توفيت هذا اليوم السيدة الفاضلة و المجاهدة:*سليمة حفاف*حرم الرئيس المرحوم يوسف بن خدة، رحمهما الله برحمته الواسعة وأسكنهما الفردوس الأعلى.
ملخص تأبينية الفقيدة من طرف الدكتور عمار طالبي
———-
ولدت الفقيدة: سليمة في شهر نوفمبر 1927 بالقصبة العتيقة (01 شارع الإخوة عبد الرحمن) في بيت للأجداد و كانت أمها من عائلة "البشطوبجي" .
رُزق والدها، حسن الحفاف، محترف خراطة الخشب، ووالدتها، مليكة باشطوبجي، بأربع بنات: عائشة الكبرى وسليمة وفتيحة وليلى، وولدان: غزالي ورضا.
غزالي أغتالته فرنسا، أستشهد في مظاهرات 01 ماي 1945.
تنحدر عائلتها من الأندلس، فأحد أجدادها هو الشيخ علي بن الحفاف، آخر مفتي الجزائر العاصمة قبل الغزو الفرنسي. ويُعرف باسم بن حفاف الجزائري، وكان قاضيًا وعالما في علوم القرآن والحديث، ومرجعا للمالكية خلال الفترة العثمانية، وكان إماما بمسجد سيدي رمضان، وقد التحق بمقاومة الأمير عبد القادر.
واستمر في عمله إماما ومفتيا في مسجد السفير بالعاصمة، إلى أن وافته المنية عام 1890 (1307 هـ) وقد ألف عديد الكتب، منها "منة المتعال في تكميل الاستدلال في القراءات"، و"الدقائق المفصلة في تحديد آية البسملة" وغيرها.
وتجدر الإشارة أيضا إلى القاضي والمؤرخ عبد الرحمن بلحفاف (الذي توفي عام 1956 في الجزائر العاصمة)، أحد أعيان عائلة بن حفاف، وهو عالم يتقن اللغتين العربية والفرنسية، ومؤلف موهوب لدرجة أن الفاتيكان قام بحظر كتابه الذي دافع عن نبينا الحبيب في عشرينيات لقرن الماضي .
كما ألف عدة كتب بالفرنسية، منها: "مصادر الحضارة العالمية" عام 1952، و"مقدمة في معرفة الإسلام" عام 1921، هذا الأخير الذي.أعيد طباعته عام 2010 من المجلس الإسلامي الأعلى برئاسة الشيخ بوعمران.
وبعد إتمام التلميذة سليمة لدراستها الابتدائية والثانوية في حي الرويسو، تابعت دراسات القِبالة في جامعة الجزائر، لتكون ضمن أولى النساء الجزائريات اللواتي حصلن على دبلوم القبالة (التوليد)، حيث قامت بعد ذلك بفتح عيادة خاصة في حي رويسو (حاليا 234 شارع بلوزداد)، أين مارست مهنتها بتفان واكتسبت محبة الجميع،وحظيت باحترام وتقدير لجديتها وتفانيها وتواضعها.
استشهاد شقيقها غزالي:
في الأول من ماي 1945، ثكلت عائلة الحفاف بفقدان ابنها البكر محمد غزالي، الذي اغتالته القوات الاستدمارية الفرنسية خلال مظاهرة سلمية في الجزائر العاصمة،
تتذكر سليمة، التي كانت تبلغ من العمر حينها 17 عامًا، قائلة: "لقد نسجنا في المنزل العلم الأحمر والأخضر والأبيض مختومًا بالهلال والنجمة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يكتشف فيها الشعب الراية الوطنية،وكان غزالي أول شهيد للراية...
ففي شارع "إيسلي" (العربي بن مهيدي حاليا) على مستوى الكازينو، بالقرب من مقر المنطقة العسكرية رقم عشرين، أغلقت الشرطة الطريق أمام الموكب، وفجأة، ومن دون سابق إنذار، شرعت في إطلاق النار،واختلط الأخضر واليابس بدماء الشهداء.
وكان محمد غزالي بلحفاف، أحد قادة الدائرة لحزب الشعب، أول من يسقط برصاص الاحتلال، وقد كان رافعا الراية الوطنية،وتضيف شقيقته سليمة التي احترق قلبه على فراق أخيها في شهادتها التاريخية: "غزالي هو الذي لقنني مبادئ النضال، كان أخي ناشطًا في حزب الشعب في لجنة شباب بلكور بقيادة محمد بلوزداد، صديقه المقرب.. وكان يحضر إلى البيت جميع أنواع المنشورات عن الثورة والجزائر وتاريخها...
وبعد اغتياله قام الفرنسيون بدفن جثته في مقبرة العاليا دون علم الأسرة،وقام صديق للعائلة، وهو أحد حراس المقبرة، بإخبار العائلة بذلك بعد عدة أيام، وأبلغ الوالد عن المكان الذي دُفن فيه غزالي"، ليتم إخراج الجثة ونقلها إلى مقبرة سيدي محمد،وتفاديا للاشتباكات بين الفرنسيين وشباب حي بلكور ودفن الشهيد في سيدي محمد على عجل.
