793
1
مالك ابن نبي ..مهندس الحضارة الذي أحيا أمما بأفكاره
فيلسوف الحضارة، شاهد القرن ومهندس النهضة.. ألقاب عرف بها المفكر الجزائري " مالك ابن نبي" الذي وَلَعَ منذ الصِغر بتاريخ الأمة العربية الإسلامية المزدهرة، فآلمه كثيرا رؤية واقعها المتراجع الذي لم يأبه قطْ بعظمَة ماضيها، مما جعل أفكاره تسبق عصره بكثير، فراح يتطلع لمستقبل مختلف يكون فيه للمسلمين بصمتهم القوية في العالم، مسخرا كل جهوده وفكره خدمة لتحقيق هذا المبتغى.
منال بن ثليجان
مالك ابن نبي هو أحد أعلام الفكر الإسلامي ورواد النهضة الإسلامية في القرن العشرين، ومن أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبهُوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة، فكان أوائل من حاولوا تحديد أبعاد المشكلة والعناصر الأساسية في الإصلاح بل كذلك أول من أودع مَنْهجًا جديدا في البحث عن مشكلة المسلمين مستندا على علم النفس والاجتماع والتاريخ.
ولاجْتِهاده وفِطنته لُقِبَ بخليفة ابن خلدون خصوصًا وأن فِكْرَهُ امتدادٌ لفِكْرِ هذا الأخير.
طفولته وبداياته:
بُشِرت مدينة الجسور المعلقة "قسنطينة" يوم 28 جانفي 1905 بميلاد طفل سيختلف عن أقرانه، وسيغدو شخصية مُلهِمةً تُثقِل كفةَ ميزان الفكر الجزائري بل والعربي الإسلامي.
ولد " مالك ابن نبي" في عائلة فقيرة وتربى في سنوات حياته الأولى عند عمه نيابة عن أبويه، وسرعان ما توفي عمه أعادته زوجة عمه إلى أبويه، اللذين ارتحلا به إلى مدينة تبسة سنة 1912م ليقيما عند أخوال أمه.
ولكن ظلت الظروف المادية الصعبة تثقل كاهل والديه، هذا ما شكل جزءا مهما من شخصية مالك الذي عَرفَ معنى الحرمان في عمر مبكرِ، إلا أنه عَرفَ أيضا معنى التضحية فقد باعت والدته السرير الذي تنام عليه لتدفع أجرة تعليم ابنها.
تلقى تعليمه الأولي في كتاب بلدة تبسة طيلة أربع سنوات، حفظ خلالها عدة أجزاء من القرآن الكريم، والتحق بالمدرسة الفرنسية أثناءها، لينقطع بعدها عن الكتاب، مع احتفاظه بالتردد على المسجد
ولما أتم المرحلة الابتدائية ونجح في نيل شهادة التعليم الابتدائي، انتقل إلى قسنطينة ليواصل دراسته هناك، ليحدث فيها المنعرَجُ الذي غير طريقه في الحياة.
فقد تأثر كثيرا حينها بالعلامة عبد الحميد ابن باديس واكتسب منه الحماس والشجاعة وحب الإقدام، وبأعلام النهضة الجزائرية العربية الإسلامية الحديثة أمثال الشيخ المولود بن الموهوب، والشيخ محمد بن العابد اللذين اكتسب منهما أسس العلم الشرعي ونمى ثقافته الإسلامية.
لم يكتفي مالك بتلقي المعلومات من هؤلاء المؤثرين من حوله بل
كان مهتما بالبحث أكثر والتعمق بنفسه للتعرف على المواضيع المختلفة التي تشغل اهتمامه كالقراءة في الأدب العربي القديم، وفي كثير من كتب التفسير، إضافةً إلى اطلاعه على أدب المهجر والأدب الفرنسي.
ولعل أكثر ما صقل ذهنه المتوقد وفكره الناقد كتاب "الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق" لأحمد رضا، وكتاب "رسالة التوحيد" للشيخ محمد عبده.
مرت السنوات وكان مالك ابن نبي يكبر معها ويكبر حبه للعلم والفكر والتفكير العميق، وكيف لا وهو صاحب مقولة" عندما تغرب الفكرة.. يبزغ الصنم"، والقساوة التي رآها من حوله عن وحشية المستعمر الفرنسي ضد الشعب الجزائري، زادت من فضوله وشغفه للبحث عن أسباب ضعف وتقهقر العالم الإسلامي وكانت حافزا قويا له حولت مساره العلمي إلى محاولة إيجاد حلول تعيد الأمة الإسلامية إلى سابق عهدها.
فهاجر إلى فرنسا وعزم على أن يسجل نفسه بمعهد الدراسات الشرقية ولكن قوبل طلبه بالرفض، ورغم هذا لم يترك للاستسلام مجالا لاختراقه وتشتيته بل اتجه إلى مدرسة الكهرباء والميكانيك سنة 1935,حيث ساهم في تشكيل أسلوب مختلف لنزعته الفكرية الفريدة.
وخلال اتصاله باتحاد الشباب المسيحي الذي حاول عبره التعرف على الحضارة الغربية, تعرف على زوجته الفرنسية التي أسلمت، وقد كان لها أثر كبير في تكوينه الفكري فقد شجعته وشدت عزيمته طيلة رحلة حياتهما معا, وقبل أن يتوفاه الله في أكتوبر 1973 ,واساها قائلا:" سأعود بعد ثلاثين سنة" فكيف هذا يا ترى؟.
