624
0
من مآسى الأذان !
دكتور محمد مراح
الآذان شعيرة النداء للعبادة الأولى في الإسلام، تَخَيَّرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بهداية من الله تعالى بعناية بالغة من بين وسائل طُرِحَتْ بين يديه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم. فكانت لطيفة انبثاقه رؤيتين صالحتين من صحابيين كريمين، بَصَم على مشروعيته، فدخل للتداول في النظام الروحي والاجتماعي للمجتمع المسلم عَلَمًا على صفته وميزته .
واختيار المولى تعالى هذا المسلك الروحي الغيبي اللطيف لانبثاق الوسيلة تماهيا مع سرّ أسرار الصلاة من عنوان العبودية الأول لله تعالى، واللوذ به من محب عاشق متذلل بين يديه، تضطرم عواطفه و وجدانه وأشواقه واجتماع كينونته على الاستقامة والطمأنينة والاعتدال والخشوع، وتمازج الجوارح مع كلّ ذلك في مشهد عبادة فريد.
و لعلّ في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم بلالا مؤذنه الرئيس فضلا عن الصوت الندي، والسابقة في الإسلام هدية من الله تعالى ورسوله لِصَابِر الصخرة بأنشودة {أَحَدٌ أَحَدٌ }، ثم اختيار مؤذنه الثاني ابن أم مكتوم ترضية مبتلى صَدّقَ العتاب الرباني لنبيه فيه، مع عجز عن شهود الأثر على المُعَاتَب الطاهر صلى الله علبيه وسلم .
ولعلّ لطيفة اللطائف الخفية في شعيرة الأذان إشاعة الأُنْسِ في نفوس المسلمين والإنشراح في صدورهم ، والشوق للهرع إلى اللقاء في الكتاب الموقوت؛ فكأنما الأذان دفق من الأنوار و نهوض نشيط للإقبال على الصلاة. فهو نوع من تحضير المسلم لها ، بما يليق بمنزلتها . لكلّ هذا وغيره اعتنى الفقهاء ببيان أحكام الأذان، التي سنرتفق بعضها مقاربة لا فتوى .
أول أمر نبوي بالتطبيق :"... إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم ــــــ أي عبد الله بن زيد صاحب الرؤيا ـــــ مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتا منك" فأندى صوتا من معانيه أحسن صوتا.
فحفلت كتب الفقه بمراعاة ذلك في أذانات المؤذنين : جاء في كتاب مواهب الجليل في شرح مختصر خليل للفقيه الماكلي الحطاب قوله :" يُخْتَارُ لِلْأَذَانِ أَصْحَابُ الْأَصْوَاتِ النَّدِيَّةِ الْمُرْتَفِعَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ وَيُكْرَهُ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ غِلْظَةٌ أَوْ فَظَاعَةٌ أَوْ تَكَلُّفُ زِيَادَةٍ، وَلِذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لمؤذن : أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلَّا فَاعْتَزِلْنَا".
لكننا نتلقى يوميا من بعض المآذن ما يرقي إلى وصفه :" مآسى الأذان" ، عَيَنَاتِي في مقالنا هذا من مقاطعة إدارية غرب العاصمة من أعرق وأكبر المقاطعات تجمع بين منطقتين حضاريتين راقيتين، فعلى مدار نحو من ست سنوات سَجَّلْتُ الظواهر والمآسى الآتية الذكر :
1//مُؤَذّن ثاني أكبر مسجد في المقاطعة في قلب المدينة كأنما تندلق ألفاظ الأذان من شدقيه، تلاصق الحروفُ والكلمات أحيانا بعضها ببعض . و عبارة {أشهد أن محمدا رسول الله} ، يُسمع الاسم الشريف منها تارة أن معمدا [ بالعين] و أخرى [مهمدا ] وحي على الصلاة تصير { حي على صلاة} .
وتطور الحال معه مؤخرا أن أخذت الحروف تتداخل مع بعضها؛ فالكاف في { الله أكبر} بهتت حتى تكاد تختفى فتصبح كأنها{ الله أبَّرْ}. ينطلق {الأذان} من فم هذا المؤذن بما يشبه صرخة من يتلوى من الألم أو يتضور من الجوع.