وحسب شهادة شقيقته المرحومة سليمة:"قام غزالي ومجموعة بلكور أيضًا بإخفاء أسلحة أحضرها بلوزداد عام 1943 في ورشة والدي تحت آلات خراطة الخشب،ولم يكن والدي على علم بهذا حتى سنة 1954 عندما جاء المجاهدون لاستعادة الأسلحة بعد حفرهم تحت آلات خراطة الخشب أمام أعين أبي حسن المشدوه المصدوم".
انخرطت المجاهدة "سليمة" في النشاط السياسي في سن مبكرة جدًا تحت تأثير شقيقها غزالي وأصبحت أمينة صندوق جمعية النساء المسلمات الجزائريات المنتسبات إلى حزب الشعب-حركة انتصار الحريات الديمقراطيةذ(MTLD)، التي كانت تترأسها ماميا شنتوف.
كانت تنشط برفقة شخصيات أخرى مشهورة، مثل مليكة مفتي (زوجة خان) ونفيسة حمود، سيدة لاليام مستقبلا. وتقول عن هذه الحقبة : "لقد أنشأنا هذه الجمعية لمواجهة النساء الشيوعيات بناءً على تعليمات من قادة حزب الشعب، وكنا نقوم بنشطات اجتماعية وتوعوية متعددة".
الزواج من بن يوسف
الأخ الأكبر لبن يوسف، براهم بن خدة، وزوجته بهية ووالدته حنيفة هم من سيأتون لطلب يد سليمة في عام 1954. لقد سبق وأن أخبر ، سيد علي عبد الحميد الذي كان يترأس آنذاك تنظيم حزب الشعب-حركة انتصار الحريات الديمقراطية، في بداية عام 1954، بن يوسف عن قابلة مناضلة في الحزب، شقيقة الشهيد غزالي الحفاف الذي سقط في ميدان الشرف أثناء مظاهرات 1 مايو 1945 في الجزائر العاصمة. كانت تساعده خلال معركة الجزائر وتنقله بسيارتها (سائقة) (chevaux 4): "والدتك هي التي علمتني السياقة"، كان يردد الوالد بابتسامة ساخرة. وكانت خلال معركة الحزائر عضوا في الشبكة الاجتماعية لجبهة التحرير الوطني، وعملت مع نفيسة حمود وبيير شوليه وناني بودربة. وتقول في شهادتها عن هذه الفترة التاريخية الحاسمة:
"كنا نعالج الجرحى وننقل الحالات الخطيرة والأدوية إلى المستشفيات الميدانية وإلى أطباء، خاصة من الفرنسيين. واتفق أن وزعت وأوصلت وثائق أو منشورات أعطاني إياها بن يوسف، وفي بعض الأحيان كنت أعمل سائقه في تنقلاته في الجزائر العاصمة".
الاعتقالات والتعذيب
اعتُقلت سليمة عام 1956 في "قضية بنعلا" وسجنت في وهران مع إيفلين لافاليت وابنتي الدكتور لاريبرت، وأُطلق سراحها بعد شهرين من الاحتجاز.،واعتقلت للمرة الثانية في مارس 1957، واحتجزت لمدة 21 يومًا في فيلا Susini سيئة السمعة(مركز للتعذيب)، وفي مقبرة الأحياء هذه كادت أن تفقد حياتها لولا إيمانها الراسخ وشجاعتها وصلابتها، وتروي عن مأساتها على يد جلادي الاحتلال، قائلة:
"كان المظليون يبحثون عن معلومات خاصة عن بن يوسف.. وكانوا يأخذونني في الليل إلى التحقيق باستخدام الكهرباء والماء و قبل ذلك يدفعونني في درج مرتفع و انا متعصبة العينين و اسقط على وجهي في الدرج و هكذا حتى وصولي الى مكان التعذيب الموجود تحت الأرض في الطابق الأسفل ... وفي النهار يضعونني على سرير عسكري في ممرَ خارج الزنازين التي كانت ملأى، وكان المعذبون والضحايا يمرون أمامي طيلة اليوم، خاصة عند عودتهم من "الاستجواب".. كان الأمر مروعًا! وكثير منهم لا يعود. وأتذكر مجموعة من الشباب من بلكور أخذهم السجانون فجرا إلى شاحنة ليختفوا بعد ذلك إلى الأبد..".
اعتُقلت المجاهدة سليمة بعد ذلك في معسكر باسي (Camp Basset): ثكنة فرز في بني مسوس.. "التقيت ببعض المعارف هناك مثل سحنون حميدة، والدة الشهيد نصيرة نور الدين (نصيرة نونو)، و تمكن والدي أخيرًا بعد أكثر من شهرين من الاختفاء من تحديد مكاني عن طريق السجين رباعين أوزغان الذي أخبر زوجته فطومة أوزغان عني خلال إحدى الزيارات، تجملت بالصبر وقاومت بثبات معاناة السجن، وهذا بفضل الإيمان والصلاة والأنشطة المكثفة التي شغلنا بها وقتنا في هذا المعسكر الكئيب، كنت أقدم الإسعافات الأولية للجرحى والمرضى.
