204066
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 134

بقلم اسماعين تماووست
إننا نعيش في زمن يتطلب منا أن نفتح عقولنا ونُضيء دروبنا بنور المعرفة التي تبصر الحقائق، فالعقل هو السلاح الذي يعصمنا من الجهل والتطرف.
إن الذين يتبنون الفكر المتطرف هم أعداء للإنسانية، أعداء لله، يتبعون طريقاً ضد المنطق.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: "فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ" (الذاريات: 50). إنهم يسيرون في طريقٍ يؤدي إلى الخراب، يفرض علينا مواجهتهم بقوة، ولكن أيضًا بعقلانية، بالعلم، وبالروح التي تسعى دائمًا نحو الحق. فالعنف لا يخلق إلا المزيد من العنف، كما يعلّمنا القرآن الكريم: "وَلَا تَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا" (المائدة: 8).
من بين سبل مواجهة هذا الفكر المتطرف هو العلم، فهو الضوء الذي يعمق الفهم ويمكّن الإنسان من تجاوز المواقف الصعبة.
فكلما استنار العقل، كلما ازداد اقتراباً من الفهم الصحيح لحقيقة الحياة، إن قراءة القرآن الكريم تُنير لنا الطريق وتعلمنا كيف نعيش بسلام، بعيدًا عن أهواء العنف. كما قال الله تعالى: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ" (الإسراء: 9). فما أروع هذا الكتاب الذي يُرشدنا إلى كيفية العيش بسلام، وكيفية التسامح، وكيفية أن نكون إيجابيين مع الآخرين.
إن البطانة الحقيقية للتفكير العميق في هذه الحياة، تكمن في القدرة على التسامح. فالشخص الذي يتعامل مع الآخرين بحب واحترام هو من يسير في درب الحق. يقول الله عز وجل: "وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا" (النور : 22). إن العظمة تكمن في قدرة الإنسان على العفو، على الإصغاء، على المساعدة، في أن يكون هناك تفاعل إيجابي مع الآخر، لأننا في النهاية لا نختلف عنهم في شيء.
لقد كان بعض الجزائريين، للأسف، غير قادرين على تقدير قسوة عدوهم، الذي تجسد في صورة الإرهاب، الذي لا يرحم ولا يبالي. إلا أنه وبعد الأفعال المروعة، أصبح من الواجب علينا أن ننتصر على هذه القسوة بكل الوسائل، وأن نُبيد العنف بأيدينا وبأذهاننا، وأن نغرس في المجتمع قيم التسامح، السلم، والإيجابية.
ومن جانب آخر، يجب أن نعلم جميعًا أن الله تعالى شاهد على كل فعل نقوم به، ولا يفوته شيء، كما قال في كتابه: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (النساء: 1). حتى أصغر الأعمال، حتى أدق التفاصيل، هي في علمه سبحانه وتعالى.
نحن في الحقيقة مجرد ضيوف في هذه الحياة، ونحن ماضون فيها كما قال الله تعالى: "وَمَا حَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعٌ غَرُورٌ" (الحديد: 20). الوقت الذي نمضيه في هذه الدنيا هو وقت محدود، وفي النهاية نرحل عنها.
ولذلك، فإن خيرنا عند الله ليس في القوة أو المال، بل في الأعمال الصالحة التي نقوم بها. كما يقول الله سبحانه: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات: 13). الأفضل بيننا هو من يلتزم بتعاليم دينه، ويبتعد عن كل ما هو محرم، ويعمل على تحقيق الخير في حياته وفي حياة الآخرين.
القرآن هو الدليل الذي ينير لنا الطريق، ومن يتبع هذا الطريق سيجد السكينة والرحمة في الدنيا والآخرة.
إن ظاهرة التطرف، بكل ملامحها المظلمة، تشبه إلى حد بعيد الرياح التي تعصف في موسم الخريف، تلك الرياح العاتية التي تقتلع أوراق الأشجار وتدفعها بعيدًا في الهواء، كما لو أنها تحاول محو كل أثر للحياة.
الرياح التي، رغم أنها جزء من الدورة الطبيعية، تترك وراءها تخريبًا في بيئتها، وتلحق ضررًا بالغًا في توازن الطبيعة.
أما التطرف، فهو أخطر بكثير من تلك الرياح؛ إنه ريح مدمرة لا تقتلع الأوراق فحسب، بل تقتلع الفكر والعقل، وتدفع بالإنسان إلى العودة إلى قاع الجهل.
هذا الفكر المتطرف لا يقيم وزناً لتطور البشرية، بل يرفض أي نوع من التقدم أو التحضر، محاولاً إيقاف الزمن عند نقطة معينة، وكأنما يريد أن يحيي الماضي بكل ما فيه من ظلام.
يقول الله تعالى في القرآن الكريم -سورة المائدة - الآية 33. وقوله تعالى : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) ا.
هذا التحذير القرآني يلفت انتباهنا إلى أن التطرف لا يحارب فقط الإنسان، بل يواجه مباشرة القيم السماوية ويهدد الأمن والسلام الذي أمرنا الله به في الأرض وهو نقيضًا للقيم الإنسانية والدينية التي ترتكز على التعايش والتسامح.
إن القرآن الكريم، الذي نزل ليكون هدايةً ونوراً للبشرية، يأتي بأفكار ومبادئ تعزز قيم الرحمة والتسامح والتعايش السلمي بين الناس.
فهو دعوة مفتوحة للعقل إلى التفكر والتدبر، وإلى السعي لبناء مجتمع متماسك يقوم على العدل والإحسان.