فكره ونشاطه:
كان الاستعمار الفرنسي يضغط على مالك من خلال سجنه وعرقلة نشاطه وحرمانه من تسليم شهاداته الجامعية, فخطط للهجرة إلى الشرق, ليكون الحج أول اتصال له مع العالم الإسلامي، ثم تعمق أكثر عندما ذهب لمصر سنة 1956.
وخلال هذه الفترة تعرف على شخصيات فكرية جمعته بها اهتمامات مشتركة أمثال أحمد شاكر وأحمد راتب النفاخ.
فتح ابن نبي بيته للطلبة المسلمين من مختلف الجنسيات وكان ينظم ندوات فكرية أسبوعية يطرح فيها أفكاره ويفتح باب النقاش.
وبعد استقلال الجزائر في الفاتح من جويلية 1962 , غادر القاهرة إلى طرابلس ليعود منها إلى أرض الوطن من جديد، أين استضافه
الرئيس أحمد بن بلة سنة 1963 ورحب به، ثم شغل مناصب مختلفة من بينها مديرا للتعليم العالي، ولكن من جهة أخرى واجه التهميش خلال أكثر من مناسبة فانعزل عن العالم وأشغل نفسه بالكتابة والتأليف وصياغة أفكاره.
وهنا أدرك مالك ابن نبي أكثر أن الخلل الأساسي في العالم الإسلامي إنما هو في عالم الأفكار التي قسمها إلى ميتة وقاتلة، وتحول الشعوب المسلمة إلى مجرد مستهلك لمنتجات الغرب. يقول:" لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من أشياء بل بمقدار ما فيه من أفكار" ، فالفكرة هي سر نجاح أي مشروع ومشروع ابن نبي كانت فكرته ذات البعد المستقبلي والتي تعتبر رهانا يتوجب على الأمة الإسلامية محاولة الفوز به, وهو مشروع نهضوي مميز.
وقد وظف جانبا مما درس في مدرسة الكهرباء والميكانيك في تعريفه لمكونات الحضارة من خلال معادلة تمثلت في:
الحضارة= الإنسان + التراب+ الوقت.
وهذه العناصر لا تتفاعل تلقائيا بل تقتضي تدخل مركب محدد ومن دونه لا تتم أبدا, وهو " الفكرة الدينية" ، التي رافقت دوما تركيب الحضارة عبر التاريخ، ليركز أكثر على شمولية الدين الإسلامي وكيف يمكن أن تبنى عليه هذه العوامل،وفي المقابل تحدث عن الفوضى التي يعيشها المسلمون ضمن العوامل الداخلية التي أدت
إلى مرض العالم الإسلامي وجموده تحت فكرة القابلية للاستعمار
الذي يعد هو الآخر من بين العوامل الخارجية.
كان يؤمن بضرورة تأسيس المسلمين لمشرق جديد على أنقاض حضارة مثقلة بالاستعمار، مما يجذب أعين العالم ويجعلهم يصفقون لإنجازاتهم.
وقد طرح المفكر ابن نبي نظرية أخرى أسماها " الإفريقية الآسيوية" كأساس للخروج من القابلية للاستعمار عبر إنهائه ضمن محور "طنجةـ جاكرتا" ينطلق من القواسم المشتركة بين الشعوب المتعايشة في هذه المنطقة.، وكان يطمح لأن يعطى للإسلام دورا عالميا وصولا إلى فكرة " كومنولوث إسلامي" يكون فاعلا على الساحة الدولية.
وأما عن الصراع العربي الصهيوني الذي كان في بداياته يومها،
فاعتبر أن القضية الفلسطينية قد أيقظت الوعي العام من خدره
قال في هذا الصدد:" قضية فلسطين هي المحور التاريخي الذي أخذ العالم الإسلامي يدور حوله باحثا عن اتجاه إيجابي جديد"
كتبه ومؤلفاته:
لا تكاد تخلوا اليوم مكتبة أي مثقف عربي أو مسلم من أحد كتب
أو مقالات الفيلسوف والناقد والمجاهد الجزائري مالك ابن نبي
وهو الذي أصدر على امتداد رحلته الفكرية العديد من المؤلفات ليضل حيا من خلال كلماته وأفكاره المرسخة فيها, مجملها اهتمت
بالحضارة في أبعادها المختلفة مثل "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة" ، وأول كتبه كان " الظاهرة القرآنية " الذي صدر سنة 1946، كذلك كتاب " مشكلات الحضارة" لقَ اهتماما كبيرا، ومذكرات شاهد القرن، ... وغيرها الكثير, فهناك ما يزيد عن 30 كتاب، تنوعت مضامينهم بين الفكر والسياسة، الفلسفة والتاريخ، ومنها ما طُبع بعد وفاته.
ولعل آخر كلمات مهندس النهضة " مالك ابن نبي" كانت على فراش الموت، فكتب: "أنا فرِحٌ باستقبال الموت لأنني سألقي عن كاهلي عبئ 40 سنة وما يقلقني سوى ثلاث بنات صغيرات"، لكن مالك ابن نبي فكرة والفكرة لا تموت فقد تبنت بعض الدول ذات الأغلبية الإسلامية أفكاره ومع انطلاق الربيع العربي وجد العديد من الشباب في فكره وأطروحته ضالتهم, وقد عاد للواجهة أيضا خلال الحراك الشعبي في الجزائر سنة 2019 فتردد صدى اسمه في المظاهرات الشعبية وعادت أقواله تدرس للجيل الحالي، لعله يأخذ منه هذه اللهفة والغيرة على الدين والوطن والوحدة العربية الإسلامية فابن مدينة العلم العلماء "قسنطينة" عاش وهو يحلم بالتغيير واستعادة الأمة الإسلامية مجدها ومات وهو لا يدري متى يستعيد المسلمون حضارتهم المفقودة.