فضلا عن انتهاك النحو في بعض ألفاظه، فينصب { رسولَ } في الشهادتين .وهكذا الأذان مأساة يومية تتكرر من متطوع .
هذا النموذج جمع أكثر مآسى الأذان التي نص عليها الفقهاء ، فقد نص ابن الحاج الفقيه المالكي الشهير في { المدخل } على :" المدخل على أنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ النِّدَاءُ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْهِيمِ أَلْفَاظِهِ لِلسَّامِعِ" .
وفي رواية عن أبي طالب المكي، قوله :" ...فَصَارَ كُلُّ مَنْ خَطَرَ لَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ قَامَ وَأَذَّنَ فِي مَوْضِعِهِ وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَامّ أَنَّهُمْ لَا يُحْسِنُونَ النُّطْقَ بِأَلْفَاظِ الْأَذَانِ فَيَزِيدُونَ فِيهِ وَيَنْقُصُونَ وَيَكْثُرُ التَّخْلِيطُ}.
وقد جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً جاء إليه فقال: يا ابن عمر إني أحبك في الله، فقال له: أما أنا فأبغضك في الله، قال: لِمَ؟ قال: لأنك تلحن { تخطئ} في أذانك وتأخذ عليه أجراً.
2/ آذان الفجر من بعضهم يُعهد لشيوخ يغالبون حكم العمر والشيخوخة في تأدية أصوات مغمغمة لا تكاد تبين .
3// مصيبة المصائب صوت الأذان في أحد المساجد لمؤذن إما أن يكون حسب صوته لا يزال في مرحلة الطفولة والمناغاة أو معاقا إعاقة تطال النطق، يقينا أن أذانه مدعاة لتندر الصبية وربات البيوت .
4/ أكثر المؤذنين يدخلون في سباق مع {الفيمتو ثانية / أصغر وحدة قياس للزمن اكتشفها المصري أحمد زويل صاحب جائزة نوبل في الكيمياء } من يحقق رقما قياسيا للتخلص من العبء .
والفقه فيه :" أَنْ يَكُونَ مُتَرَسِّلًا [رسَّل القارئُ قراءتَه/ رسَّل القارئُ في قراءتِه: تمهَّل فيها ورتَّلها دون عَجَلَةٍ ]أَيْ: مُتَمَهِّلًا مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا مَدٍّ مُفْرِطٍ".
وأكاد أجزم أن أذان بعضهم لا يكاد يتجاوز الدقيقة إلا ببضع ثواني .
5/. مؤذن أحد المساجد فجرا وصبحا يرقق لفظ الجلالة { الله } حتى يغدو لفظ الجلالة { الليييييه} !!!
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ:لمؤذن : أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلَّا فَاعْتَزِلْنَا. وفي مواهب الجليل شرح خليل للحطاب قوله:" لَا يَنْبَغِي إمَالَةُ حُرُوفِهِ وَالتَّغَنِّي فِيهِ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُحْدَرًا [حدَرَ القراءةَ والأَذانَ والإِقامةَ : أَسْرَع ]مُعْلَنًا يُرْفَعُ بِهِ الصَّوْتُ .
6/ بعض المؤذنين ينطق أحرف الأذان على سجية حديثه في حياته اليومية، فتقع منه محضورات كثيرة فيه، وقد نبه الفقهاء بدقة بالغة إليها، و كثير منها يقع من هؤلاء المؤذنين : من أهمها ما ورد في المواهب :" فِي بَيَانِ أُمُورٍ يَغْلَطُ فِيهَا الْمُؤَذِّنُونَ مِنْهَا:
ــــ مَدُّ الْبَاءِ مِنْ " أَكْبَرُ " فَيَصِيرُ جَمْعَ كَبَرٍ بِفَتْحِ ال ْبَاءِ، وَهُوَ الطَّبْلُ فَيَخْرُجُ إلَى مَعْنَى الْكُفْرِ،
ــــ وَمِنْهَا: الْمَدُّ فِي أَوَّلِ " أَشْهَدُ " فَيَخْرُجُ إلَى حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا إنْشَائِيًّا، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُونَ فِي أَوَّلِ الْجَلَالَةِ.
