163111

0

مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 143

بقلم  اسماعيل تماووست

لقد كان العنف المسلح منذ نشأته أداةً مدمرةً تسعى إلى تدمير كل ما هو إنساني وحضاري. لم يكن هدف هؤلاء الجهلة المرتزقة سوى الهدم والخراب بأقصى قدر ممكن، مجسدين أسوأ أشكال الحقد والوحشية.

إسقاط السلطة القائمة واستبدالها بنظام فاسد يتماشى مع أهوائهم الإجرامية أحد أهم أهدافهم،  هذا النوع من التطرف لا يعبأ بأي قيمة إنسانية، ولا يحترم أي حدود أخلاقية. بالنسبة لهم، الموت هو وسيلتهم والتدمير هو رسالتهم، بغض النظر عن الأبرياء الذين يسقطون في طريقهم، أو الآثار التي تخلّفها أفعالهم.

إن هذا النوع من التهديد لا يولد من فراغ، بل يتغذى على الجهل والخيانة والتطرف. فالخيانة ليست مجرد خرق للثقة، بل هي طعنة في قلب الوطن والشعب، تُنَفّذ بيد من خانوا انتماءهم وقيمهم، أما الجهل، فهو السلاح الأول الذي يستخدمه التطرف لتجنيد الأتباع؛ فهو يغذيهم بأفكار مريضة تحوّل الإنسان إلى أداة طيعة تُنفذ أوامر قادتها بلا تفكير. ومن هنا، يتحوّل هؤلاء الأتباع إلى آلات تدمير، تفتقر إلى الإنسانية والرحمة، وتنفذ جرائمها ببرود تام، دون أي إحساس بالذنب أو الندم.

لكن الأخطر من أفعال هذا العنف المنظم هو ما يخلّفه من دمار داخلي في المجتمع. فهو لا يقتصر على تدمير الأرواح والبنية التحتية فحسب، بل يسعى إلى زعزعة النسيج الاجتماعي وتمزيق الروابط التي تجمع بين أفراد الشعب، الحرب الداخلية التي يثيرها المتطرفون ليست سوى انعكاس لحالة من الانحطاط الأخلاقي والإنساني. فهم لا يقتلون الأجساد فقط، بل يحاولون قتل الروح الجماعية التي تجعل من الشعب أمة واحدة.

هذا التهديد المنظم، في جوهره، يمثل تجسيدًا للشر بأبشع صوره. وكما أشار الفلاسفة، فإن أعظم الشرور هي تلك التي تُنفّذ بوعي وبدون شفقة. هذا العنف يستغل الجهل والخيانة والتعصب كأدوات لتحويل الإنسان إلى أداة فاقدة للإرادة، تُنفذ أوامر القادة دون تفكير. لكنه لا يدمّر الأجساد فقط، بل يحاول تمزيق الروح الجماعية التي توحد الشعوب، مما يجعل مواجهته مسؤولية أخلاقية وإنسانية قبل أن تكون سياسية.

لقد عانت الجزائر خلال العشرية السوداء من هذا التهديد في أشد صوره وحشية. تلك الفترة كانت اختبارًا حقيقيًا لصمود الشعب الجزائري الذي واجه هذا الظلام بنفس الروح التي انتصرت على الاستعمار الفرنسي، كانت المعركة ضد التطرف امتدادًا لمعركة التحرير، حيث أصبح الدفاع عن القيم والمبادئ الوطنية ضرورة أمام خيانة الداخل وتوحش القتلة، ورغم الجراح العميقة، بقي الشعب متمسكًا بأمله وبقدرته على بناء مستقبل أفضل.

إن ما يقوم به هؤلاء المتطرفون ضد شعوبهم هو أبشع أنواع الجرائم؛ فهو ليس مجرد قتل أو تخريب، بل هو خيانة للإنسانية نفسها. وإذا كنا نصف هؤلاء بالمجرمين، فإن هذا الوصف قد يكون أقل من أن يصف بشاعتهم. هم أقرب إلى الوحوش، ولكن حتى الوحوش تتحرك وفق غرائز طبيعية، بينما هؤلاء يتحركون بوعي كامل، مدفوعين بأفكار شيطانية وأوامر قادة لا يعرفون الله ولا الدين.

وبالرغم من أن العنف يتجسد في هيئة بشرية، إلا أنه في جوهره يمثل الشيطان بكل أبعاده. إن العلاقة بين منفذي هذا العنف والشيطان هي علاقة تكامل، حيث يتحوّلون إلى أدوات ينفذ بها الشيطان مشاريعه ضد الإنسانية. أفعالهم البشعة تترك بصمة دائمة من الألم والجراح في قلوب الضحايا وذويهم، إن فقدان الأحبة على يد هؤلاء المجرمين لا يشبه أي ألم آخر، فهو جرح عميق لا يندمل مع مرور الزمن.

