311538
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 151

بقلم اسماعين تماووست
إن نظرتنا إلى الإسلام يجب أن تكون نظرة شاملة وكاملة، تستند إلى فهم عميق للعلاقة بين الدين والحياة اليومية.
فالإسلام ليس دينًا يغلق أبواب التفكير والإبداع، بل هو دعوة للحكمة والتأمل، لإيجاد الحلول التي تحقق التوازن بين الإنسان وبيئته، وبين الدين والحضارة. لهذا، فالمسلم الحق هو من يسعى ليعيش دينه في سياق العصر، مع احترام الثوابت وإدراك متغيرات الواقع.
لقد تجلى ذلك في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع التحديات التي واجهته، حيث لم يتردد في اتخاذ القرارات التي تخدم مصالح الأمة من خلال الاجتهاد، مستعينًا بحكمته وبالرجوع دومًا إلى النصوص الأساسية.
وهذه الروح من الاجتهاد تتطلب منا كمسلمين أن نتمسك بالتفكير النقدي والبحث المستمر عن المعرفة، بما يخدم مصلحة الإنسان والمجتمع.
في الوقت الذي نرى فيه بعض الأشخاص يغلقون عقولهم أمام كل جديد، ويتشبثون بتفسيرات قديمة للنصوص الدينية، فإن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى العودة إلى أسس الدين الحقيقية، والتي تدعو إلى الرحمة والعدل والاعتدال. كما قال الله تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ" (الروم: 41)، لتذكيرنا بأن التحديات التي نواجهها اليوم ليست إلا نتيجة طبيعية للبعد عن المبادئ الإلهية، مما يحتم علينا العودة إلى الدين بفهم صحيح وشامل.
لن نتمكن من مواجهة تحديات العصر دون أن نعيد النظر في فهمنا للدين، مع الحفاظ على قيمه الإنسانية التي كانت دائمًا أساسًا للسلام والتعايش بين البشر.
إن محاربة التطرف تتطلب منا تعزيز ثقافة الحوار والتفاهم، والتمسك بالمبادئ التي تقرّها الشريعة الإسلامية، والتي تشدد على ضرورة العدل والمساواة والرحمة.
علينا أن نعلم أن الإسلام ليس حكرًا على فئة أو جماعة معينة، بل هو رسالة موجهة لكل البشر، وكل مسلم مطالب بالعمل من أجل نشر هذه الرسالة في كل مجالات الحياة.
وبالتالي، فإن مفتاح التغيير والتطور يكمن في تعميق الوعي الديني، وتنمية الفكر المتوازن الذي يحرر الإنسان من كل أشكال الغلو والتعصب، وعلينا أن نعمل جميعًا على تصحيح الفهم المشوّه للإسلام، وأن نعيش هذه القيم في حياتنا اليومية، ليس فقط من خلال الأقوال بل وحتى بالأفعال التي تُظهر تمسكنا بالدين في سلوكاتنا وقراراتنا.
إن ما نعيشه اليوم من صراعات وحروب على مستوى العالم يعكس غياب الفهم الصحيح للإسلام. فإن الوقت قد حان كي نعيد تعريف ديننا في إطار منفتح ومتوازن، وأن يأخذ بعين الاعتبار التحديات المعاصرة دون أن يفرط في الثوابت أو يساوم على القيم، فالإسلام هو الحل، إذا ما تم تطبيقه بشكل صحيح، وفقًا لما يرضي الله ويحفظ مصلحة الإنسان والمجتمع.
أما أنا، المفتش، فإن ما عايشته من أحداث وألغاز، وما عاصرته من حقائق مرّة وظلال كثيفة، فلقد شكل رؤيتي الخاصة لما يعيشه هذا العالم اليوم.
فبينما يخيم الغموض على العديد من الوجوه، أظل أبحث في تفاصيل كل قضية تصادفني، وأستمع لكل همسة، وأراقب كل حركة حتى بعد تقاعدي.
فالتراجع والاستسلام للظلام ليسا من مبدئي، هذا لأنني تعلمت أن النور لا يأتي إلا من خلال المواجهة المستمرة مع الظلام.
فمن بين كل تلك الحقائق التي تأثرت بها، ينبثق دوما أمل جديد؛ أمل بأن الحق قادر على أن يظهر مهما كانت التحديات، وأن الكلمة الطيبة والعدل سيكونان دائمًا الطريق الذي يقود إلى شاطئ الأمان.
ما زال هناك الكثير من الأسئلة التي يجب أن تطرح، والكثير من الألغاز التي لم تحل بعد. هذا هو مسار البحث الذي لا ينتهي، والذي سأظل أسير عليه حتى آخر أنفاسي.
"وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (آل عمران: 169).
"إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ" (الحج: 38).
الوطن... كلمةٌ تحمل في ثناياها كل معاني الحب، التضحية، والألم. الجزائر، أرض الأحرار والشهداء، خاضت معركتين وجوديتين ضد أعتى أعدائها.
الأولى كانت ضد الاستعمار الفرنسي الذي غرس مخالبه في أرضها، محاولًا أن يمحو هويتها ويبدّد حلمها في الحرية. أما الثانية، فقد كانت ضد إرهابٍ أسود أراد أن يطفئ النور في عيون أبنائها، ليكمل ما بدأه المستعمر.
عائلتي كانت واحدة من تلك العائلات التي سُجلت أسماؤها بحروفٍ من دم ونار في تاريخ هذا الوطن، والدي، الشهيد محمد تماووست، كان رمزًا للنضال، لم يتردد لحظة في مواجهة المستعمر. لقد اعتقل في رغاية، وعُذّب بوحشية على يد قوات العدو، حتى استشهد في الثامن من سبتمبر عام 1956، تاركًا وراءه إرثًا من الكرامة. أخواه، قدور وعلي، لم يكونا أقل شجاعة. قدور، الذي انتهت حياته في قفصٍ مع وحوشٍ جائعة، وعلي، الذي ألقي من مروحية إلى أعماق البحر، قدما حياتهما في سبيل قضيةٍ آمنوا بها حتى النهاية.
هذه التضحيات لم تكن مجرد ذكرياتٍ عابرة. إنها دماءٌ سالت لتروي شجرة الحرية، وجذورٌ امتدت لتثبت أن الجزائر، مهما انكسرت، ستنهض دومًا.
أما أنا، إسماعيل تماووست، فقد كبرت وأنا أحمل في داخلي هذا الإرث. لم يكن سهلاً أن أعيش كطفلٍ فقد والده وهو في الخامسة من عمره، ولا أن أستوعب حجم التضحية التي قدمتها عائلتي. كنت أتساءل: ماذا يعني أن تكون ابن شهيد؟ ماذا يعني أن ترى وطنك يدفع ثمن الحرية مرة تلو الأخرى؟
اخترت أن أكون في الصفوف الأولى لمعركةٍ جديدة، معركة ضد الجريمة والظلم. التحقت بسلك الشرطة لأنني كنت أؤمن أن العدالة هي الامتداد الطبيعي لنضال والدي وأعمامي.
في كل قضية كنت أحقق فيها، كنت أبحث عن أكثر من مجرد حقائق. كنت أبحث عن إجابات لأسئلة أكبر: لماذا يستمر الظلم؟ لماذا يبقى الإنسان أسير طمعه وغروره؟
في أعوام خدمتي الطويلة، رأيت كل ألوان الظلم: جرائم، خيانات، أسرار قاتلة. ومع ذلك، لم أفقد الأمل أبدًا. لقد علمتني الجزائر أن النور يأتي بعد الظلام، وأن الحقيقة، مهما اختبأت، ستظهر في النهاية.
عندما اجتاح الإرهاب بلادنا، كنت في الصفوف الأمامية. رأيت الموت يزحف نحو القرى والمدن، يحصد الأرواح، ويحاول أن يكسر روح الأمة. لم يكن الأمر مجرد معركة أمنية، بل كانت معركة وجود.
كنت أرى في كل ضحية امتدادًا لتضحية والدي وأعمامي، وكنت أشعر أن مهمتي ليست مجرد عمل، بل واجب مقدس.
في لحظات الظلام تلك، كنت أستعيد كلمات والدي التي كانت تصلني عبر ذكريات الآخرين: "الوطن أغلى من كل شيء. حافظ عليه حتى لو دفعت حياتك ثمنًا." هذه الكلمات كانت وقودي في مواجهة كل خطر، وكل لغز، وكل عدو.
إن قصة الجزائر ليست مجرد تاريخٍ يُسجل في الكتب، بل هي حكاية مستمرة تُكتب بدماء أبنائها. اليوم، ونحن نواجه تحديات جديدة، علينا أن نتذكر دائمًا أن الحرية ليست هبة تُمنح، بل حقٌ يُنتزع بالتضحية والصمود.
في هذه الصفحات، أروي ليس فقط قصتي، بل قصة وطنٍ بأكمله. وطن علمني أن الكرامة أغلى من الحياة، وأن العدالة هي الطريق الوحيد للنور. الجزائر لا تموت، لأنها تسكن في قلوب أبنائها، ولأن دماء الشهداء هي من تحميها من كل خطر.
يتبع..