267
0
"سفير الدعوة "وقوتا النبوة {1}
بقلم: محمد مراح
من علماء العصر من تقول : ليتنا حضينا منه بكتاب في السيرة النبوية صلى الله وسلم على صاحبها خير خلقه ؛ فلو كان ذلك من الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله الذي قيل إنه كان ينوي النسج على سَنَنِ "في ظلال القرآن " " في ظلال السيرة" ، لَكُنَّا يقينا إزاء ثروة دعوية واستراتيجية وفكرية وتوجيهات استثنائية لمتغيرات المسلمين المعاصرة ونوازلها العظيمة،على ضوء السيرة النبوية، فضلا عن معرض أدبي فني تصويري في أعلى ذُرَى الأدب والفن التي لا يُخْلَصُ إليها إلاّ من كان في نسيج سيد قطب الأدبي والفني.
وكذا لو أن مولانا الشيخ محمد متولى الشعراوي صَحِبَ مثلا خواطره في القرآن الكريم التي أطبقت آفاق العالم الإسلامي، ولا تزال تذهل كلّ ذي لب يسمعها إلى اليوم، في زمن " الهوائيات الدعوية "، و"العوارات والعاهات العقلية "الراتعة باسم الدعوة في عقول ونفوس المسلمين، التي خَلَتْ من المعاني السامية، والأفكار العبقرية، والرؤى الحصيفة، والنظرات النابعة عن عقول وقلوب راسخة في العلم، يفيض من جوانب عطائات الكبار الأفذاذ رحمهم الله. لو صحب خواطر الشيخ الشعراوي تلك مثيلاتها في السيرة النبوية، لنشأ للإسلام في عصرنا وما يليه كوكب دُرِّي يتلألىء دُرّا من الإشراقات والإدراكات والتفسيرات والتعليلات والحِكَمِ الفريدة، و "فقه سيرة " قد تَخْلُدُ في الدّهر، بأصول وقواعد ومناهج لمستقبل المسلمين المعرفي و الحضاري، وعُدَّة لمعادهم. يسند قولنا كتاب " السيرة النبوية " للشيخ الشعراوي في 551 ص ، أشرف على جمعه وإخراجه مركز التراث لخدمة الكتاب والسنة، أنجزه عبد الله حجاج، استخلصه من من تراث الشيخ الشعراوي المكتوب والمسموع، ثم رَكَّبَهُ وفق أحداث السيرة النبوية، فبدا كأنه مؤلف الشيخ رحمه الله .
وكذا ما كان سيأتي عليه فتوحات ابن باديس رحمه الله في " السيرة " بقرينة ميزات ما حفظ لنا من تفسيره.
والإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله على هذا النسق ؛ ف" التحرير والتنوير" و"مقاصد الشريعة " قصران منيفان شاهدان على عبقرية فذة في التاريخ العلمي الإسلامي في القرن العشرين، لم تُبَذْ أو تُدَانَى إلى اليوم . و إبداعاته و تآليفه في علوم الشريعة واللغة والبلاغة العربية، والإصلاح الاجتماعي والتربوي العلمي التجديدي براهين مؤيدة للقول : نشر وحقق ديوان النابغة الذبياني ،بمهارة فن التحقيق تضاهي صناعة كبار محققي مصادر الأدب والشعر العربي الذين خلّدوا فنّ التحقيق ، ورسوخ أدبي لغوي بياني خلّده تفسيره القرآن الكريم.
أما "شرح ديوان بشاربن برد" في جزئين من 659 صفحة من القطع الكبير، فيرقى من جهة قيمة الإنجاز العلمي الفريد، وإبداع الدراية والإحاطة والتعمق والتحقق والتفنن العبقري في صنعة الاستدلال والتسكين والنسبة ، والشرح والترجيح ، والاستنباط ، والمقارنة، والتوجيه إلى "التحرير والتنوير" .
مقدمة الديوان من مائة وعشرين صفحة ، دُرّةُ بحث أوعى ظاهرة "بشار بن برد " في تاريخ الشعر العربي بأدق وأرفع وأعمق ما لا أحسب مقاربا شعره تجرأ على مُسَامَقَة مقدّمة ابن عاشور . بَيَّن فيها قيمة شعره:"فليس بخاف على أحد ممن زاول أدب اللغة العربية مزاولة مغرم، ما يجده الأديب من الحسرة على نزارة ما بين يجيه من شعر بشاربن برد... ذلك الشعر الذي هو مظهر من مظاهر تحول الشعر اللعربي من طور إلى طور ، والذي يعدّ بحق واسطة عقدين تضم حواليها سمطي الشعر القديم والشعر الجديد، ويزيده كلفا به وتعطشا إليه، ما رأى من تهمم أيمة البلاغة لإلتقاطه بعد انفصام عقده وانفراطه" مقدمة الشرح ص6.
