " تقف في السجن أمام خيارين، إما أن تكف عن كونك ذاتك وتتحول كليًا إلى موضوع سجانك، وإما أن تّحول ذاتك لموضوع بحث لإعادة تعريف التعذيب وأسبابه".
تأخذنا تحليلات "وليد دقة "، و"ميشيل فوكو"، والتي انطلقنا إليها من رسالة الأسيرة خالدة جرار، إلى جدلية العبد والسيد التي تحدث عنها هيجل، إذ يقول هيجل: " إن السيد يفرض على العبد الاعتراف به عبر الإنكار، وبهذه الطريقة ينشأ شكل من أشكال الوعي في المهيمن، إذ يدفع هذا الوعي العبد لأن يتعرف على الآخر على أنه سيد ويتعرف على نفسه على أنه عبد"، وأكثر تأخذنا هذه التحليلات على الفرق بين المُستعمِر، والمُستعمَر التي تحدث عنها "فرانز فانون" في كتابه "معذبو الأرض".
حتى لا يتسرب المعنى من النص، يمكن القول أن العلاقة ما بين فوكو، ودقة، وهيجل، وغيرهم ممن تناولوا هذا السياق، تكمن في محاولة الاحتلال فرض سيطرته على سيكولوجية الإنسان، وأكثر تحويل هذا الإنسان إلى تابع عبر تلك السيطرة، وبل قهر الإنسان، وممارسة عليه أبشع أنواع التعذيب السيكولوجي، والجسدي، ولذلك لم تخرج رسالة خالدة جرار من ذات السياق، إذ يسعى الاحتلال تحديدًا مع جرار وغيرها من القيادات السياسة الفلسطينية لعزلهم داخل السجون لإدراك الاحتلال مدى تأثير هؤلاء على الاسرى، ومن جهة زرع حالة من الإحباط واليأس داخل ذواتهم من أي محاولة لمواجهة هذا الاحتلال.
أخيرًا وليس آخرًا، يمكن لنا التمعن جيدًا فيما قاله الفيلسوف الفرنسي "ألبير كاموا"، في ورايته الغريب، حتى نتمكن من فهم سياسة الاحتلال داخل السجون، إذ يقول كاموا على لسان البطل خلال نقاشه مع السجان:
_السجان: نضعكم في السجن لهذا الغرض بالذات.
_البطل: كيف، لهذا الغرض؟
_السجان: أجل، الحرية، هو ذا المقصود، أننا نحرمكم من الحرية.
_البطل: أجل، وإلا أين تكمن العقوبة؟
وختامًا الحرية هي العامود الفقري لفكرة السجن، الحرية التي نفسها المقابل كما تحدث من قبل الشهيد والأديب غسان كنفاني.
طولكرم.. طلقة البداية لجرائم الإبادة بالضفة!
بقلم : إبراهيم ملحم
المجزرة الـمُروّعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال بغارةٍ على حارة الحمام وسط مخيم طولكرم، الليلة الماضية، وذهب ضحيتها العديد من الشهداء، بينهم عائلة كاملة، إنما هي رسالةٌ داميةٌ إيذاناً ببدء نسخةٍ جديدةٍ من حرب الإبادة المتواصلة، بلا هوادة، في قطاع غزة منذ عام. رسالةٌ لها ما بعدها من رسائل مماثلة تتسع مساحتها، ويرتفع عدد ضحاياها، تبعاً لردود الفعل الدولية التي لا تُنبئ بأكثر من التعبير عن القلق والدعوات الباردة لوقف المقتلة.
لم يكتفِ الاحتلال بتجريف المخيم وتدمير بنيته التحتية، وتهجير سكانه، وجعله غير قابلٍ للعيش، بل انتقل إلى مرحلةٍ جديدةٍ أكثر دموية، تكشف نوازع الثأر والانتقام. لا نستبعد أن تُشجع تلك المجزرة المروّعة جيش المستوطنين على ارتكاب مجازر مماثلةٍ في قرى وبلداتٍ خلال الأيام والأسابيع المقبلة. مطلوبٌ تحرك فلسطينيّ عاجل للجم شهوة القتل المتواصلة في غزة والضفة، قبل أن نتعوّد على مشاهد دمويةٍ تُباد فيها عائلاتٌ تحت ركام البيوت والعمارات.
كيف حوّل الاحتلال إصابات الجرحى إلى أداة للتعذيب؟
"أنّ قوة من جيش الاحتلال اقتحمت منزل عائلتي في شهر آذار الماضي، وعند عملية اعتقالي، قاموا بتفجير باب المنزل، وانهالوا عليّ بالضرب المبرح مستخدمين بساطيرهم والهروات، حيث قاموا بتكسير أسناني في الفك العلوي جميعها، ولم يتبقى سوى سن واحد فقط، كما واستمروا بضربي بشكل مبرح على أنحاء جسدي، وتعمدوا ضربي مكان الإصابات في جسدي، إحداها في يدي اليمنى التي تسببوا في كسرها، وكنت قد خضعت لعدة عمليات جراحية فيها قبل اعتقالي، وإصابة أخرى في الحوض وفي الفخذ، ولم يسمحوا لي باستخدام جهاز خاص وعكازة كانوا بحوزتي لمساعدتي في المشي، وبعد عملية اعتقالي نقلت إلى معتقل حوارة، حيث تم تقيدي، وتعصيب عيني، وطوال هذه المدة كنت أنزف من فمي، حيث تم نقلي إلى مشفى لا أذكر اسمه، ومباشرة جرى نقلي إلى سجن "عوفر".
وبقيت في سجن "عوفر" قرابة الأربعة شهور، وفي فترة التحقيق كان يتم نقلي في كل مرة من سجن (عوفر) إلى (سالم)، وتضاعفت معاناتي جرّاء عمليات النقل المتكررة، وكنت أضطر لربط يدي المكسورة بسترتي من شدة الوجع، مع حرماني التام من العلاج، وما زلت حتى اليوم أعاني من التهابات شديدة في أماكن الإصابات، والتي تحوّلت إلى أداة للتنكيل بي على مدار الوقت مع حرماني من العلاج، إلى جانب الظروف الاعتقال القاسية، وأعتمد في تلبية احتياجاتي على رفاقي الأسرى حيث جرى نقلي منذ فترة إلى سجن (مجدو)".