27

0

من أعلام المقاومة الثقافية ...الشيخ أبو القاسم الحفناوي

 يعد أبو القاسم محمد الحفناوي، مثالاً بارزًا للفئة المثقفة التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في تلك الفترة الحرجة التي عاشتها الجزائر نتيجة للسياسات الاستعمارية الفرنسية, التي حاولت تقويض الهوية الثقافية والتعليمية للجزائريين، حيث جعلت الكثيرين يتجنبون التفكير في العلم والتعليم بسبب القيود والمضايقات، مما أدى إلى هجرة العديد من الطلبة والعلماء الجزائريين إلى بلدان المشرق العربي، بحثًا عن بيئة تعليمية وثقافية أكثر دعمًا.

إعداد شروق طالب 

إلا ان هذا لم يمنع من ظهور فئة من المثقفين الذين قرروا البقاء في الجزائر ومواجهة التحديات، هؤلاء أخذوا على عاتقهم مهمة الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية للجزائر, وكذا مقاومة محاولات الاستعمار لطمسها، والشيخ أبو القاسم الحفناوي كان واحدًا من هذه الشخصيات الرائدة بتصميمه وجهوده، حيث عمل على تعزيز الثقافة والتعليم في الجزائر، في الوقت نفسه محافظًا على التراث الثقافي والديني في وجه الظروف الصعبة التي فرضها الاستعمار.

مولد ونشأة أبو القاسم الحفناوي 

ولد أبو القاسم محمد الحفناوي بن الشيخ بن أبي القاسم بتاريخ 1266هـ / 1850م حسب تلميذه عبد الرحمن الجيلالي ومحمود كحول, كما تشير بعض المصادر بتاريخ 1269هـ / 1852م، وتوفي بتاريخ 10 جانفي 1942م بقرية الديس. 

ينحدر أبو القاسم محمد الحفناوي من أسرة علمية عريقة، إذ يعود نسبه إلى سيدي إبراهيم الغول، وليّ مدينة بوسعادة والمدفون بها، والده هو الشيخ بن أبي القاسم، المعروف بلقب ابن عروس بن الصغير، واشتهر بلقب الهاملي نسبة إلى تدريسه في زاوية الهامل.

 أما والدته فهي خديجة بنت محمد المازري الديسي، وتنتمي أيضًا إلى أسرة علم ومعرفة، وقد ذكر الباحث قوفيون أن للحفناوي أخًا أصغر يُدعى المدني، بقي إلى جانب والده في قرية الديس، وله مؤلف طُبع في مطبعة فونتانا سنة 1913 بعنوان: "تدبير صحة الأبدان في السفر وزيارة البلدان"، أما عن عائلته الصغيرة، فقد أنجب الحفناوي ثلاث بنات، وابنًا وحيدًا هو عبد الرحمن، الذي تخرج من المدرسة العليا للحقوق.

 

تكوينه التعليمي 

تعد زاوية الهامل التي كانت تحرص على التكوين العلمي ونشر الطريقة الرحمانية منطلق تكوين الحفناوي، حيث حفظ القرآن الكريم على يد والده الذي كان من أعيان علماء الهامل، فكان يدرس النحو والصرف والتوحيد والمنطق والفقه والحساب وعلوم البلاغة والعروض، لينتقل بعد ذلك إلى زاوية سيدي علي بن عمور في طولقة ببسكرة، مكث فيها أربع سنين أخذ خلالها العلم عن تلميذ والده الشيخ الحفناوي بن علي بن عمر، ثم انتقل إلى زاوية الشيخ بن أبي داود بتاسليت بأقبو.

وبعد ذلك عاد إلى زاوية الهامل ليتعلم تفسير الحديث عن مؤسسها، كما سافر إلى نفطة بتونس ليتم دراسته على يد الشيخ علي بن سيدي المكي بن عزوز ،ثم ارتحل إلى العاصمة سنة 1300هـ/ 1883م عله يجد جوابا لاستفهاماته حول كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" لحاجي خليفة، وحول مقدمة عبد الرحمان بن خلدون في مدينة الجزائر، وفي هذه المرحلة تحول الحفناوي من متعلم إلى معلم، في نفس الوقت واصل تكوينه الثقافي والعلمي وذلك عن طريق احتكاكه بفئة العلماء أو بعمله في الصحافة.

 

أهم المناصب التي شغلها

في سنة 1301هـ / 1884م، دخل الشيخ أبو القاسم الحفناوي مجال الوظيفة العمومية من بوابة العمل الصحفي، حين استدعته الولاية العامة،  ليُعين محررًا في جريدة المبشر، خلفًا للشيخ محمد أحمد البدوي، وهذا التكليف دفعه إلى تعلم اللغة الفرنسية، فدرسها على يد المستشرق أرنو، رئيس المترجمين بالإدارة الاستعمارية، وظل ملازمًا له طيلة اثنين وأربعين عامًا، من 1884 إلى 1926.