ـــ وَمِنْهَا الْوَقْفُ عَلَى " لَا إلَهَ وَهُوَ كُفْرٌ .
ـــــ وَمِنْهَا: أَنَّ بَعْضَهُمْ لَا يُدْغِمُ تَنْوِينَ مُحَمَّدًا فِي الرَّاءِ بَعْدَهَا، وَهُوَ لَحْنٌ {خطأ في اللغة}خَفِيٌّ عِنْدَ الْقُرَّاءِ.
ــــ وَمِنْهَا: أَنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَنْطِقُ بِالْهَاءِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " وَلَا بِالْحَاءِ مِنْ " حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " فَيَخْرُجُ {فتصير } إلَى الدُّعَاءِ إلَى " صَلَا النَّارِ " فِي الْأَوَّلِ وَإِلَى " الْفَلَا " فِي الثَّانِي وَالْفَلَا: جَمْعُ فَلَاةٍ، وَهِيَ الْمَفَازَةُ {المكان القفر}.
لقد ندر الأذان الذي ألفناه في مختلف ربوع الوطن، وأذان كبار القراء الذي كان يُرفع عبر المآذن باستخدام الأسطونات المُسَجَّل عليها، كأذان الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الذي يجسد قول الفقهاء أروع تجسيد :" النُّفُوسُ تَخْشَعُ لِلصَّوْتِ الْحَسَنِ كَمَا تَخْشَعُ لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ". ومع هذا الحمد لله فإنّ كثيرا من مساجدنا لا تزال تحظى بمؤذنين مُتقنين حَسَنِي الأصوات .
نقترح للتعامل مع هذه المآسى والمخالفات واللامبالاة ما يأتي ذكره :
1. الرقابة : من خلال زيارات تفتيش ومعاينة و توجيه، تنفذها مديريات الشؤون الدينية. وجلال المهمة يستدعى التفكير في تطوير هذه المهمة على نحو مجدي ومثمر ، لهذا أقترح :
أ ـــ أن تتكون اللجان من إدرايين وأئمة أساتذة وعضوية مندوبين عن اللجان الدينية للمساجد، ومتطوعين من رواد المساجد المُتَّصِفين بالحكمة والعلم والاحترام .
بـــــــ إنشاء اتفاقيات تعاون بين مديريات الشؤون الدينية لتبادل الخبرات والتفتيش بين الولايات.
2. بعث وتطوير أنظمة إلكترونية رقمية للمساجد، تُمَكِّن المصلين وجيران المساجد من المشاركة في استبانات الرضى عن أداء المؤذنين . والتشجيع على ثقافة التبليغ .
3. إعتماد التقييمات المستمرة في الترقية الوظيفية .
4. اعتماد شروط لجان توظيف المؤذنين وفق المعايير التي ينص عليها المذهب المالكي، والمذهب الإباضي . و شروط لجان مسابقات التوظيف من بينها علماء القراءات و أساتذة موسيقى متخصصين في المقامات .
5. إنشاء أكاديميات ومعاهد إعداد وتدريب المؤذنين تأسيا واستفادة من نماذج راقية : فقد أنشات بعض الدول العربية الإسلامية أكاديميات ومعاهد لتدريب المؤذنين من بينها ؛ أ ــــ السعودية : استحدثت الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، إدارة أكاديمية التدريب على الأذان وتأهيل المؤذنين. يقوم عليها نخبة من أهل العلم لبيان الأحكام الفقهية، وكوكبة من مؤذني المسجد الحرام للتدريب على الأذان وتجويده وتأهيل المؤذنين، والعمل على نشر العلم الشرعي المختص بفقه الأذان، وحلية المؤذن، وتحسين الأداء وتطويره.
