4855

5

المتوكل طه:"هاذان العاملان هما مَن أنتج لي قدمين, في بحر الكتابة والشعر".

الشاعر والأديب الفلسطيني في حوار خاص لبركة نيوز

 الشعر نافذة الروح وتعبيرا عن خلجات النفس البشرية ولطالما كان الشعر حاضرا في الحرب والسلم عبر عصور، ولا يزال في فلسطين متنفسا للتعبير عن القضية ووسيلة للبوح ، ومن فلسطين و في رحلة أدبية ممتعة كان لنا حديث مع الشاعر المتميز المتوكل طه.

حاوره الحاج بن معمر 

كيف بدأت رحلتك الأدبية؟ وما الذي ألهمك لكتابة أول عمل لك؟

أول ما تفتّحت مداركي وفتحتُ عيني وجدت مكتبة ضخمة في صدر العقد وهو البيت القديم، تلك الكتب كان قد جمعها والدي رحمه الله من جده الذي كان خطيباً للمسجد العمري, ووالدي ايضاً كان شاعراً, فيما بعد، بعد رحيله جمعت له ديواناً واسعاً, حتى بعض قصائده منقوشة على بوابات المسجد القديم في قلقيلية، ابيات دينية .. هذه الدواوين، هذه الكتب المجلدات البنيّة الجلدية الضخمة، هي ما حفظ منه أشقائي الذين معظمهم يكبرونني، حفظوا منها الكثير من الأبيات والقصص وكانت تسليتهم المسابقات الأدبية.

وتأصّلت مداركي على هذا الايقاع الذي سمعتُ به منذ أن كنت رضيعاً، بالتالي هذا فتح فضاءات مبكّرة وأحسستُ بأنني أُجنّح مع ما أسمع، لم أكن مدركاً للمعنى، لكنّي كنت أُجنّح مع هذا الايقاع ويبدو أن هذا الايقاع أيقظ تلك الجمرة التي مازالت تَخِرُّ في شراييني إلى أن وقعت حرب 67، فأحسستُ عندها بأن بسطار هذا المحتل الفاشي قد سحق جبهتي وقد جعلني انتبه من جديد للذي هجّرَ طفولتي، وللأمر الذي وضع أمامي أسئلة كبيرة مبكراً.

واعتقد أن هذا هو العامل الثاني الموضوعي العام الذي أيقظ في داخلي الأسئلة ومحاولة الإجابة ، بعد أن ترسّخ وتعمق في داخلي العامل الذاتي الأول وهو المكتبة والبيئة الثقافية, هاذان العاملان اعتقد هما مَن أنتج لي قدمين, أرجو أن يكونا ثابتتين في بحر الكتابة والشعر.

وفي المرحلة الاعدادية كان هناك مجلة حائط في المدرسة،المدرسة السعدية الثانوية، وكان الطلبة يتنادون للمشاركة في كتابة ما يجول في خواطرهم. أذكر أنني تأتأت ببعض الابيات الشعرية ونشرتها على مجلة الحائط, وفُوجِئت أن هناك معلم قد أثنى عليّ وربت على كتفي ، وهذا ما جعلني أتشاوف على أترابي حينها بأنني اصبحت شاعراً. لكن البيئة الذاتية في البيت لعبت الدور الحاسم في إيجاد هذا النسغ الذي لولاه لما أصبحتُ شيئاً في عالم الكتابة، بالتالي أنا اتمنى على كل الآباء وربّات البيوت أن يصمموا بيوتهم ليس لما يحتاجه الجسم من البطن وما دون ذلك، بمعنى يجب أن تعطي الرأس حقّه في مكوّنات البيت ، وحق الرأس هو المكتبة.. للأسف نادراً ما تجد في بيوتنا مكتبات، المكتبة في أي بيت تلعب دورا عميقا وعميقا جداً في انتاج نماذج ابداعية .. والكتاب والفيلم واللوحة والمسرحية وكل مكونات الإبداع .. باعتقادي هو الذي يشحذ تلك الفحمة ويجعلها تتوهج.