 

استمر الحفناوي في الكتابة بجريدة المبشر إلى أن توقفت عن الصدور سنة 1927، بعد دمجها مع النشرة الرسمية الجزائرية، وهو ما شكّل نهاية مسيرته الصحفية الرسمية، وخلال عمله برز ككاتب ومترجم، حيث لم يكن يخرج لتغطية الأخبار ميدانيًا، بل اكتفى بترجمة التقارير الفرنسية التي كانت ترده من الإدارة، مثل التقرير الذي أرسله قائد عسكري من السنغال يروي فيه تفاصيل رحلة نهرية لضابط فرنسي نحو تمبوكتو بمالي.

لم تقتصر كتاباته على الأخبار السياسية والعسكرية، بل اهتم أيضًا بالعلوم، حيث أشاد في مقالاته بإنجازات مثل اكتشاف دواء داء الكلب على يد باستور (Pasteur)، هذا وكتب مقالات علمية بأسلوب مبسّط، منها مقال بعنوان "شأن الكلب لدى أطباء العرب"، حيث أبرز فيها مساهمات العرب في الطب.

ورغم نشاطه، فقد كان الحفناوي خاضعًا لرقابة الولاية العامة، مما جعله يتفادى الخوض في قضايا سياسية مباشرة، وهو ما دفع البعض، مثل الزبير سيف الإسلام، إلى وصفه بـ"الوطني ضد الوطنية"، ومع ذلك كتب أيضًا في جريدة كوكب إفريقيا، وواصل تقديم محتوى ثقافي علمي يهدف إلى تثقيف القارئ الجزائري في حدود ما سمحت به السلطات الاستعمارية.

كما زاول الحفناوي مهنة التدريس سنة 1313هـ / 1897م، بالجامع الكبير حيث قام بتدريس الشريعة الإسلامية والآداب، والفقه والتوحيد والنحو والصرف والحديث واللغة والمنطق والفلك والحساب، ويشهد على ذلك إحدى تلامذته في هذا الجامع وهو عبد الرحمن الجيلالي. 

في عام 1936 (1355هـ)، تولى الشيخ الحفناوي منصب الإفتاء على المذهب المالكي في الجامع الكبير بالعاصمة الجزائرية، وهو منصب رفيع اعتبره تكليفاً علمياً ودينياً مهماً. تميز الحفناوي بسعة علمه في الدين وإلمامه بعلوم العصر، ما جعل معاصريه يرونه جديراً بهذا المنصب.

 وقد نُشرت قصيدة تهنئة له كتبها الشيخ حسين بن أحمد البوزيدي، أحد علماء الأزهر، في صحيفة "النجاح القسنطينية" بتاريخ 10 يوليو 1925، وأعاد نشرها المؤرخ عبد الرحمن الجيلالي في كتابه "تاريخ الجزائر العام". 

ويُعرف عن الحفناوي شغفه بالعلوم الحديثة كالفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات، وقد دفعه هذا الاهتمام إلى السفر إلى فرنسا، حيث التقى أثناء عودته بالإمام محمد عبده على متن الباخرة نفسها المتجهة إلى الجزائر صيف عام 1903.

 

كتاب "تعريف الخلف برجال السلف"

تعريف الخلف برجال السلف الصالح" هو عمل موسوعي ألفه الشيخ الحفناوي بن حسن السيالي، ويُعد من أبرز المراجع التراجمية في تاريخ الجزائر الديني والعلمي. صدر الكتاب في مجلدين، وجمع فيه المؤلف تراجم مفصلة لعشرات العلماء والفقهاء والصلحاء والمتصوفة الذين نشطوا في الجزائر، خصوصًا خلال العهد العثماني ومطلع الحقبة الاستعمارية، مع تركيز واضح على علماء المنطقة الوسطى من البلاد.

الكتاب لا يكتفي بسرد الأسماء أو ذكر المناصب، بل يُقدم تراجم دقيقة تحتوي على نسب الشخصية، تاريخ ميلادها ووفاتها، شيوخها وتلاميذها، مؤلفاتها، ومواقفها الإصلاحية أو العلمية، إلى جانب إشارات إلى الطرق الصوفية التي انتمى إليها بعضهم، والمجالس العلمية التي حضروها أو أنشؤوها، حيث يبرز الحفناوي في عمله حسّه التوثيقي، مستندًا إلى مخطوطات نادرة، ووثائق، وشهادات شفوية، مما يجعل الكتاب ذا قيمة تاريخية عالية.

كما أن الكتاب يعكس رؤية الحفناوي التجديدية، حيث لم يكن الهدف فقط التأريخ للأشخاص، بل أيضًا تقديم نماذج يُحتذى بها في العلم والأخلاق والوطنية، لذلك جاء العنوان معبرًا: "تعريف الخلف برجال السلف الصالح"، كرسالة موجهة للأجيال اللاحقة لتحيي الذاكرة العلمية والدينية، وتستلهم منها في ظل التحديات الحديثة.

أسلوب الحفناوي في هذا المؤلف يتميز بالدقة والاعتدال، بعيدًا عن المبالغة أو التمجيد غير المبرر، مما يُكسبه مصداقية كبيرة لدى الباحثين في تاريخ الجزائر الثقافي والديني.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services