الحاج بن معمر
اليوم، الثامن من أيار/مايو 2025، وفي جناحٍ هادئٍ بأحد مستشفيات القاهرة، أغمض معتصم رداد عينيه للمرة الأخيرة، ليكتب بجسده قصيدة وداعٍ لا تُقرأ بالحبر، بل بوجع الأمعاء التي اقتطع الاحتلال أكثر من ستين في المئة منها قبل سبعة عشر عامًا.
ابن بلدة صيدا، شمال طولكرم، عاش نصف عمره خلف قضبانٍ لا تعرف الرحمة؛ اعتقلته قوات الاحتلال عام 2006 وألقت عليه حكمًا بصرامة الحجر: عشرون عامًا كاملة.
هناك، بين زنازينٍ تقتات على صحة أسرى يتناقصون مثل ظلال المساء، أصيب بسرطانٍ شرس في الأمعاء عام 2008؛ نزيفٌ مستمر، فقر دمٍ مزمن، هشاشةٌ تنهش العظام، وأعصابٌ ترتجف في صمت، بينما يبتلع يوميًا ما يزيد على ستين حبة دواء كأنها حروف قصيدةٍ طويلة لا تنتهي.
في ربيع 2024 تضاعف الألم: التهابات حادة، هبوطٌ خطير في الدم، نوبات إغماء، وضيق تنفس يلسع صدره مع كل شهيق، ومع ذلك ظل يقاوم، يزرع في ذاكرة رفاقه قناديل أملٍ تُضاء كلما خبا الضوء تحت سقف الزنزانة.
ولما هبَّ «طوفان الأحرار» في مطلع هذا العام، خرج معتصم إلى شمس الحرية التي لطالما رسمها على جدارٍ باردٍ بطرف إسبِعٍ ناحل؛ لكن جسده المُنهَك كان قد ركض أكثر مما يحتمل.
نُقل إلى القاهرة لتلقي العلاج، وفي الغربة اختلط وجع الجسد بمرارة المنفى، فهناك لا يسمع المرء صدى خطوات أمه وهي تصعد الدرج، ولا يشم رائحة قهوة أبيه عند الفجر.
صباح هذا الخميس توقفت رحلته، مات الأسير المحرر واقفًا في ذاكرة شعبه، تاركًا خلفه عشرين عامًا من الحكايات المتعبة، وجسدًا صار خرائط جراحٍ تروي ما فعله الإهمال الطبي الممنهج.
غابت نبضاته، لكن صوته سيظل يهتف في ساحات المدن والمخيمات: لا تغفلوا عن قضية الأسرى المرضى، ولا تسمحوا للسرطان أن يصير حارسًا إضافيًا على أبواب زنزاناتهمن رحل معتصم، لكن صوته يتردد في صدر الوطن: الحرية ليست ترفًا؛ إنها شريان الحياة، وإن تأخرت تأتي مُثقَلة بثمنٍ جسيم.