449

0

سادن المحرقة ..حين يحاكم الإسرائيلي نفسه

 

 

 

بقلم : د. منير الحايك ( روائي وأكاديمي)

 

عندما خلق غسان كنفاني شخصيات يهودية وحاورتها شخصياته الفلسطينية في نصوصه أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات، لم يكن الأمر سهلًا عليه ولم يكن قبول هذه الشخصيات سهلًا على المتلقّي الفلسطيني والعربي، وفي أيامنا هذه التي نعدّ شهداءنا بالآلاف منذ سنة ويزيد، بين لبنان وفلسطين، تأتي رواية "سادن المحرقة" (دار الآداب 2024) في ظلّ ظروف قد لا يقبل فيها المتلقي العربي أن يستمع إلى شخصية يهودية ويغوص في أعماقها وفي حسّها الإنساني ومشكلاتها وأزماتها وصراعاتها النفسية، بوصف ذلك الشخص إنسانًا، لا عدوًّا عنصريًّا قاتلًا مرتكبًا للمجازر.

 وقبل أن أدخل في تفصيل النص، سأبدأ من عبارة مُلِحّة رافقتني منذ الصفحات الأولى، هي ليست "قناع بلون السماء 2"، هي رواية جديدة بفكرة جديدة. فصحيح أن النصين يرتبطان بشخصيتي نور وأور، ولكنني لم أستطع اعتبارها جزءًا ثانيًّا، ولكن لا ألوم الدار والكاتب والمحرّر، فالأمور التسويقية لا بدّ منها.

هي قصة أور، الشاب "الإسرائيلي" (وهنا سأستخدم التسمية لأجاري النصّ لأنها كانت مبرَّرة) الذي انتحل نور الشهدي شخصيته، نعلم ذلك قُبَيل منتصف النص، أور الذي يتعلّم العربية مع معلّمته وصديقته مريم، ويزور طبيبته النفسية هداس على الدوام، لأنه يعاني كما يخبرنا النص من البوست تراوما، يكتب عن نفسه بطلب من طبيبته، ولكنه يعتمد الكتابة بضمير الغائب، ولهذا الأمر الكثير مما نعرفه فيما بعد. أور الذي أصبح يحلم بالعربية، والذي يخبرنا الكثيرَ عن حياته وعن ذكرياته وعن أزماته.

ولكن لماذا كتب عنه خندقجي بهذه التفاصيل، وأنسنه إلى درجة جعلنا نتعاطف معه ونقبله ونستمع إليه؟ أور الذي يشارك في حرب تموز في جنوب لبنان، والذي يُقتَل أخاه جدعون على يد المقاومة في الضفّة. أما والده، والذي يشاركه الكثير من الأحاديث والأسئلة الكبيرة عندما يزوره في المستشفى، لأنه في كوما منذ سنوات، فقد شارك في الحروب الأولى ومجازرها، ماتت أمه وجدته وجده بالكورونا وغيرها، تركته حبيبةٌ بسبب وضعه النفسي، وحبيبة أخرى عندما تكتشف بأنها مثلية...

يستمر بالسرد عن نفسه، ويكتب عنها بصيغة الغائب، إلى أن تأتيه أيالا، التي نعرفها من "قناع بلون السماء"، ومن هناك يأخذ النص منعطفًا آخر، حيث يقرر أور البحث عن نور الشهدي.  تركيبة سياقية ودرامية متوقَّعة، يتوقّعها القارئ منذ بداية الرواية، ولكن هل ستصدق جميع توقّعاته؟ يوهمنا النصّ بذلك، ولكن المتلقي ينسى أنه يقرأ لكاتب محترف، فبأسلوبه السلس والعذب، وبالواقعية التي توهم بالسهولة، يجعلكَ تظنّ بأنّك كنت تعرف ما سيحصل، أما لو توقّفت وحاولت التوقّع، فستقف حائرًا! عندها تعلم أنك مأخوذ بالسرد، ومأخوذ بالقصة التي، تعود بك إلى أحداث تعرفها سابقًا لو قرأت "قناع بلون السماء"، ولو أنك لم تقرأها، فلا مشكلة مع باسم خندقجي، لأنك أمام نصّ متكامل في عناصره وتشكيلاتها وعلاقاتها. وهنا أؤكّد على أننا نظلم "سادن المحرقة" عندما نربطها بسابقتها.  

عندما كتبتُ عن "قناع بلون السماء" قلتُ إنني بدأتها متعاطفًا مع الكاتب، ولكنني بعد صفحاتها الأولى نسيتُ التعاطف وأكملتُ مع حرفية عالية لكاتب مثقّف وصاحب همّ وقضايا كبرى، أما مع هذا النص، فقد بدأته معدًّا أسلحتي الهجومية إن هو لم يرتقِ إلى ما توقّعته وانتظرته، وهنا أدخل في تفاصيل التقنيات والجديد.  أقول إنني لم أتقبل التعاطي مع أور الإنسان في البداية، وقلتُ في نفسي إن الدار والمحرر قد عجّلا في النشر وإنّ هذه المرحلة ليست مرحلة القراءة عن أور الإنسان، ولكنني، وبذكاء الكاتب الذي لم يفاجئني طبعًا، عرفت ما يريد هذا الأسير أن يوصله إلينا.