وعن عمله في الديوان يقول :" رأيت شعره مفعما بخصائص اللغة العربية، ونكت بلاغتها، ومحتاجا إلى بيان ما فيه من غريبها . فعلقت عليه هذا الشرح متوسطا بين التطويل والتقصير والاختصار، بينت فيه غريب لغته وخفي معانيه، ونكت بلاغته وأدبه، وما يشير إليه من عادات العرب وتاريخهم، وعادات عصره وتاريخ الرجالوالحوادث التي تضمنها شعره بالصراحة أو الإشارة . وخصصت الاستعمال العربي الفصيح بالبيان" م.ن ص05.
ثم اندفعت جحافل المعارف في شرح الديوان تتظاهر في تشييد مرجعية خلود أدبية ولغوية وبلاغية وتاريخية وكلامية وشرعية . تنتخب بسلطان قاهر من المُكْنَةِ اللغوية تَلَقِّى وتَعُلُّم أساليب البيان الصميم، حافلة باستنباط مظاهر العصر الاجتماعية والسياسية و الأخلاقية، و تجليات أنماط النفوس البشرية سلوكيا .
وتتلقانا شهادة صديق الشيخ ابن عاشور في الزيتونة طالبين فيها ثم عَلَمَيْن على أدراج العَلَمِيِّةِ، الشيخ محمد الخضر حسين، يقول :" والأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارة العلم وقوة النظر: صفاء الذوق ، وسعة الإطلاع في آداب اللغة العربية... ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه، وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم " الشيخ محمد الخضر حسين،: تونس وجامع الزيتونة: ص157.
قد يكون الشيخ محمد عبده بفطنته و حدسه، وخبرته بمواهب الرجال و ميزاتهم العقلية ، حدّد الموقع المنتظر للشيخ ابن عاشور ، فخلع عليه لقب "سفير الدعوة"؛ أثناء زيارته الثانية لتونس عام 1320ه ـــ 1903، لتعهد دعوته الإصلاحية فيها كما يقول أستاذنا الدكتور أبو القاسم الغالي؛في كتابه "محمد الطاهر بن عاشور، حياته وآثاره"، ص187 . و توطدت العلاقة بينهما. وإن كانت هذه " السفارة" لتمثيل دعوة "العروة الوثقى " الناطقة بدعوة الأفغاني وعبده رحمهما الله، فإن فراسته في ابن عاشور، يبدو أنها أبعد نظرا وتوقعا؛ بأن يُجْرِى الله على يدي هذا الفذ كنوزا معرفية وأعمالا إصلاحية تمدّ الإسلام والمسلمين ببناء حضارتهم الجديدة بِأَنْفَسِ المعادن التي يُخْلَصُ إليها من " التحرير والتنوير" و" مقاصد الشريعة" و روح الإصلاح التربوي العلمي في " أليس الصبح بقريب " و الإصلاح الاجتماعي في مؤلفه الجليل " الإصلاح الاجتماعي في الإسلام"، ومهادا للتعبير باللغة العربية، بأفضل أساليبها صفاء ووضوحا،وسلاسة، أعاد بها القرآن الكريم صياغة أساليبها صياغة جديدة، فاتحا لأهلها التطور بها وتطويرها وفق خصائصها، مجاورة القرآن الكريم، فَتُصَاغ بها حضارة تُمَثّلُ الإسلام في عصر الحضارات الجبارة .
هذه خطوة الإمام العملاقة التي يلحظها المتأمل بدقة في مقدمة شرح ديوان بشار بن برد، وتعليقاته عليه . إننا يقينا إزاء نمط فريد من الفكر المعرفي الحضاري العميق تقصيا، البَعِيدِ استشرافا واستهدافا . ولهذا نقول مطمئننا إن "وباء تخويخ اللغة العربية" الذي يجتاحها في العالم العربي، أخطر عدو يتربص بالأمة وجودا معتبرا، واقتبالا حضاريا يهدده ضمور "الهَمُّ الحضاري".