وأتذكر أنني كتبت في استشهاد إمرأة مع طفليها، كنت وقتها في الثالث الاعدادي ورأينا آثار حافلة اسرائيلية  توجهت نحو إمرأة تمسك بطفليها تسير على الرصيف، حيث قام السائق بجرفها، فذهب الناس ولمّوا بقايا اشلائهم عن الطريق، وكيف خرجت المدارس أيامها بمظاهرات وكانت أول مرّة أعتقل.

وأُعتقلت وابهظوني ضرباً طبعاً، لأنهم أمسكوا بنا ونحن نرمي الحجارة بالمظاهرة. هذه المشهدية توازيها وتتماهى معها وتتضافر معها وتجالدها وتجادلها مشهدية أخرى هي مشهدية البيارات، المزارع، الصحب الذين ينسربون تحت الشجر يقطفون الجوافة والمندلينا في احضان الطبيعة، فهذه هي اللوحة التي اقتطعها الله سبحانه وتعالى من الفردوس وأهداها إلى فلسطين.

والتحقت بجامعة بيرزيت ..وعندما جئت إلى بيرزيت كانت الموهبة الشعرية قد بدأت تتبلور !

كنت وقتها في المدرسة، في كل صباح كانوا يأتوا لنا بمايكروفون حتى يلقي أحدهم خطاباً، فغالباً معظم الأيام كنت أنا من يلقي،فكنت أقوم بتحضير أبيات شعرية أو نص نثري ألقيه على الطلبة وكان الأساتذة كثيراً ما يعالجون لي هذه الأبيات ويصحّحون ما فيها من أخطاء بشكل عام في العروض أو في النحو أو في الصرف. وفي بيرزيت تخرج من قمقم، من كهف إلى رحاب منفتح على كل ما هو متخارج مع العالم كله، بالتالي بيرزيت أيامها كانت خلية نحل، مرجل، فجأة أنت توضع في هذا المرجل.

طبعاً, كانت ذلك في العام  76 بيرزيت وكانت الجامعة "مرجلاً"،  بالضبط مرجل يغلي، يتضوّر بهذا الصخب وبهذه المجادلة الفكرية والوطنية والسياسية العميقة والشاملة والمسؤولة والواعية، وأعتقد أنه خلالها تخلّصتُ ما أمكن من كثير من الشوائب .. وأول ما فعلته بيرزيت أنّها رجّت وعيي، رجّت المُسلّمات فيّ، صدمتها وهزّتها وزلزلتها ووضعت أمامي إجابات أخرى، وكانت بيرزيت لديها ما يُسمى في الفكر الغربي الآن بالأسئلة اللامتناهية. بالفعل وصلت جامعة بيرزيت في السبعينيات إلى مرحلة الأسئلة اللامتناهية، كان لاشيء يقف أمام الأسئلة، ولا يوجد مقدّس، فالأسئلة مفتوحة على كل شيء، وأنا اعتقد هذا دليل عافية، وأنا مع هذه الأسئلة المفتوحة ..غير المسقوفة، حتى يجد الإنسان فرصة ليتعرّف على بطاقة هذا اليساري، الفكرية والاجتماعية والسياسية، ويتعرّف على بطاقة الفتحاوي السياسية والوطنية والاجتماعية والنفسية، وعلى الأخونجي والمركسي والقومي.. وبالتالي كل هذا الثراء .. أنا أعتقد سيؤهّله وينضجه لأن يكون اختياره أكثر وَعياً.

وشكلت جامعة بيرزيت حاضنة ثقافية وإبداعية طوّرت موهبتي من خلالها ..

 

*ما هي الموضوعات التي تفضل تناولها في كتاباتك؟ ولماذا؟

كنّا كوكبةً من الشعراء الذين أنبتتنا الضرورة،تحت الاحتلال،وكان لزاما علينا أن نتناول الموضوعات الوطنية التي  تتفجر في وجوهنا وبين أيدينا، غير أن شِعرنا كان أقرب إلى النشيد بإيقاعه العالي وغنائيته المتدفقة.

