515902

0

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 130

بقلم اسماعين تماووست 
في تلك اللحظات الحرجة،  كانت مشاعري تتأرجح بين ضغوط داخلية تمزق أعصابي وواجبٍ مهنيٍّ أحمله على عاتقي، كمفتش شرطة، تعلمت منذ بداية مسيرتي أن القدرة على التعامل مع الضغط النفسي ليست مجرد مهارة، بل ضرورةٌ لا غنى عنها.

فقد كانت تلك اللحظات التي عشتها في مرحلة الإرهاب تتطلب مني أكثر من مجرد قوة جسدية أو شجاعة فورية؛ إذ كان عليَّ أن أستخدم كل ما اكتسبته من خبرة في ملاحقة الجرائم، وتوظيف فطنتي الاستخبارية وقدرتي على تحليل المواقف، بحيث أستطيع اتخاذ قرارات حاسمة بسرعة وفعالية، رغم ضبابية الموقف وغموضه.
لقد أصبح الضغط جزءًا من عملي اليومي، خاصة عندما يتعلق الأمر بمواجهة إرهابيين يمتلكون قدرة فائقة على التمويه والتخفي،  كانت السرعة في اتخاذ القرارات لا تكفي وحدها، بل كانت تحتاج دقة وتقييم متأنٍ، كما لو كنت أقوم بمناورة على رقعة شطرنج، كان عليَّ استشراف خطواتهم وتحليل كل الإحتمالات،  أما التحدي الأكبر يتمثل في بناء قاعدة بيانات ومعلومات استراتيجية، بحيث تُمكّنني من تحديد نقاط ضعفهم واستغلالها بذكاء.
لم يقتصر الأمر على المتابعة الروتينية، بل شمل أيضًا بناء شبكة معلومات دقيقة تُحكم الخناق عليهم، كل مصدر استخباراتي كان بمثابة خيط يوصلني لحقيقة أكبر، لذلك عملت على استثمار الوقت في تحليل المعلومات والاستماع لأولئك الذين ربما كان لديهم المفتاح لفك بعض الألغاز، سواء من المتعاونين أو الشهود، كانت هذه المعركة الاستخبارية تتطلب توظيف براعة التحليل والتكتيك لضمان النجاح.
الخطط الاستراتيجية المدروسة كانت سلاحي الأقوى في توجيه ضربات قاصمة لأعداء الوطن.

تلك المواجهة لم تكن مجرد مواجهة جسدية، بل  كانت حربًا على العقول تتطلب براعة وذكاء، لذلك  تعلّم فنون الاستخبارات وتطوير استراتيجيات استباقية مكنني من الوصول إليهم خطوة بخطوة.

أنا إسماعيل تماووست، المفتش الذي يروي لكم حكايته اليوم، عاش أحداثًا مؤلمة نقشها الزمن على جدار ذاكرتي، ولن تُمحى ما حييت، هناك مشاهد تظل محفورة في عمق النفس، كألم خفي لا يمحوه الزمن ولا يخففه،  كيف لي أن أنسى تلك اللحظات عندما كان المجرم يقتلع الفتيات الضعيفات من حضن أمهاتهن الدافئ؟ كيف لي أن أفر من صوت صراخ الأمهات وآهات الآباء التي تتردد في ذاكرتي، قلوب مجروحة و مصابة بألم عميق، وعيون تبكي حرقة تودع بناتها اللواتي غُصبن على مفارقة عالم الطفولة والبراءة؟ ليجدن أنفسهن، بعيدًا عن دفىء أمهاتهن، أسرى لواقع قاسي وعذاب لا يعرف الرحمة، في زمن انعدمت فيه الإنسانية، ليُجبرن على العيش في عالم بات للأسف موحشا .
فتيات يقتلعن عنوة من بين الجدران التي ألفت ضحكاتهن، من بين الزهور التي كانت تتفتح في قلوبهن، ليُسلب منهن حق الحياة، لا خيار لهن سوى الخضوع ،  كنت أرى كيف تتحول تلك الفتيات المظلومات إلى أسرى للذعر والخوف، يصارعن بصمت من أجل النجاة، لكن تلك العيون التي تكسوها الدموع، والعقول التي يغزوها القلق، كانت  شهادة على قوة الظلم الذي مورس عليهن.

أولئك الجناة، الذين كانوا يتصرفون ككلاب ضالة، لا رحمة ولا شفقة في قلوبهم، ينفذون أوامر أسيادهم بدون نقاش، وكأنهم آلات جامدة، مجرد أدوات لتحطيم الأرواح البريئة، لا يفهمون معنى الإنسانية ولا يعرفون سوى طريق القسوة، أرواحهم مظلمة وقلوبهم مغلقة، ولم يكن في عقولهم سوى التدمير و إلحاق الأذى بالعزل و الضعفاء.