عندما يسيء البعض فهم هذه النصوص السماوية ويستخدمونها لتبرير العنف والتطرف، فهم في الحقيقة يخونون رسالة الإسلام الأساسية التي جاءت رحمة للعالمين.
إن الله تعالى يوجهنا مراراً وتكراراً في كتابه الكريم إلى سبل الهداية وإلى اتباع الحكمة والموعظة الحسنة. يقول الله في القرآن الكريم: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: 125)، مما يؤكد على أهمية اللطف والتروي عند الدعوة إلى الحق. وهنا تظهر عظمة الرسالة القرآنية، فهي ليست دعوة للصلابة أو العنف، بل للتواصل الراقي مع الآخرين، حتى المختلفين في الدين أو الفكر.
لو تدبرنا الآيات بعمق، لوجدنا أن القرآن يتحدث عن الإنسان بصفته خليفة الله في الأرض، مما يحمّله مسؤولية إعمار الأرض وليس تدميرها، وتحقيق السلم لا إشعال الفتن.
إن فهم القرآن فهماً سليماً يعزز هذا الدور الإيجابي للإنسان، ويضعه في موقع الصانع للسلام والخير.
التطرف هو في حقيقته انحراف عن هذا الفهم السليم. إنه يحجب عن الإنسان جمال المعاني الإلهية ويغلق الأبواب أمام نور الحكمة، فيدفعه للانغلاق والابتعاد عن جوهر الدين، لذلك، فإن التصدي للتطرف لا يكون فقط بالقوة، بل يبدأ من تصحيح الفهم الديني وإعادة بناء الوعي الذي يعيد للقرآن دوره الإيجابي في حياة الإنسان.
علينا أن نستمد من القرآن حب الحياة والعدالة، وأن نستلهم منه القدرة على الحوار وبناء جسور التفاهم، مما يخلق مجتمعاً متآلفاً ومتسامحاً، بعيداً عن ظلمات التطرف التي تحاول تمزيق نسيجه.
مررت بتجارب كثيرة في الحياة، جعلتني أعرف تمامًا ما معنى أن تواجه هذا الفكر الضال في الميدان. لقد عشت الأحداث الأليمة التي مر بها وطني في فترات الإرهاب المظلمة. كنت في طليعة من حاربوا هذا التطرف، الذي اجتاح البلاد بنية تدمير كل ما هو جميل.
لا يزال في ذاكرتي مشهد تلك الأيام، حيث كان الظلام يخيّم على كل شيء. كانوا يسعون لنشر الخوف، وتدمير كل روح أمل في قلوب الناس. لكنني، كما كان يوصيني والدي الشهيد، لم أسمح لهذا الظلام أن يطال أرواحنا. كان هدفي أن أكون الجدار الذي يقف في وجه الرياح العاتية، وأن أقدم للمجتمع الأمل في إعادة السلام إلى النفوس.
لقد علمتني التجارب في ساحة المعركة ضد الإرهاب أن الفكر المتطرف لا يمكن أن يُواجه إلا بقوة العقل والعلم. يقول الله تعالى: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" (الزمر، 9). وهكذا كان سلاحي الأساسي في محاربة التطرف: العلم الذي يفتح الأفق، ويوجه العقل نحو الحقيقة. ولا شك أن من يتسلح بالعلم ويغذي نفسه بالمعرفة، فإنه قادر على مواجهة أي فكر أعمى، لا يمكن للإنسان أن يتطور دون أن يكون لديه القدرة على التفكير النقدي والتحليلي، وهذه القدرة لا تتحقق إلا عبر العلم.
فالتطرف لا يرى في العالم إلا عدوًا، ويخشى من كل شيء. كما يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: "الإنسان الذي لا يفكر، لا يقدر على العيش." فالتطرف لا يعرف معنى الحياة الحقيقية، ولا يدرك أن الحياة هي في التجربة، في التعلم، وفي المحبة.
لقد كان التحدي الأكبر أمامي في تلك الأيام العصيبة هو أن أتمسك بتلك القيم التي تربينا عليها، قيم التسامح، والسلام، والعدل.
وقد أدركت أن مواجهة الإرهاب لا تتطلب القوة الجسدية فقط، بل القوة الروحية أيضًا. وها نحن اليوم في عصر نحتاج فيه إلى هذه القوة الروحية، لأننا نواجه تحديات أكبر من أي وقت مضى.
الإنسان هو من يصنع السلام، وأن أي محاولة لاستبعاد العقل من المعادلة ستكون محكومة بالفشل.
في النهاية، أيقنت أن لا شيء يمكنه أن يقف في وجه الإنسان العاقل ، الذي يعرف قيمته ويعرف هدفه في الحياة.
يقول الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد، 11). فالتغيير يبدأ من داخل الإنسان، ولا يمكننا أن ننتظر من الخارج أن يغير حالنا إذا لم نكن نحن مستعدين للقيام بهذا التغيير. لهذا، كانت معركتي ضد الإرهاب هي معركة فكر، معركة معرفة، معركة إيمان بالله وبالإنسانية.
والحقيقة أن التطرف لا يقتصر على العنف الجسدي فقط، بل يشمل أيضًا العنف الفكري والعاطفي.
إنها حرب على القيم الإنسانية، على الحق والعدل. ومن هنا، فإن التسلح بالعلم والإيمان هو الأساس الذي يمكننا من مواجهة هذه التحديات بكل شجاعة ووعي. وبذلك، فقط نحقق السلام الحقيقي، الذي يبدأ أولاً من داخلنا، ثم ينعكس على المجتمع بأسره.
يتبع...