بـــــ البحرين : بدء خطتها لرفع كفاءة أداء المؤذنين على مدار العام، من عناية مجلس الأوقاف السنية بشعيرة الأذان، وتجويده وتطوير كادر مميز من المؤذنين، لأداء هذه الشعيرة بأداء متميز، وفق الأحكام الشرعية .
يقوم البرنامج التدريبي على محورين أساسين، الأول (عملي) وهو تحسين أداء الصوتي والمحور الثاني (نظري) وهو أحكام الأذان وأخطاء المؤذنين، وتضم لجنة المدربين نخبة من المشايخ البحرينيين المتقنين للعلوم الشرعية والمختصين في مجال الأداء الصوتي، ويهدف البرنامج التدريبي إلى تصحيح مخارج الحروف وحسن الأداء الصوتي و جماليته. "الأوقاف السنية: بدء المرحلة الأولى لتدريب وتأهيل المؤذنين"، https://akhbar-alkhaleej.com › e07/08/2023
جـــ تونس : استعانت السلطات الدينية في تونس بتدريبات موجهة إلى المؤذنين من أجل تطوير قدراتهم الصوتية عند أداء ورفع الأذان، بالاستعانة بـ"معهد الرشيدية" وهو أعرق المعاهد الموسيقية في تونس، لتدريب الأئمة والمؤذنين في عام 2018، وذلك بعد سنوات من الانتقادات التي يواجهها المؤذنون حول أصواتهم." تونس تطلق تدريبات لمؤذنيها لتطوير قدراتهم الصوتيةhttps://www.independentarabia.com 26/03/2024
د ـــ تركيا :عنايتها بالأذان وإعداد المؤذنين فريدة في نوعها : إذ أنشات مؤسسة تدريس الأذان، نجحت في تحويله إلى علم يدرس ومنصب يفتخر به أصحابه، فهيئة الشؤون الدينية تشترط مجموعة من التعليمات على من يريد أن يكون مؤذنًا، ومنها: التحاقه بمدرسة الأئمة والخطباء، وأن يكون متخرجًا من الثانوية ولديه صوت جميل ومرونة، والأهم من ذلك، أن يكون حافظَا للقرآن الكريم كاملًا، ومخارج حروفه سليمة ودقيقة، وعند اكتمال هذه المتطلبات، يجرى امتحانًا لتقييم القدرات، خاصة لمن يجري تعيينهم في المساجد المزدحمة والتي تحمل أهمية تاريخية كبيرة مثل مسجد السلطان أحمد والسليمانية والفاتح.
كما أسست مدرسة “الحفاظ الأنديرون” التي تختص بتدريس المقامات الموسيقية المستخدمة في قراءة القرآن والأذان، إذ تعد هذه المقامات مذهبًا عثمانيًا خالصًا، ويصل عدد المقامات المستخدمة إلى خمسة عشر مقاما، ولكل أذان مقامه الخاص، فمثلًا يستخدم:
أذان الفجر مقام الصبا في لتميزه بالهدوء وما يتركه من خشوع لدى السامع، أما وقت أذان صلاة الظهر مقام البيات أو العشاق، لإيقاعه السريع والحركي الذي يوافق حركة الناس في الأسواق وأعمالهم، وحين يأتي وقت العصر، مقام الراست هو الأنسب لوقاره وفخامته ولنغمة البهجة والسرور التي تطلقها إيقاعاته، ويطلق عليه أبو المقامات، أما أذان المغرب فيتماشى مع مقام السيكا الذي يتناسب مع مدة فترة المغرب القصيرة والسريعة، وأخيرًا يرفع أذان العشاء على مقام الحجاز لهدوء نغمته والذي يتوافق مع سكون الليل، فيخفف عن الناس تعبهم وارهاقهم طوال اليوم. وتتسم جميع المقامات بالوقار والرصانة والتي استخدمت أيضًا في إيران والمملكة السعودية ومصر . "كيف تحول الأذان إلى علم يدرّس في تركيا؟ https://www.noonpost.com 19/1/2018 حقا :" النُّفُوسُ تَخْشَعُ لِلصَّوْتِ الْحَسَنِ كَمَا تَخْشَعُ لِلْوَجْهِ ا.لْحَسَنِ"