وإذا لحقنا نحن شعراء نهاية السّبعينيّات وبداية الثمانينيّات في الضّفة الفلسطينية الرازحين تحت الاحتلال ما لحقنا من نقدٍ كان بجانب ظلمه وعسفه مكروراً ومعلّباً وجاهزاً لأن يلطمنا، ويشيع اليأس والإحباط فينا،على اعتبار أن شعرنا مليءٌ بالحجارة والصّراخ والدّم،وأنه شعرٌ "مباشر وخطابي وفجّ"، وأن هذا الشعر يحتاج إلى عقد أو أكثر من الزّمن حتى تتم عملية (تنظيفة) من الحجارة!

ربما لم يكن كلّ هذا الكلام خطأً،لكنه انطلق من خطيئةٍ هي أن أولئك النقّاد لم يفهموا ظرفنا الموضوعي ووحي الموقف الذي فيه اجترحنا قصائدنا،ولم يدركوا أننا جيلٌ نبتَ كالزّهر البريّ دون رعايةٍ أو اهتمامٍ أو ضوء،بل كنّا محاصرين وملاحقين،نكتب سرّاً ولا نجد من ينشر لنا،ولم نتمكّن بعدُ من التخارج مع محيطنا العربي والإنساني نقداً وثقافةً وتثاقفاً.

وحتى لو كنّا في "غفلتنا" تلك،وهي ليست كذلك،نكتب ما كتبنا،واقترفنا تلك "الآثام" الإبداعية،فإننا كنّا نتوقع أن لا يتمّ إعدامنا،أو الحكم علينا دون استئنافٍ لأن شِعرنا ليس بشعر، ذلك أن النقد ليس لغةً إعداميةً أو اتهاميّة بقدر ما نعتقد أنه عملية (إصلاح)؛أي أنه كان على أولئك المتشدّقين أن يقوموا بعملية (استصلاح) نقدي،تجعل تُربتنا الشعرية أكثر ثراءً وعطاءً..باختصار كانوا ظالمين!

واليوم،وقد قطعنا أكثر من أربعين عاما من تجربتنا،فإننا ننظر إلى الخلف باطمئنانٍ ورضى نسبي،بل براحة ضمير،ولا تنظر إليه بغضب كما نظر (جون أسبور) الإنجليزي في مسرحيته الشهيرة،ذلك أننا خرجنا من "ضرورتنا" وأدركنا "مهابطها"،وأفدنا ما استطعنا من الانفتاح النّسبي دون أن نتخلّى عن كتابة ما يلزم بجرأةٍ وعنفوانٍ وغضب؛ذلك أن الظرف المعيش المتفجّر ما زال يعيد دورته بالقسوة ذاتها، وما زال هذا الواقع ينظر إلى ذلك الشِعر الذي أرّخ وشحذ وكان سلاحاً آخر في وجه المحتلّين،الذين لا يزالون يعبّئون ويلغمون هواءنا ويخنقونه بالغاز المسيل للعار،ويقطعون رؤوس الشجر والبشر،ويُعدِمون على الحواجز الرُّضع والطيور،ويبيدون البلاد والعباد..ولأن أمهاتنا مازلن يعجنّ حناءهن للشهداء،ولم نبرح بيت العزاء بعد!

*كيف ترى مستقبل الأدب الفلسطيني في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية الحالية؟

إن الأدب الفلسطيني تعبير عن ضائقة – في أكثره – وشعرنا في أكثره شعر ضحايا،إن ذلك يدفعنا إلى فهمه من منطلقه التاريخي ودوافعه السيكولوجية وبيئته السوسيولجية الاجتماعية،على أن لا نغفل بالضرورة جمالياته وبلاغياته،ولا أن نغض البصر عن لغته وكيفيات استخدامها وطاقاتها.

الأدب يكتب أولاً وأخيراً ليكون ذروة التعبير عن الإحساس،أي أنه يدخل منطقة الفن،وكل ما يدخل هذه المنطقة يجب أن يحاسب بمعاييرها،ولكن هذه المعايير،أيضاً،هي بالأساس "رؤية" ليست إلا.

إن المنهج النقدي – ومهما ادّعى من علمية – سيؤسس بالضرورة على الذائقة،ومن هنا،فإن المناهج النقدية التي ادعت العلمية أبهرتنا بتحليلاتها ولكنها لم تضف إلى ذائقتنا الكثير.