المجتمعات التي عانت من هذا العنف تحمل في ذاكرتها الجماعية جروحًا لا تُمحى. الألم ليس فقط في الفقدان، بل في الظلم الذي تعرض له الأبرياء، هؤلاء الذين رحلوا ضحايا لجشع هؤلاء القتلة كانوا يحملون أحلامًا وآمالًا، وكانوا جزءًا من نسيج المجتمع الذي تهدف هذه القوى الشريرة إلى تمزيقه.

وفي النهاية، يبقى الإرهاب المنظم عدوًا للإنسانية جمعاء، والرد عليه لا يكون بالخضوع والخوف، بل بالثبات والوحدة، إن مواجهة هذا الخطر تتطلب تماسكًا اجتماعيًا وإصرارًا على بناء مستقبل أفضل، مستقبل تسوده العدالة والمحبة والسلام..

إنها حكاية دامية محفورة في ذاكرة وطنٍ لم يعرف يومًا الهزيمة، قصة تنزف ألمًا ووجعًا بين ظلم مستعمر غاشم وخيانة قريبة، حيث لم يكن عدو الجزائر حكرًا على المستعمر الفرنسي وحده. فقد كانت هناك أيادٍ سوداء خرجت من بيننا، تجردت من إنسانيتها وباعت شرفها بثمن بخس. خانت البلاد وأدارت ظهرها لدماء الشهداء، فارتكبت أبشع الجرائم؛ من اغتصاب الطفلات إلى قتل الشيوخ والنساء، تاركة وراءها ندوبًا عميقة ودموعًا لا تجفّ.

وفي قلب هذا الظلام، كان هناك ضوء من دماء طاهرة زكية. دماء رجال ونساء حملوا أرواحهم على أكفهم، موقنين أن الموت لأجل الوطن خلودٌ لا فناء فيه.

حلم الاستقلال لم يكن سهل المنال، لكنه كان مقدسًا يستحق أغلى الأثمان. وحينما انكسر القيد، تنفس الشعب الحرية، واعتقد أن زمن الألم ولّى… لكنه لم يعلم أن وجوه الشر تتبدل، وأن الخيانة قد ترتدي عباءة الدين لتعيد الوطن إلى مستنقع الدم والخوف.

فجاء الإرهاب، لا كحربٍ مكشوفة، بل كفتنةٍ من الداخل، استغل فيها الجبناء جهل العامة وزيّفوا الكلمة، فحوّلوا الدين عن مواضعه، وأشعلوا نيران حربٍ أجهزت على الأخضر واليابس. لم يكن هؤلاء مجرد قتلة، بل مسوخًا آدمية فقدت رشدها، تحرّكها أفكار شيطانية تدفعها للفتك بأبناء جلدتها. وقد ظنوا حينها أن الجزائر ستنحني، لكنهم أساؤوا التقدير، فكما قال أجدادنا: "اللي ما يعرفك يجهلك، واللي يتحدى رجال الجزائر عمره ما يربح."

لم يكن الإرهاب إلا معولًا غادرًا يحاول هدم ما بناه الشهداء. ولكنه فشل، لأن الجزائر لم تكن مجرد أرضٍ وسماء، بل وطنٌ محفور في قلوب أبنائه. وأمام هذا المدّ الدموي، وقف الشرفاء يتصدّون له، يكتبون بدمائهم فصولًا جديدة من البطولة. وظلت الجزائر شامخة، تضرب جذورها عميقًا في تاريخٍ كتبته قوافل الشهداء.

ولعل أقسى ما في هذه الحكاية أن بعض الأعداء لم يأتوا من وراء الحدود، بل خرجوا من الأزقة والبيوت. باعوا ضمائرهم وخانوا وطنهم، واعتقدوا أن في خيانتهم نجاة. لكن وعد الله لا يتخلف: "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون." (الشعراء: 227)

اليوم، وبعد كل تلك المحن، أثبتت الجزائر مجددًا أنها بلدٌ لا يُكسر. تاريخها لا يُقاس بعدد الجراح، بل بما حققته من انتصارات وسط الدمار. وكما قال فيلسوف: "الأمم العظيمة لا تنهض من الراحة، بل من رحم الألم."
وها هو وطننا، رغم الندوب، يزهر في كل ربيع، شاهدًا على عظمة أبنائه… قصة لا تنتهي، تبدأ بالألم وتنتهي دائمًا بالأمل.

يتبع..،

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services