كانت هناك فتيات في السجن معنا، وبعضهن لم تتجاوز الثانية عشرة ربيعا، أعلمهن الخياطة والقراءة والكتابة، أتذكر إحداهن، فتاة تبلغ من العمر 12 عامًا، كانت قد تظاهرتُ (تمويها) بالتعامل مع الفريق السيكولوجي العسكري بالمخيم،إذ كان ينظم المسؤولون عن المخيم بين الحين والآخر حملات دعائية نفسية مخصصة للمعتقلين. علمنا لاحقًا أنها ظلت وفيَة للثورة، واستشهدت بعد مغادرة المخيم مباشرة، فقد اختبأت عند مدخل مبنى من المظليين وانفجرت القنبلة التي كانت تحملها في يديها،وكان هناك أيضا عدد قليل من الفتيات المنحرفات اللائي قُبض عليهن في شبكات جبهة التحرير الوطني التي كنا نحاول ردَهن إلى الطريق القويم.
وبعد قرابة عامين، أُطلق سراح سليمة من المخيم ووضعت قيد الإقامة الجبرية،وتقول عن هذه الفترة، إن "والدي رفض بشكل قاطع أن أذهب وأوقع في مركز شرطة الحي كل يوم كما كان مطلوبا... كنت مريضة جدًا عند مغادرتي المخيم، فقدت 10كغ، ربما أشبه بهيكل عظمي.. اتصل رودوسي، أحد الوجهاء وصديق العائلة، بمحافظ الجزائر ليطلب منه الإذن حتى أتمكن من الذهاب إلى فرنسا لتلقي العلاج..
ردَ المحافظ قائلاً: "لا يمكنني منحها تصريح خروج لكن يمكنني ترحيلها"، وهكذا وصلت إلى مرسيليا على متن سفينة بضائع"،كانت هذه هي المرة الثانية التي أسافر فيها إلى الخارج، كانت الأولى قبل الثورة مع مجموعة من النساء من الحركة الوطنية PPA/MTLD،
كنا نرافق ناشطات شابات بمن فيهن الشهيدة حسيبة بن بوعلي".
وتسترسل في الحديث عن سفرها الثاني هذا، موضحة: "هذه المرة كنت برفقة راهبة (مُنصرة من "الأخوات البيض" كما يُطلق عليها) صديقة السيدة شوليه. ثم ذهبنا إلى باريس بالقطار.،قضيت عدة أيام في دير الراهبات وبعدها غادرت إلى جنيف بالقطار، بمساعدة السيدة لوانشي آن ماري (أخت بييار شوليه) وزوجة صلاح لوانشي (الذي كان مسجونا في باريس)، وتحت العين الساهرة لمحامية شاركت في الرحلة.،في جنيف، اتصلت بمسؤول في جبهة التحرير الوطني في سويسرا، رتب لي رحلتي إلى تونس عبر روما، حيث اعتنى بي الطيب بولحروف، ممثل جبهة التحرير الوطني في إيطاليا، ثم وصلت أخيرًا إلى تونس حيث كان بن يوسف وزيرًا للشؤون الاجتماعية في الحكومة المؤقتة".
وُثَق الزواج بين سليمة وبن يوسف بن خدة في 22 شوال 1378، 22 أبريل 1959 بتونس، وكان شاهدا عليه كل من شوقي مصطفاي كولي، وأحمد بودربة، مصطفى فروخي وعبد الكريم بن خدة، ابن عم بن يوسف.
ثم كان النشاط الدبلوماسي المكثف لبن يوسف والرحلة إلى مصر، فالجولات المتلاحقة، ثلاثة أشهر في أمريكا اللاتينية، شهران في آسيا، فالبلدان العربية إلخ...قام التنظيم الإرهابي "منظمة الجيش السري" OAS بتفجير شقتها في عام 1961، وتقول في هذا مازحة: "كان هذا هو مهر وهدية الزفاف من والدك....وأكملناها بشهر العسل في فيلا سيزيني".،استعمل الإرهابيون الفرنسيون مفرغة القاذورات (vide ordures) ليوصلوا القنبلة إلى الشقة، وقاموا بإخراج كل سكان العمارة إلا أبي كان داخل الشقة وكاد أن يهلك مع الانفجار، وكان أغلب سكان العمارة من الأوروبيين، ولم يجتهد أحد من الجيران بعد علمهم مسبقا بالعملية ليخبر أبي، وكانت القطيعة نهائية بين الأوروبيين والأهالي رغم عقود من العشرة...
وستكون السند الوفي الثابت الصلب الثابت للرئيس بن خدة في أصعب الأوقات، خاصة في أزمة عام 1962 وما بعدها.