نحن،هنا،نحاول أن نكون "علميين" على أن لا نفقد "ذوقنا" في الاستحسان والاستقباح.

لا نستسلم للنصّ،ولكن ذلك لن يعمينا عن رؤيته ضمن زمكانه،ولن نستبق الأحكام – باسم العملية – حتى لا نرى الجمال في النصّ الذي أمامنا.

شعر الضحايا يجب أن يدرك بطريقة أكثر من "علمية"،وأن يتذوق بعيداً عن "الإحصاء" أو "حساب الكميات".

كان شكل القصيدة ولغتها وموسيقاها وصورتها الشعرية تعبيراً عن تغيّر تاريخي بالأساس،هذا التغير الذي خلق صورة شعرية هي جزء من رؤية العالم الذي تغيّر،هذا ما حاولنا أن نتتبعه وأن نلمسه وأن نتذوقه،كان في بالنا مناهج النقد ولكن – بالدرجة نفسها – كانت عيوننا وقلوبنا على النصّ.

والآن؛وبعد هذا العدوان على غزّة،وبعد ما أفرزته نظرية الرّعب الصهيونية من نتائج،وما آلت إليه الحال في قطاع غزّة..سنرى،بعد أن تهدأ المدافع،واقعا جديداً مهولا ومخيفا وصادما،وسنقرأ نصوصا،وستُكتب أخرى،ستكون معجونة بالدماء والحسرات والحطام والهباء والدموع،كما ستكون مطعّمة بالعبقرية والأساطير والحدّة والمفارقات والتميّز والذهول..ما يجعلنا لا نتعجّل في إطلاق أيّ حُكمٍ نقدي ،لأن ذلك استباقا للحقيقة،على رغم توفّر كمٍّ كافٍ من الشواهد الإبداعية،التي تمثّل إرهاصات لظاهرة جديدة في الأدب الفلسطيني،هي "أدب الحرب".

وأعتقد أن القصص والحكايا ومجريات كثيرة..ستكون معينا لا ينضب لأدب لا يشبه غيره،يغري بالتسجيل أو البناء عليه.وعليه؛أتمنى على الدارسين اعتماد تسمية "أدب المذابح أو المجازر" لآلاف المجازر،التي ارتكبتها الصهيونية بحقّنا،وما كُتب عنها في تاريخنا المعاصر،مثلما لدينا "أدب السجون" و"أدب المقاومة" و"أدب المنفى"..الخ.

 تفاعلتَ مع طوفان الأقصى إبداعيا، بعملين،الأول هو كتاب "دم النار: توقيعات على جدران غزة"،والثاني رواية "أخبار نصف جيدة"،هل يمكن وصف ذلك التفاعل بالمتعجل بما أن الأحداث المرتبطة بذلك الطوفان لا تزال ملتهبة، بل وتتوالى من دون أن تبدو لها نهاية وشيكة، أم أن ذلك التفاعل اتكأ أصلا على خبرات متراكمة، تتسق مثلا مع مقولة ما أشبه الليلة بالبارحة، فانتفت عنه صفة التعجل؟

حلقات الإبادة بحق شعبنا قديمة، تشتد وتخفت، لكنها بعد الطوفان اتخذت منحى مهولا صادما، استبدلت من خلاله "اسرائيل" استراتيجية الحسم التدريجي بنظرية الرّعب،ما يجعلنا لا نتفاجأ بكل أشكال الفناء الفاشي الاحتلالي، فهو صورة مكررة،وهذا ما يفسّر الصمود والمقاومة الفلسطينية التي تعدّ نفسها دائما للردّ..

وأرى أننا لا نملك متّسعا من الوقت لنتأمّل،لأن غزة تُباد، وتغرق في حمأة المحرقة، وتتوزّع أهواؤها في تعافر المقتلة وأشلائها، وهي بحاجة إلى مَن يحدو مظلمتها غير المسبوقة، ويسجّل كامل المشهد، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، حتى لا تتبدد التضحيات الجسام، وحتى يبقى هناك شاهد على المجازر الوثنية التي دمّرت وسحقت ومحقت الحياة بكل مكوّناتها، والنصّ خير مَن يقوم بذلك، شرط أن يختمر،ولا يقع في شِباك الكتابة الميدانية الصارخة والمباشرة.

