77
0
وجوه الفلسطينيين في غزة تقول ما لا تقوله كل صحف العالم ..!

بقلم / د. هانى العقاد
بعد عام ونصف من الحرب خرجت لأتجول في شوارع المدينة المدمرة , تاهت من ذاكرتي معظم تلك الشوارع ومسحت أسمائها من على اليافطات , لم تعد معالمها القديمة موجودة فكانت ذاكرتي تقارن بين تلك القديمة وهذه المدمرة , كنت اسير في طرقات اشبه بطرقات مدن للينينغراد وستالين غراد ابان الحرب العالمية الثانية ,لا يوجد مبني الا ومدمر عبارات بالعبرية كتبت على بعض ما تبقي من مباني ,قالوا لي ان كل تلك العبارات في مجملها تتوعد وتهدد بالعودة للحرب من جديد ,جبال من الركام تغلق الطرق مع ان السلطات البلدية حاولت فتح ممرات صغيره تكاد تسمح لبعض المارة بالسير على الاقدام , وشوارع اخري رئيسية كانت متاحة للسيارات التي لم يعد شكلها مألوفا فقد تغيرت وأصبحت جار ومجرور باستخدام عربات الحيوانات تُجر خلفها لتحمل اكبر عدد من المتنقلين بسبب ارتفاع اثمان الوقود لأكثر من 1000 %. معظم شوارع المدينة مملوءة بالباعة الذين يبيعون بعض البضاعة القديمة وبعض الملابس واشياء اخري . ان تحدثنا عن الأسواق فلا فواكه ولا خضار ولا لحوم ولا دجاج ولا دقيق ولا أي مجمدات بفعل استمرار الحصار الخانق على القطاع الذي منعت فيه إسرائيل دخول أي مساعدات اغاثية او حتى ادوية او دقيق او بضائع للقطاع الخاص منذ أكثر من شهر ونصف. كل ذلك قراءته بعمق لكن ليس غريبا ان تبدو المدينة بهذا الشكل، ففي مثل هذه الحرب المدمرة هناك تغيير لكل معالم المدينة واحيائها وشوارعها، شوارع جديدة فتحتها بلدوزرات الاحتلال العملاقة ,وشوارع اخري أغلقت ومئات المباني اختفت عن الوجود ولا أحد يعرف أين اخفاها الاحتلال، رائحة الدم والموت تملء معظم الشوارع, شوارع تمتلئ بالغبار والحفر والحجارة والركام والنفايات ومياه المجاري والسيارات التي حطمتها دبابات الاحتلال.
في شوارع المدينة وجوه حزينة، عابسة، قلقة , خائفة ,حائرة , محبطة , متسائلة , كل أسئلة الكون في ملامحها وتقاطعاتها ، كان السؤال عادة ماذا بعد...؟ سألني الكثير هذا السؤال , لم اتجرأ للإجابة عنه لان الإجابة مخيفة ومحبطة فكنت اتهرب منها وأقول ان الامل في وجه الله كبير بان تنتهي هذه الحرب قريبا ,وأقول ان المفاوضات جارية للتوصل لصفقة دون التعبير عن احباطي من هذه المفاوضات التي تجري فقط حتى لا ينقطع حبل الامل لدي الوسطاء. إذا كان يعلوا وجوه الناس تعبيرات الخوف والقلق والتوتر والحزن والألم والياس، فان أجسادهم الهزيلة تقول أكثر من ذلك انها تحكي حكاية الحصار والتجويع والفقر والمرض وتحكي حكايات العوز والاحتياج لإعالة اسرهم وتحكي حكاية أكثر من عام ونصف من الحرب. إذا كانت هذه حكاية البالغين من الرجال والشباب فما بالك في واقع وجوه النساء التي كان يفترض ان تكون نضرة تشع بالإشراقة والابتسامة والامل , وجوه متفائلة نضرة لكن للأسف لم يعد هذا يقرأ في وجوه النساء الغزيات فان وجوههم شاحبة مريضة من قلة الطعام وسوء التغذية لأنهم يتناولون القليل من الطعام فهم يولوا اطفالهم بالطعام اعلى حساب انفسهم لان أطفالهم لا يستطيعوا التحمل ومقاومة الجوع , لكن للأسف ليس كل النساء تمتلك الطعام الكافي لأطفالهم فمنهم من تقتات على وجبة واحدة في اليوم وهي ليست الا قليل من الأرز حصلت عليه من ( التكية) لان لا شيء في خيمتها تعده لأسرتها واطفالها , التقارير تقول ان اكثر من 80% من السكان الفلسطينيين في غزة يحصلوا على طعامهم من التكايا والمطابخ التي تديرها منظمات دولية كالمطبع المركزي العالمي وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمات وجمعيات الاغاثية عربية اخري , الا ان معظم هذه الجمعيات والمنظمات أغلقت مقراتها لسببين ,الأول استهدافها من قبل قوات الاحتلال بالقصف وبالتالي قتل عدد كبير من الفلسطينيين المصطفين في طوابير بانتظار الطعام والعودة بالدم والاكفان وليس الطعام ,والثاني بسبب اغلاق الاحتلال المعابر ومنع المساعدات الدولية والاغاثية من ادخال الطعام للناس في القطاع .