فأن نستمع إلى هذا الإنسان، ونسمع منه أسماء الأمكنة كما يريد هو، ويستفزّنا هذا كله ونحن نقرأ، ولا يدافع أحد بقوة عن الأمكنة، حتى مريم لم يكن حضورها كحضور سماء اسماعيل، ولو أنها حضرت مثلها لكان الأمر مبتذلًا جدًّا، فكلّ شخصية كانت حاضرة لسبب.

أور الذي كان يحاور طبيبته، ويحاور مريم، ويحاور نفسه ويحاسبها، كان الغاية بنفسه، فكما جعلت الرواية من الشخصية الأوروبية تتبنى سرديتنا في "قناع بلون السماء" وتواجه أيالا بها، جعل خندقجي من أور، الجندي الأشكينازي، يحاسب تاريخه ويحاسب نفسه ويخبرنا بأن من أسباب معاناته أشلاء فتيات رآها بين يدي والدهنّ، فهل أعمق وأكثر جدّة من هذه المحاسبة والمقاربة والنقد اللاذع لسادنِ المحرقة ذاك، الذي لم يتوانَ عن الرجوع إليها واجترار سرديتها في كل مرة يواجَه بعنصريته ووحشيته وسرقته وتزويره!  لا نسمع نور الشهدي سوى ببعض الكلام الفكري الصعب باللهجة المحكية، وهنا لي مأخذ على الرواية، وخصوصًا أنها صرّحت بأنها جزء ثانٍ، فنور لا يشبه كثيرًا نور الذي ارتدى القناع، على الرغم من أن الأحداث تفصلها سنة أو أكثر بقليل فقط، وإن الباحث عن الآثار ذاك، وعن شياطين مريم المجدلية ليكتب نصًّا أدبيًّا يرد فيه على دان براون، حتى وإن كان مثقّفًا وقارئًا، تحوّل إلى منظّر يكتب كتابًا ويحكي في بودكاست عن الكائنات الكولنيالية بشكل عميق، هذا التحوّل وهذا الانفصال بين نور هنا ونور هناك لم يكن متوازنًا.

 عبارات كثيرة مستفزّة وردت في الرواية، معظمها وجدت لها تبريرًا داخل النص نفسه، خصوصًا ما يرتبط بما يسميه، وأسمته الرواية في بعض المواضع، بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تلك التبريرات كانت تأتي دائمًا على لسان أور، وخصوصًا عندما عاد إلى عنصريته وأصوليته وكراهيته، ولعلّ أعمق القصص التي قالها، قصة اغتصاب البدوية من قبل الناجين من المحرقة، عام 1948 في صحراء النقب، تذكّرها لأن ما استفزه أنهم قصوا شعرها، ولكن خندقجي أراد لهذا الشخص أن يسردها، وهنا القوة في التأثير، لو تُرجِم النصّ وقُرئَ في الغرب الآخذ بالتفكير بوجهات النظر المختلفة، إن لم نتفاءل كثيرًا ونقول الآخذ بالاستماع بشكل كبير إلى سرديتنا.

أما الفكرة الأكثر عمقًا، والتي تحتمل الكثير من التأويل، فعي عندما تأتي عبارة على لسان نور الشهدي "أحدِّق بالآخر من دون أن يراني لا لأصيره، بل لأتحرّر منه وأحرِّره مني". تنتهي الرواية مع ظهور سريع لشخصيَّتي سماء إسماعيل والأسير مراد الموسى، ورود اسميهما من خلال مقالتين كتباها عن نور الشهدي وأفكاره، وهنا قد يكون هذا من ضمن ما فهمه الكاتب عن التحول السريع في شخصية بطله نور، ولكن لا أظنه استطاع التبرير بشكل قويّ، بل جاء ظهورهما للتذكير بهما وللربط بين النصَّين لا أكثر.  أنهي بما بدأته، هي ليست جزءًا ثانيًا لـ"قناع بلون السماء"، بل هي رواية مستقلة بذاتها وبجديدها وبلعبتها الروائية وتقنياتها، سمعنا الإسرائيلي فيها يحاكم نفسه وتاريخه، وسمعنا مع مريم فلسطيني الداخل المتمسك بفلسطينتيه، وقرأنا نصًّا متماسكًا بأسلوب خندقجي الذي اعتدنا فيه السلاسة والانسيابية في السرد، والعذوبة في اختيار المفردات والصور، ولكنها، أي رواية "سادن المحرقة" تبقى نصًّا جديدًا يُضاف إلى نصوص السردية الفلسطينية، التي لن تُسكِتها سجونٌ أو قتل أو تدمير أو موت، فنحن نحبّ الحياة، إذا ما استطعنا إليها سبيلا...

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services