فالشِعر الكبير يصدر عن مأساة ما، لها ما يشبه الأحداث الاسطورية أو الفنتازية غير المعقولة، أو أن هذه الأحداث تتعمق وتتلوّن لتصبح أسطورية تدعم مأساتها، وهكذا يصبح الشعر كبيراً بالحدث الكبير،ويتحول الحدث إلى كبير،بالشعر الكبير.وكأني بالشعر لا يقبل هذه العادية ولا هذا المألوف حتى في التفاصيل التي تعصف بنا جميعاً.

ويمكن أن يُصاغ الكلام السابق بلغة أخرى؛ذلك أن الشاعر الحقيقي يَنْقَضُّ على واقعه ويَنْقُضُهُ، ويحيل ركامه الرمادي المهشّم والمهدم الى بنيان مدهش لا يمت إلى الواقع الأول بصلة، وكأن ميلاد الشاعر ايذانٌ بالتحول، وكأنه الحجر المتيقظ يُقذف وسط بركة راكدة، فنكتشف الأمرين معاً،الحجر الذهبي والبركة الآسنة، هكذا هم الشعراء المكرّسون دائماً، يضيئون ما حولهم، يكشفون ويدمرون،ويرممون،ثم يمضون.

إن الجروح التي يفتحونها وتلك التي يداوونها تشكل فتحاً آخر من فتوح الروح على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي كذلك.

أما الرواية، ببساطة؛ فإنها تجمّع حكاياتنا الصغيرة لتؤلّف منها الحكاية الكبيرة التي تجمعنا معاً، والعمل الروائي يكتشف فينا المشترك والعام والأصيل والحقيقي والجميل..بكلمة أخرى؛إنه يكتشف الجماعة فينا،ويكتشف أجمل ما في تلك الجماعة من خصائص،وهو بحفره عميقاً في تجربته إنما يقوم عملياً بعملية حفر معرفية وجمالية ونفسية في أعماق أعماق جماعته،وهو بهذا إنما يقوم بعملية من أمتع الرحلات وأكثر المهمات تعباً وجمالاً،لأنه يعيد جماعته الى نفسها،ويضيء حاضرها بماضيها،ويزاوج بين أرواح أسلافها وأحفادها،ويؤلّف بين تاريخها ومكانها،ويصوغ العلاقة الأبدية ما بين الجماعة ورؤاها واجتهاداتها الروحية والعقلية داخل شرطها الزماني والمكاني.

باختصار؛الكاتب الحقيقي يعيد إلينا ما نسيناه عن أنفسنا، وما تصورنا أننا لم نعد نحمله أو نتميز به أو نعتد به، وينبهنا الى ما يمكن أن نصير إليه أو نحققه،إنه يكتشف المهمل فينا،المهمل الذي لا نريد رؤيته،والمهمل الذي لا نستعمله،المهمل الكريه،والمهمل الجيد،وبهذا يتحول الكاتب إلى دليل إثبات للجيد،ودليل إدانة للكريه في الوقت ذاته.

ولا يمكن للنصّ،عموما،أن يتحول الى رموز رياضية مكتفية بذاتها، الابداع،أولاً وأخيراً،دلالات وإحالات،والدلالة كما الإحالة تحتاج الى تاريخ روحي ومزاج صاغه المكان والجهد.

والنص يفشل عندما يفقد البوصلة، ويقطع الصلة بالتاريخ والتجارب المتراكمة والرموز المثقلة،وبما أنجزته روح الجماعة على مدى كينونتها.

 

 في العملين تحضر غزة، وهذا له منطقه بما أن هذه المدينة وغيرها من مدن القطاع المفصول قسرا عن الضفة الغربية تواجه حرب إبادة ممنهجة، ومع ذلك هل يمكن القول بأن التركيز على غزة إبداعيا وإعلاميا، قد يرسخ ذلك الفصل الذي يعكس أيضا انكسار وحدة الصف الفلسطيني، سياسيا، وربما ثقافيا أيضا؟ 

الفصل مصطنع ولحظي،ولا ينهض على أسس مبرّرة وراسخة، فهو تفصيل سياسي ينبغي تجاوزه وعدم التعاطي معه،لأنه صناعة إقليمية مشبوهة، وغزة مثل القدس ويافا ونابلس وجنين..لا فرق.