تحول الأطفال في غزة الي باعة يجولون الطرقات والأسواق اما ببعض البضاعة التي تصنعها بعض الأمهات ليعود هؤلاء الأطفال ببعض المال لصالح اطعام العائلة وتوفير مستلزماتها لان رب الاسرة اما شهيد او معتقل او جريح لا يقوي على العمل او بدون أي دخل ويشارك الزوجة في صناعة بعض المبيعات من معجنات ليقوم الأطفال بالتجوال في الشوارع وبين الخيام لبيعها , الصور ابلغ من كل الكلمات ومفردات اللغة العربية باتت تستحي من المعاني لأنها لا تستطع توصيف ما يجري ولا تشرح بما فيه الكفاية من حال الناس هنا في غزة وخاصة الأطفال الذين يبكون بلا دموع ويتألمون بلا صراخ ويجوعون دون جرأة على طلب الطعام من الاب او الام لانهم مطلعين علي الحال و يعرفوا ان الخيمة لا طعام فيها او ان الطعام قل ويحاول الوالدين الاقتصاد في الطعام لانهم لا يعرفوا متي ستعود المساعدات ومتي يمكنهم الحصول على طعام كاف ومتي ستنتهي الحرب.....؟!. الأطفال يلبسون ملابس رثة بالية ممزقة لا تتناسب مع أحوال الطقس فقد يكون الأطفال يرتدون ملابس صيفية في الشتاء لان الكثير من ملابسهم باتت تحت أنقاض البيوت التي دمرتها الحرب ولم يستطيعوا انتشالها فقد خرجوا من البيوت بقليل منها ولم يحملوا كل امتعتهم، اما اقدامهم فقد حملت غبار الطرقات ورماد صواريخ الاحتلال والكثير من التراب، اقدامهم بلا نعال والمحظوظ المحظوظ من ينتعل في قدميه حذاء. الأطفال بلا تعليم، مدارسهم دمرت وما تبقي من فصول مدمرة سكنتها العائلات النازحة فقد يكون الطفل وعائلته يقيموا في زات الفصل الدراسي الذي كان يفترض ان يجلس فيه الأطفال على مقاعد الدراسة. العديد من الأطفال قتلوا وهم يصطفون على طوابير التكايا للحصول على الطعام الالاف احرقوا وهم نيام في الخيام، لم يرحم الاحتلال طفولتهم ولم يستطع العالم حمايها وانقاذها او الحفاظ على حقوقهم فكل الشعارات الدولية وكل القوانين الإنسانية سقطت ,بل ان الإنسانية سقطت في الاختبار ايضاً الذي جاء على وجوه أطفال غزة وناسها . رأيت أطفال يتسولوا ,يجمعوا بقايا الخضروات التي هي غير صالحة للأكل ,ورأيت أطفال ليس لهم والدين لأنهم الناجون الوحيدين من حرب الإبادة ويعيشون في مخيمات مع اسر اخري ولعل خيام الايتام وأبناء الشهداء تحكي مئات حكايات الألم والفقدان واليتم والتمني بالموت واللحاق بالوالدين الشهداء. تحدث مع طفل لا يتجاوز الخمس سنوات اسمه (محمد) سألته عن حاله فقال " انا قرفت الحياة واتمني الموت ولا اريد العيش وسأذهب عند ابي الشهيد فهو هناك في الجنة ونحن هنا في النار, نهرب من الموت من خيمة الي اخري" , حاولت ان اهدئه قليلا وقلت له " باتسامه ابوية ان الحياة جميلة وحلوة وستنتهي الحرب وسنعود للبيوت وستعود للمدرسة وتكمل تعليمك وتصبح طبيب مشهور وتعالج المرضي وتساعد الضعفاء" , ابتسم بسخرية بريئة وقال لي عبارة باللغة العامية الفلسطينية لم اتوقعها (بالله عليك بيكفي ، لا ترش على الموت سكر) .
كل وجوه الناس في غزة من رجال كبار في السن وشباب ونساء واطفال تحكي بصمت حكايات مفزعة وبشعة تستحي ان تسمعها الإنسانية التي يتاجر بها ما يدعي انه عالم حر ,وتحكي بصمت ما لا تستطع كل صحف العالم نشره على صفحاتها او تصويره من قبل محطات التلفزة والفضائيات ولم يستطع كتاب الاعمدة والمقالات في الصحف التحدث عنه في تقاريرهم الصحفية, لم يروا الحقيقة او يعيشوا الصدمة والألم التي عاشها الناس في هذه الحرب المجنونة فإسرائيل مازالت تدمر وتقتل وتعتقل وتمنع دخول مراسلو الصحف ومحطات التلفزة العالمية والعربية ووكالات الانباء من الدخول الي القطاع لتغطية حقيقة هذه المحرقة والتحدث عن تداعياتها وانعكاساتها على المدنيين لأنها تستهدف المدنيين الفلسطينيين بالدرجة الاولي دون احترام لقانون دولي او انساني حتي لا يكشف العالم حجم الجريمة التي يرتكبها الاحتلال وبشاعة ما فعل , انها اثمان بالغة دفعها الفلسطينيين نتيجة لصمت العالم وعجزة عن إيقاف هذه المحرقة التي لا اعرف باي لغة سيكتبها التاريخ بل سوف يستحي من نفسه عند كتابتها ووصف مجرياتها وتفاصيل قصصها وحكايات الضحايا والناجين منها وسوف يخجل التاريخ من تلك الصور التي حفظت في كاميرات الصحفيين الذين قتلهم الاحتلال حتي لا ينقلوا الحقيقة البشعة للعالم .