لقد أصبح هذا الصراع النفسي يلتهمني من الداخل، كلما تذكرت صرخات الأمهات وآهات الآباء، وكلما تخيلتهم وهم يرون بناتهم تُسلب منهن حياتهن أمام أعينهم، كان هذا الصراع يأخذني إلى عوالم من الألم، كأنني غارق في بحر عميق، لا أستطيع الخروج منه، لكني أستحضر دائمًا قول الله تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ" (النحل: 90)، وأجد في هذا القول، في هذا الواجب الديني، صوتًا يذكرني بأن العدالة ليست مجرد قانون أو حكم، بل هي جزء من إنسانيتنا، وهي التي تحدد مدى إيماننا بقدرتنا على التغيير.

كيف للمرء أن يتخلى عن الأمل في ظل هذا الظلام؟ كيف يمكننا أن نعيش في عالم يغمره الظلم والتخريب دون أن نقاوم؟ كيف يمكن للإنسان أن يتحمل هذه الشدائد ويصمت أمام الجريمة؟ يظل السؤال في داخلي، يتردد في ذهني بلا تتوقف.

 إن هذا العذاب النفسي بين الأمل واليأس، بين الواجب  والواقع المؤلم،  قد وضعني في مواجهة يومية مع نفسي، ومع عالمي الذي كان يبدو مظلما، والضوء الخافت الذي لا يزال ينبعث من زاوية صغيرة.


إن الأطفال والنساء وكل الأبرياء الذين ارتُكبت بحقهم هذه الجرائم البشعة، يتركون لنا مساحة واسعة من التساؤلات والألم، وكأنهم يسألوننا بصمتهم الباكي: هل للبقاء مكانٌ في عالم طغت عليه الوحشية؟ لقد كان ذلك الزمن زمن الظلام، اجتاحته قسوة القلوب وانعدام الضمير، جرائم ارتكبها مجرمون ملوّثون بالجهل والنفاق، يدّعون الحق بينما تمزقهم الشكوك في أعماق نفوسهم. فكيف لمن فقد إيمانه بالعدالة أن يبقى مخلصًا لقيم الإنسان وحقوقه؟

لكن ما يكسر القلب حقًا، ما يمزق الروح ويدمي الذاكرة،  تلك الجرائم الوحشية التي ارتُكبت بحق فتيات بريئات. فتيات لم يكن لهن من ذنب سوى أنهن وُلدن في زمن غاب فيه صوت الرحمة وصوت الإنسان.

زمن اختار فيه أشباه البشر، الذين لم يعرفوا من الإنسانية إلا اسمها، أن ينزعوا أرواح تلك الفتيات في ربيع شبابهن، منهن من لم تتجاوز مرحلة المراهقة، كنّ في عمر الزهور، كان يُفترض أن يعشن الحلم والأمل، فإذا بهنّ يواجهن أبشع صور الظلم.

وهذه الجرائم، كما نعلم، لم تكن صدفة أو فوضى، بل كانت بفعل تخطيطٍ دقيق، وبدراية كاملة بمنازل الضحايا ومواقع أسرهن، كأنّ تلك الأيدي الشريرة، تتعقّبهن ببرودٍة  مدركة  متى وأين وكيف تنتزع الحياة.

والأسوأ من ذلك أن الاعتداءات لم تقف عند حد الجسد، بل وصلت إلى العقول والقلوب، إلى ذلك الأذى الذي يعجز اللسان عن وصفه. ذُبحن بعد أن دُنّسن ، ودُفنت أجسادهن في أماكن نائية، تُركت فيها كي تُنهش من قِبَل وحوش الغاب، محاولة اخفاء معالم الجريمة.

 ليبقى السؤالً دائمًا في قلوب الأهل: كيف لوالد أو والدة أن يستمر بعد هذه المأساة في إيجاد طعم للحياة؟

وهكذا كان الهدف من تلك الجرائم، الوصول  الى السلطة ورضى لنفوسٍ مريضة لم تعرف من الرحمة شيئاً.

فما الذي فعلته تلك الأرواح البريئة ليُجزَون بهذه الوحشية؟ وُلدن في زمن بلا ضمير، فلماذا يُستباح دمهن وتُدنّس ذكراهن؟

هؤلاء الفتيات البريئات كنّ حقًا ضحايا حرب لا ذنب لهن فيها، ضحايا أيدٍ لا تعرف إلا القتل والتدمير، ولكن، رغم كل ذلك، فإنهن لن يُنسين، فذاكرتهن ستظل حية في قلوب أهلهن، وذاكرتي أيضًا كشاهدٍ على سنوات الجمر والدمار، أولئك هم أمهاتنا وأخواتنا، هنّ بنات الجزائر البريئات.

وكلما أستحضر تلك اللحظات الحزينة، أجدني أرفع يدي إلى السماء داعياً أن يرحمهن الله بواسع رحمته، وأن يجعلهن في مقعد صدقٍ عنده، حيث لا خوف ولا حزن. إنهن الشهيدات البريئات، اللاتي لم يدنسهن ذنب، ولم تلوثهن خطيئة، أرواحهن الطاهرة ستظل خالدة، شاهدةً على زمن قاسٍ عاث فيه الظلم، زمن سادته القلوب القاسية وصدحت فيه دعوات المؤمنين بأن يعمّ السلام أرضنا التي تستحق..

يتبع...

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services