لكننا نركّز ،الآن، ونضيء غزة لأنها مهددة بالإلغاء والشطب، وأعتقد أن المثقف عليه أن يعمّق المشترك الوطني والقومي،وألا يذهب نحو التشققات التي تهدد الهوية الواحدة، وتعمل على تفتيتها إلى هويات فرعية متغايرة.بل إنني أؤكد،حتى في كتاباتي السياسية،على ضرورة وأهمية وحدة الوطن،ووحدة الشعب، القضية،ووحدة النظام السياسي،وعلى مبدأ المقاومة واجب الوجود.

  هل هناك أحداث معينة في حياتك كانت محفزًا لكتابة بعض أعمالك؟ وما هي التحديات التي تواجه الكتاب الفلسطينيين اليوم؟

أول مهمات المثقف هو أن يحقق "التجاوز"،بمعنى؛أنه لو كان في الجنّة عليه أن يتطلع نحو الفردوس الأعلى، وهذا لا يتأتى إلا بالنقد،أي أن يكون المثقف نقديا،موضوعيا،يبحث عن الثغرات والمهابط وهوامش الخطأ، من حوله، ليجعل منها اشتعالات ومدارج للصعود والتطهرّية.

فالخطأ الوحيد الممكن إصلاحه هو مَن نعترف به، لهذا ينبغي أن تبقى حالة النقد ،دون أن تفتر،  وإن الإشارة إلى هوامش الخطأ فينا لا تعني إغماض العين عن اجتراح المعجزات التي تدبّ صباح مساء هنا وهناك، غير أن هدف الكتابة ليس المديح، بقدر ما هو كشف للواقع المعيش وتجاوز له.

 وفي السجن،الذي ألهمني الكثير،كانت أفكارُنا تهربُ من وراءِ القضبان، وقلوبُنا ساخنةً مثل غيمةٍ ملتهبة، وتجاوزنا مرايا الغموض، التي لا يتألّق فيها أحد، وتجاوزنا الهاويةَ الداكنة.

لم نكن نريدُ أن نسحبَ أحداً إلى نهرِنا، غير أنَّنا كنّا في حربٍ مع التاريخِ، ومع جميع السلطاتِ التي تُقيمُ في أشكالٍ فاشيّةٍ ومخيفة، ومع ما يُقيّدُنا مع مخاوفِنا الخبيثة.. وأردنا لصورتِنا أن تكونَ ضدَ السماء الساكنة، لأن هدفَنا الأغلى والأعلى، كان وما زال هو قوّة الحقيقة، مثلما أردنا أن ننامَ، فقط، لنُسَلِّمَ أنفسَنا للحالمين، كما رغبنا أن نلتقي غزالةً نعصرُ خصرَها مثل الأكورديون.. تحت زيتونةٍ تتربّعُ على كرسيّ الأبد. 

لعل المثقف الذي ما زال محاصراً من السلطة والأحزاب ورجال السياسة والعشائرية والجغرافيا والدّين الوظيفيّ والمتطرّفين،قد تمّ امتصاصهُ واحتكاره من "السلطات" التي تمارس كل أشكال الترويع والإجهاض والاستلاب.

بمعنى أنه يتمّ إجهاض المثقف بوضعه في قوالب من الرتابة والتقنين،كما يتمّ إلزامه تحت وطأة الوظيفة،والسعي إلى لقمة العيش،والخوف على وظيفته،كما يتمّ فرض الصيغ السياسية والاجتماعية والفكرية عليه،ليؤمن بها ويتبنّاها ويقوم على تعميمها.

المثقف الذي عاش دون روافع وقوانين تحميه وفضاء حُرّ،يناضل حتى يتحقق هدفه،ذلك لأن الإبداع هو الأرض الأخيرة التي يمكن أن يحلم عليها،ويتطلع ليرى مبادئه وتطلعاته على طريق التحقّق والحضور.

كون المبدع أقرب إلى الحريّة عندما يواصل دوره في الاصطفاف مع الناس والتعبير عنهم،أي أن الإبداع هو الحرية.

أما إذا توقف المبدع عن مهمّته،فإنه يتوقّف عن الحرية،ويدخُل في عتمة العبودية،أقصد عبودية الواقع المحكوم بقبضة النظام المُتسلّط،أيّاً كان!. كما أن انحياز المبدع مع أهله وجمهوره لا يكون مجرد تعاطف،بقدر ما هو موقف راسخ ومبدئي وحاسم،يجب أن يتجلّى،وفي كل الأحوال.

كيف ترى دور الأدب في تعزيز الوعي الثقافي والاجتماعي في المجتمع الفلسطيني؟

أو هل تتفق مع الرأي القائل بأن الأدب في الحالة الفلسطينية لا بدَّ أن يتّخذ سمة المقاومة

ما دمت تحت الشرط الاحتلاليّ فأنتَ لستَ حيادياً،ولا تملك رفاهية الاختيار،ساعة المواجهة الفارقة، فإما أن تكون مع نفسك وشعبك ووطنك،أو مع أعدائك، ولا توجد،هنا،منطقة رمادية.

وفي فلسطين الرازحة تحت احتلال إحلاليّ يفرض استراتيجيات حاسمة ضدنا،لاقتلاعنا وتذويبنا والقضاء على قضيّتنا،لا بدّ من تحقيق نظرية التحدّي،بكل مكوّناتها،لمواجهة الاحتلال وأهدافه،وهذا لا يكون إلا بإشاعة وممارسة المقاومة،بمعناها الواسع والشموليّ.أما دون ذلك فسنجد أنفسنا خارج الزمان والمكان والتاريخ.

وهذا لا يرتبط بوقت محدد أو بزمن الثورة والمقاومة، بقدر ما ينحاز المثقف دائماً لشعبه وتطلعاته، منشغلاً بأمرين على الأقل:أولهما الاصطفاف مع الناس دون تردد أو تبرير، وثانيهما أن يعبّر بإبداعاته عن روح (شعبه)أي الناس وأحلامهم، بعيدا عن الفصائلية والجهوية وأهواء السياسيّ.وأعني بالمثقف هنا كل من انشغل أو اشتغل بالإبداع،دون إغفال لأي صورة من صوره.

وفي كل مقاومة تتغيّا مواجهة الاحتلال أو النظام القمعي..من البديهي أن يقوم المبدع،بصفاته الحاسمة،بالوقوف معها ومع الناس دون سؤال، ويكون خطاب المثقف متجاوزاً للتنديد والاستنكار والتقرير العاجز،بل يجب أن يغوص في لبّ النار،ليحرّك عقاربها ويدلّ عليها،ليقتلها،وأن يشحذ الأرواح،ويفتح الجبهات على اتّساعها اللاهب والمضيء، لهذا يبدو مُستغرَباً عندما يصطف المبدع مع النظام أو العدوّ،أو يبرر لهما،أو يشكك في مَن يقاوم،لأن المبدع،هنا،يفقد الجانب البدهي والتلقائي والطبيعي لمتطلبات موقفه.

ويكون المبدع هنا،أيضاً،إمّا خاضعاً للترغيب أو الترهيب،بمعنى أنه يكون قد تم شراؤه أو إسكاته بالقوة وتهميشه.وإذا تمّت عمليه شرائه،فإن المبدع يكون قد فَقَد الركيزة الأهم من مواصفاته وهي "الضمير"،وبغيابه يفقد صفة الإبداع،لأنّ محتوى إبداعه يكون مزيّفاً وغير حقيقي ومخاتلاً ومرائياً،أو تنفيسيّاً في أحسن الأحوال.أما إذا تمّ تكميمه وملاحقته،وخَضَع،فإنه يكون قد فَقَد إحدى أهم صفات الإبداع،وهي القدرة على المواجهة والاختراق والنفاذ والتحدي،وهي الجسارة العقائدية أو الشجاعة الفكرية والتجاوز.

يتبع...

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services